روسيا و"الناتو".. علاقة يحكمها الخوف

كيف ترى موسكو الدور المستمر للناتو بعد الحرب البارِدة؟ وكيف تواجه هذه المخاطر التي تواظِب على الإشارة إليها ليس في تصريحات مسؤوليها فحسب، إنما في وثائقها للأمن القومي أيضاً؟

  • روسيا و"الناتو".. علاقة يحكمها الخوف
    روسيا و"الناتو".. علاقة يحكمها الخوف (أ ف ب).

حلقةٌ جديدة من مسلسل المخاوِف الطويلة بين روسيا وحلف شمال الأطلسي تكشّفت من خلال تصريحٍ لرئيس هيئة الأركان العامة الروسي الجنرال فاليري غراسيموف اعتبر فيه أن "الناتو" يُحضِّر لعملٍ عسكريٍ واسع النطاق من خلال مُناوراته الأخيرة، ودعمها الكرملين عبر الناطق بإسمه ديمتري بيسكوف الذي اتفق مع مضامين الكلام العسكري رفيع المستوى.

وتستند الرؤية الروسية هذه إلى سيناريوهات المُناورات الأخيرة للحلف الغربي من جهة، وإلى وثائق العقيدة العسكرية للحلف التي تعتبر روسيا عدواً من جهةٍ أخرى، بالإضافة إلى التعزيزات العسكرية التي أعلن عنها "الناتو" في أوروبا الشرقية خلال قمّته الأخيرة هذا الشهر. ولكن الكرملين لم يضع هذا التقويم العسكري- الأمني ضمن إطار الموقف السياسي الذي تحاول روسيا دائماً الإشارة فيه إلى خطورة توسّع حلف شمال الأطلسي على الأمن الأوروبي وعلى أمنها القومي بصورةٍ خاصة، بل وضعه في إطار الأبحاث والتحقيقات والمُعطيات التي تمتلكها القوات المُسلّحة الروسية، والمبنية على تقديرٍ تقني بالدرجة الأولى لطبيعة المُناورات التي يُجريها حلف شمال الأطلسي، ودلالاتها التي توضح حجم العدو الذي تتحضَّر لمواجهته.

وقد تعزَّزت المخاوف الروسية من نوايا الحلف من خلال مسيرة هذا الأخير خلال السنوات العشرين الأخيرة بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، وتوسّعه نحو الشرق مُقترباً أكثر من أيّ وقتٍ مضى من الحدود الروسية، كما من خلال ما أعلن عنه الكرملين الشهر الماضي الماضي من أن حال العلاقات بين موسكو وواشنطن لا تبعث على تفاؤل الكرملين.

"الناتو" نحو حدود روسيا

لقد شكّل انهيار الاتحاد السوفياتي السابق ومعه "حلف وارسو" مفصلاً في مسار العلاقات الدولية، واستتبع تغيّرات جيوسياسية كبيرة طبعت العقود التالية لهذا الحدث. لكن هذه التغيّرات لم تشمل تفكيك حلف شمال الأطلسي الذي كان الكيان العسكري الغربي المُوازي لحلف وارسو. وبالتالي فإن أسئلة كُبرى بدأت تُطرَح بعد ذلك عن الهدف من الإبقاء على "الناتو" قائماً، في ظلّ زوال تهديد الحلف المقابل، وتفكّك المنظومة السياسية التي كانت ترعاه.

غير أن "الناتو" لم يستمر فحسب، بل توسّع بدلاً من ذلك، واكتسب مهاماً جديدة لم تكن له في السابق، مع إطلاق الحرب الأميركية على الإرهاب، والتي تمّ حشد القوى الغربية فيها إلى جانب الأميركيين. ومع أن المواقف الأوروبية تباينت حول توسيع الناتو وإعطائه مهاماً جديدة، أو الذهاب نحو بناء ذراعٍ عسكرية أوروبية تحفظ الأمن في القارة وفي شرقها بالأخصّ، فإن عملية التوسعة سارت بزُخم، وسارعت دول الاتحاد السوفياتي السابق إلى الالتحاق بالمنظومة الغربية سياسياً عبر توالي طلبات الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، وعسكرياً عبر الانضمام إلى الحلف. وقد شجّعت المُغريات الاقتصادية والسياسية تلك الدول على إدارة ظهرها لموسكو، والبحث عن صداقة الغرب تحت رعاية واشنطن.

