أية انعكاسات لانسحاب واشنطن من معاهدة "الأجواء المفتوحة"؟

انسحاب الولايات المتحدة من اتفاقية الأجواء المفتوحة يُبرز إلى الواجهة ضرورات أمنية إضافية لدى كلٍ من واشنطن، وموسكو وبروكسل. مخاطر جديدة تُضاف إلى سابقاتها وتُصيب جهود بناء الثقة بين القوى الكُبرى في الصميم. فكيف ستتأثّر كل واحدة من هذه القوى بالقرار الأميركي؟

  • أية انعكاسات لانسحاب واشنطن من معاهدة "الأجواء المفتوحة"؟
    اتفاقية "الأجواء المفتوحة" تسمح بتنفيذ عدد مُحدّد من الرحلات الاستطلاعية  

انسحابٌ أميركي جديد من معاهدة دولية. خبرٌ لم يعد غريباً على مُتابعي النَسَق الأميركي المُرتبط بإدارة الرئيس دونالد ترامب وأسلوبه تجاه العلاقات الخارجية، وقضايا الأمن القومي. المعاهدة هذه المرة لم تكن سوى اتفاقية "الأجواء المفتوحة" المُبرَمة مع روسيا و32 دولة أغلبها منضوية في حلف شمال الأطلسي "الناتو" (بالإضافة إلى قرغيزيا التي وقّعت الاتفاقية ولم تصادق عليها)، والتي أعلن ترامب قرار انسحاب بلاده منها في 21 أيار/مايو، وقد مرّ على توقيعها 18 عاماً، لتُضاف إلى معاهدتين أخريين قرّر ترامب الانسحاب منهما منذ استلامه مقاليد الحُكم في عام 2016 (انسحب ترامب من الاتفاق النووي الذي أبرم مع إيران في 2015، ومن معاهدة الصواريخ النووية متوسّطة المدى مع روسيا التي تعود إلى 1988). بالإضافة إلى انسحابه من اتفاقية باريس للمناخ، وهي واحدة من الاتفاقيات التي لها أثر حاسم على البيئة العالمية بصورةٍ مباشرة، وعلى الأمن العالمي الذي يتزايد الترابُط بينه وبين قضايا البيئة بشدّة.

ويزيد هذا الانسحاب من مخاطر تفكيك قواعد الأمن المُتّفق عليها بين الولايات المتحدة والقوى الغربية من جهة، وروسيا من جهةٍ ثانية، مع ما يتضمّنه ذلك من تهديدات للأمن الأوروبي بالدرجة الأولى، والأمن العالمي عبر الأطلسي تالياً.

الذريعة الأميركية أرادها ترامب أن تكون على شكل عدم وفاء موسكو بالالتزامات التي تنصّ عليها الاتفاقية، ما يُضفي تهديداً جديداً على حال التزام واشنطن بمعاهدة "ستارت" الجديدة للحد من كمية الصواريخ النووية لدى كلٍ من البلدين. وهذا إن أضيف إلى تصريحات وزير الخارجية الصيني الأخيرة التي تتحدَّث عن نشوب حرب بارِدة بين بلاده والولايات المتحدة، ستكون له مفاعيل ومخاطر أخرى، غير تلك التي تظهر حتى الآن.

فالبيئة الاستراتيجية بين القوى الكُبرى تتحرّك بسرعةٍ، على وَقْع خطواتٍ أحادية الجانب، أغلبها يسبق بها ترامب القوى الأخرى، فتردّ هذه الأخيرة بإجراءاتٍ مُقابلة، الأمر الذي باتت له انعكاساتٌ ملموسة وشديدة على الثقة بقدرة القوى الكبرى على حفظ الأمن الدولي، من باب حفظ العلاقات المُشتركة بينها، فضلاً عن قُدرتها على إدارة نظامٍ عالمي يشكّل ضمانةً أمنية للقوى الأقلّ شأناً.