واستمرّت عملية التوسعة بالرغم من الوعد الذي أعطاه الرئيس الأميركي الأسبق جورج بوش الأب لميخائيل غورباتشوف بعدم توسعة حلف شمال الأطلسي نحو الشرق في حال قبوله بتوحيد ألمانيا، ليضمّ الناتو الدول الواحدة تلو الأخرى.

بدءاً من عام 1999 بدأت عملية التوسّع بانضمام بولندا، تشيكيا وهنغاريا. وتبعتها عملية توسّع جديدة عام 2004 بعد حربي أفغانستان والعراق، شملت سبع دول هي: بلغاريا، أستونيا، لاتفيا، ليتوانيا، رومانيا، سلوفاكيا وسلوفينيا. وفي وثبةٍ ثالثةٍ ضمّ "الناتو" كلاً من ألبانيا وكرواتيا عام 2009، ثم مونتينيغرو عام 2017، ومن المُنتظر أن تنضمّ مقدونيا الشمالية في شباط/فبراير المقبل، بعد تذليل العقبات التي واجهها طلبها من قِبَل اليونان بشكلٍ رئيس، لتكون العضو رقم 30 في الحلف.

إن النظر إلى خارطة توزّع الدول المُنضمّة إلى "الناتو" بعد انهيار الاتحاد السوفياتي السابق يظهر الأهميّة الجيواستراتيجيّة لها. فالدول السبع التي انضمّت عام 2004 تمتدّ جغرافيّاً من بحر البلطيق في الشمال، وفي خطٍ مُستقيمٍ نحو الشمال وحتى البحر الأسود.

وتندرج أهميّة هذا الخط الجغرافي، في أنّه وصل إلى أقصى امتداده الجغرافي الأقرب إلى الحدود الروسيّة، ولم يعد هناك من فاصلٍ جغرافي بين مساحة انتشار دول الناتو وروسيا، سوى بلاروسيا، أوكرانيا ومولدافيا، التي ستنضمّ الآن.

وقد عُقِدَت القمّة السبعين للناتو في لندن في الثالث من ديسمبر/كانون الأول الماضي، وسط خلافات بين ألمانيا وفرنسا، فصّلتها صحيفة "نيزافيسيمايا غازيتا" الروسية قُبيل انعقاد القمّة لتؤكّد في مقالٍ بعنوان "الناتو يناقش موته الدماغي" بقلم غينادي بتروف قال فيه إن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون "يدفع باتجاه إصلاح الناتو، ويرى أن الناتو بشكله الحالي غير قادر على مواجهة تحديات الأمن للدول الأعضاء". ويشير فيه إلى مقابلة الرئيس الفرنسي مع صحيفة "إيكونوميست" مطلع تشرين الثاني/نوفمبر الماضي حين قال إن "إعادة تقييم وظائف الناتو بسبب عدم اليقين بشأن الإجراءات الأميركية" وإشارته إلى ما وصفه بـ "الموت الدماغي للناتو".

أما ألمانيا فهي تفضّل تعزيز الحلف بشكله الحالي، ومعارضة استبدال الناتو بحلف تعاون أوروبي، على أساس أن تعزيز الحلف بصورةٍ عامة يُعزِّز أيضاً الشق الأوروبي منه.

كيف تواجه روسيا "الناتو"؟

في مقابل هذا التوجّه الغربي وما يتضمّنه من صِراعاتٍ داخليةٍ وبينيةٍ بين كبار أعضائه، أجرت روسيا العام الماضي أكبر مناورات حربية منذ عام 1981، شارك فيها نحو 300 ألف جندي تحت عنوان "فوستوك 2018"، قالت موسكو يومها إنها تجريها آخذةً بالاعتبار "العدوانية وغير الودّية" تجاهها. وكان لافتاً مشاركة وحدات عسكرية من الصين ومنغوليا في التدريبات التي جرت وسط وشرقي روسيا.

لكن لم يكن حجم المُناورات هو الأهم فيها، بل إقامة وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو مُقارنةً بينها وبين المُناورات السوفياتية التي جرت عام 1981، والتي حاكت هجوماً روسياً على حلف شمال الأطلسي. "سوف تكون المناورات تكراراً في بعض النواحي لمُناورات زاباد-81، ولكن على نطاق أكبر"، هكذا رآها شويغو.