وتسير هذه الأحداث في مجرى أكثر اتّساعاً يتضمّن أزماتٍ عالمية بالغة الخطورة، ليس أقلّها انتشار فايروس "كوفيد19" وتهديده حياة ملايين البشر، وضربه لقُدرات الدول الاقتصادية، بمُوازاة أزمة مالية عالمية باتت تؤْرِق المُتابعين وقادة الرأي وصانعي السياسة عبر العالم كله.

ما هي اتفاقية الأجواء المفتوحة؟

إن اتفاقية "الأجواء المفتوحة" بين روسيا والولايات المتحدة و32 دولة أخرى، تسمح لجيوش البلدان الموقّعة عليها بتنفيذ عدد مُحدّد من الرحلات الاستطلاعية فوق بلدٍ عضو آخر بعد وقتٍ قصيرٍ من إبلاغه بالأمر (72 ساعة). على أن تتم مشاركة المعلومات التي يتم جمعها من إحدى الدول الأعضاء مع بقية الدول، مثل تحرّكات القوات والتدريبات العسكرية ونشر الصواريخ.

ويمكن لهذه الجيوش من خلال طائراتها مسح الأراضي تحتها، وجمع المعلومات والصوَر للمنشآت والأنشطة العسكرية. وذلك بهدف تمكين الجيوش في هذه البلدان من معرفة معلومات أكثر عن جيوش الدول الأخرى الشريكة في الاتفاقية، الأمر الذي يفترض به أن يُقلّل من احتمالات المواجهة بينها.

لكن هذا الهدف الكامن خلف فكرة الاتفاقية لا يبدو سهل التحقّق. فالدول المُتنافِسة بطبيعة دورها وحجمها واستعداداتها العسكرية، يمكن أن تستخدم مضامين الاتفاقية من أجل الإطلاع على مكامن ضعف الدول الأخرى، وبالتالي التجهّز للإستجابة لها في استعداداتها العسكرية المستقبلية، على قاعدة غياب الثقة المُتزايد بين هذه الدول. فالولايات المتحدة تعتقد بأن روسيا لا تسمح برحلات جوية أميركية، فوق المناطق التي تعتقد واشنطن أن موسكو تنشر فيها أسلحة نووية متوسّطة المدى وقد تشكّل تهديداً لدول الاتحاد الأوروبي. وفي المقابل، تشكو روسيا من الأمر نفسه لدى الولايات المتحدة، فيما تبدو الدول الأوروبية أكثر الأطراف تأثّراً بانعكاسات الخلل في التطبيق، وفجوات الثقة بين العملاقين المُتنافسين تاريخياً في الحرب الباردة السابقة.

ترامب يُريد لعب "الغولف" بهدوء

وفي الوقت الذي تعتبر فيه روسيا أن انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاقية يشكّل ضربةً قاسية للأمن الأوروبي، فإن وزارة الدفاع الأميركية ترى أن روسيا "تنتهك بشكل صارخ ومتواصل التزاماتها" الواردة في الاتفاقية، وأنها تطبّق المعاهدة "بأساليب تساهم في تهديد الولايات المتحدة والحلفاء والشركاء عسكرياً".

وترامب الذي يريد لعب "الغولف" بهدوء، أزعجه تحليق طائرة روسية فوقه أثناء مُمارسة هواياته، بحسب ما أوردته صحيفة "نيويورك تايمز" الأميركية عقب إعلانه عن قراره، حيث تمّت الطلعة الجوية الروسية بموجب الاتفاقية فوق منتجعه للغولف في "بيدمينستر" في نيوجيرسي قبل ثلاث سنوات.

الحزب الديمقراطي الأميركي المستعدّ دائماً لالتقاط هفوات ترامب الاستراتيجية بسرعةٍ يرى في الخطوة الأخيرة "هديةً" للرئيس الروسي فلاديمير بوتين، على أساس أنها تُسهم بإبعاد واشنطن عن حلفائها الأوروبيين، وتدفعهم إلى ضرورة التوافق مع موسكو لضمان أمنهم.

والمعاهدة التي اقترحها لأول مرة الرئيس الأميركي الأسبق دوايت أيزنهاور عام 1955، كان المُراد منها تخفيف توتّرات الحرب الباردة، وبناء قاعدة من الثقة بين قطبيّ العالم آنذاك. لكن توقيعها لم يتم إلا عام 1992 بعد انهيار الاتحاد السوفياتي السابق، لتدخل حيّز التنفيذ في عام 2002.

أهميّة المعاهدة للدول المختلفة

لقد تمّ التوقيع على معاهدة "الأجواء المفتوحة" قبل ظهور تقنية التصوير بالأقمار الصناعية المتقدّمة التي تعدّ حاليًا الوضع المفضّل لجمع المعلومات الاستخبارية. ومع ذلك، توفر طائرات المراقبة معلومات أساسية لايزال يتعذّر جمعها بواسطة أجهزة استشعار الأقمارالصناعية، مثل بيانات التصوير الحراري، كما يوضح تقرير في مجلة "إيكونوميست".

وتبرز استفادة دول الاتحاد الأوروبي من شراكتها الاستراتيجية مع الولايات المتحدة بمعزل عن هذه الاتفاقية، نظراً لأن واشنطن تملك بنية تحتية عسكرية فضائية واسعة النطاق ومتفوقة، الأمر الذي يزيد من حاجة الأوروبيين لبيانات الأقمار الصناعية السرية، والتي سيكون من الصعب الحصول عليها مقارنة بسجلات مراقبة اتفاقية "الأجواء المفتوحة" التي تجب مشاركتها مع جميع الأعضاء الآخرين.

ويمكن أن يؤثر انسحاب روسيا بالمقابل- رداً على الانسحاب الأميركي- سلباً على الأوروبيين، الذين يعتمدون على بيانات الاتفاقية لتتبّع تحرّكات القوات الروسية في منطقة البلطيق. وهذا ما أشار إليه قادة ديمقراطيون كبار حين تحدّثوا عن "هدية ترامب لبوتين" في الرسالة التي وجّهوها إلى بومبيو ووزير الدفاع مارك إسبر.

أما واشنطن نفسها، فقد استفادت من هذه المعاهدة بحسب تقرير "إيكونوميست" بدرجةٍ عالية، حيث قام جيشها بنحو 201 مهمة مراقبة فوق روسيا وحليفتها روسيا البيضاء. بالإضافة إلى طلعات كثيرة فوق أوكرانيا منذ عام 2014 الذي شهد اندلاع النزاع فيها، والذي كان لروسيا وحلفائها الأوكرانيين دور كبير فيه. هذه الاستفادة تبقى حاضرة في بال القادة الأميركيين في المستقبل. فوزير الخارجية مايك بومبيو أكّد عقب إعلان الانسحاب أن بلاده ستعيد النظر في قرارها، إذا أظهرت روسيا عودة إلى الامتثال الكامل لمضامين الاتفاقية.

موقف روسيا

تبدو روسيا مُتحفّظةً بعض الشيء في التعاطي مع القرار الأميركي الجديد. لكن تقديرها لانعكاساته عليها لا بد من أن يأخذ بالحسبان أنه سيلقي بلائمة الأوروبيين على واشنطن، الأمر الذي قد يزيد من الشقاق المُتّسع في الآونة الأخيرة بين القوى الأوروبية الرئيسة وأميركا. خصوصاً وأن الجماعات اليمينية واليسارية في أوروبا تبدو في بحثٍ دائمٍ عن أسباب جديدة تستطيع من خلالها إقناع الرأي العام الأوروبي بضرورة بلورة شخصية أوروبية مستقلّة عن الأميركيين في مختلف الشؤون، بما فيها مسائل الأمن القومي.

ولأن التدابير التي تسمح بها هذه الاتفاقية لم تعد فائقة الأهمية من الناحية الأمنية (بعد تطوّر تقنيات الأقمار الصناعية وبسبب محدودّية الطلعات التي تسمح بها لكل واحدة من الدول الأعضاء)، فإن جانبها المتعلّق ببناء الثقة بات أكثر أهمية من ذي قبل. ومع ذلك فإن مفاعيل الاتفاقية كانت مهمة جداً بالنسبة إلى الأوروبيين خلال الأزمة الأوكرانية. وهذا ما يمكن رؤيته من جانب روسيا على أنه نقطة إيجابية يمكن الاستفادة منها من جرّاء انسحاب واشنطن أحادي الجانب، خصوصاً وأن التطوّر التقني في الأقمار الصناعية بات يشكّل مساراً مهماً من مسارات العمل الحثيث لدى الجيش الروسي وقوى الاستخبارات هناك، الأمر الذي يشير إلى خياراتٍ واسعةٍ من البدائل لدى موسكو عن فوائد البقاء ضمن "الأجواء المفتوحة".

ولطالما رفضت روسيا تزايد القيود على رحلاتها بموجب المعاهدة، والتي تهدف بالأساس إلى الحد من حركتها فوق مناطق النزاعات؛ وبالمقابل فإن الأميركيين وحلفاءهم الأوروبيين يسعون بصورةٍ مُتزايدة إلى تطويق روسيا من خلال توسّع حلف شمال الأطلسي. وفي وقتٍ يشكّك فيه أحد الأطراف في الائتلاف الحاكم في ألمانيا بوجود أسلحة نووية أميركية في أوروبا، فإن تمسّك الأوروبيين بالمعاهدة، بعد انسحاب الولايات المتحدة منها سيدفع بالكرملين إلى الخروج منها أيضاً.

وفي الواقع، حاول العديد من الدول الأوروبية إنقاذ الاتفاقية من خلال معالجة قضايا الامتثال بزيادة نشاط اللجنة الاستشارية للمعاهدة. لكن ذلك لم يفلح في حماية الإطار الذي لا يزالون يرون فيه ضماناً إضافياً لأمنهم الذي تتزايد التهديدات المُحْدِقة فيه، مع تزايُد حدّة المُنافسة بين القوى الكبرى على الأسواق والموارد والتوسّع الجيوسياسي، والنَهم إلى النفوذ والسيطرة العابرة للقارات. وهذه التنافُسية الحادّة لم يبدُ في الآونة الأخيرة أنها تقيم اعتباراً لرأي الأوروبيين بالدرجة المرغوب بها.

ولا يبدو أن هناك أفقاً واضحاً لما يمكن للأوروبيين القيام به لإقناع روسيا بالبقاء في إطار المعاهدة، بعد انسحاب الولايات المتحدة منها. ومع ذلك، فإن محاولاتهم قد تتركّز على التواصل مع روسيا البيضاء لمحاولة إقناعها بالبقاء، كون هذه الأخيرة كانت قد تقدّمت بطلب  للحصول على حصص مستقلّة (عن حصّة روسيا) وفاعلة من الطلعات الجوية التي تتيحها الاتفاقية. فعلى الرغم من عدم قدرة روسيا البيضاء على تقديم الضمانات المُطمئنة للأوروبيين، والتي لا يمكن لأحد غير موسكو أن يقدّمها، لكن باستطاعتها – من وجهة نظر أوروبية- أن تُسهم في إظهار موسكو وحيدةً فيما لو لحقت بالولايات المتحدة وانسحبت من الاتفاقية. وعلى هذا الأساس، تتزايد تعقيدات مواقف الأطراف الثلاثة، أوروبا وروسيا والولايات المتحدة، بعد قرار ترامب هذا. 

وأبعد من ذلك، فإن إضافة هذا الانسحاب إلى سياق الانسحابات السابقة من معاهدات أكثر أهمية، سيفضي إلى تفكّك نظام المعاهدات التي كانت تشكّل حداً أدنى من شبكة أمانٍ تعاقدية بين هذه الأطراف، الأمر الذي سيزيد من تسارُع الانزلاق نحو عالمٍ بلا قيود، سيُسرّع بدوره في تحديد معالم النظام العالمي الجديد، أو قُل حال اللانظام التي دخل العالم في طورها، قبل أن يكتمل رَسْم القواعد الجديدة.