وموسكو التي ترصد حركة "الناتو" وسكناته في محيطها، لا تكتفي بالعراك معه في المجال الغربي لحدودها، بل تنشّط في الوقت ذاته دبلوماسيّتها العسكرية مع الدول المُتضرِّرة منه ومن راعيته الكبرى الولايات المتحدة الأميركية، وذلك وفق اتجاهين يضافان إلى المواجهة سُبُل المواجهة التقليدية التي اعتمدتها معه في السنوات السابقة (الحرب الأمنية المستمرة، والجهود السياسية، وتطوير الصناعات العسكرية...)، وهما: تعزيز العلاقات العسكرية مع دول الشرق، وتطويرٌ شاملٌ للعلاقات مع تركيا، بما يشمل النواحي العسكرية.

في الاتجاه الأول، تنسج موسكو شيئاً فشيئاً علاقات عسكرية استراتيجية مع كلٍ من بكين وطهران، وقد ترجم ذلك في كثير من المحطات، وتشهد الدول الثلاث زياراتٍ مُتبادَلة لكبار القادة العسكريين والأمنيين، ومُشاركاتٍ في معارض ومناسبات عسكرية مُتبادَلة، وكانت آخر مظاهر هذا المسار المُناورات المشتركة بين الدول الثلاث بين 27 و31 ديسمبر/ كانون الأول 2019 في شمال المحيط الهندي، والتي أصابت مجموعة أهداف في حدثٍ واحدٍ، وهي أهداف ترتبط بالتعاون الميداني العسكري، ولا تقف عند حدود حماية مشروعات هذه الدول وفُرَص تعاونها تجارياً وطاقوياً واقتصادياً بصورةٍ عامة.

أما في الاتجاه الآخر، فمنذ استعادة موسكو وأنقرة دفء العلاقات بينهما عقب مُعالجة الأزمة التي أحدثها إسقاط تركيا لمُقاتلةٍ عسكريةٍ روسيةٍ فوق سوريا، والعلاقات في تطوّرٍ مستمر.

وكان من أبرز مظاهر هذا التطوّر على المستوى العسكري تسليم موسكو لأنقرة صواريخ منظومة "أس 400"، والاتفاق على التعاون بين الدولتين لإنتاجها، وهو ما أحدث أزمةً بين أنقرة والولايات المتحدة التي ترى في هذه الخطوة تخطّياً تركياً للخطوط الحمر، كونها عضواً في "الناتو"، ولها موقعٌ بالغ الأهمية فيه وفق الفَهْم الأميركي لأدوار الأعضاء، خصوصاً في الشق المُتعلّق بمواجهة روسيا.

هذا التطوّر، والنجاح الذي تحقّقه موسكو في آسيا الصغرى يراهن عليه القادة الروس لإحداث تحولٍ استراتيجي بطيء في الخارطة الجيوسياسية في الشرق الأوسط، بالتوازي مع العلاقات الجيّدة والمُتحسِّنة باضطراد مع دمشق، واستعادتها من أيدي الجماعات الإرهابية والمشروع الغربي الذي استثمر فيها لسنوات. وهو مسارٌ بطيءٌ لكنه واثق ومُتصاعِد، ويتوافق بكثيرٍ من المنطق مع رؤية موسكو للعالم المُتعدِّد الأقطاب الذي تحاول الوصول إليه مع قوى أخرى. وهو قبل ذلك كله – وهو ما يعنينا في سياق تحليلنا- مسار مُتناسِق مع المواجهة التي يخوضها الروس في مواجهة تمدّد "الناتو" وتوسّع مهامه.

إذن، هي مراقبة مُتبادَلة مستمرة ورَصْد لا يتوقّف بين روسيا والناتو، ترصد فيه المُناورات ويتم تشريحها بكل تفاصيلها الدقيقة، الصغيرة منها والكبيرة، وتتبّعٌ للخلافات الداخلية، وقابلية الاستثمار فيها، وسباقٌ مستمر في التحضير العسكري على المستويات النظرية والتخطيطية والميدانية والتقنية، ولا يخلو يومٌ من خبرٍ يدلّ على هذه المواجهة القائمة بين الطرفين.

مواجهةٌ لم تصل إلى الاشتباك المباشر، لكن أدبيات دول الحلف وروسيا على حدٍ سواء لا تخلو أيضاً من التهديد والوعيد والتلويح بالقُدرات واستعراضها، والرسائل المُشفَّرة والواضحة التي تمر حيناً بتصريحاتٍ من مدرسة "الحرب البارِدة" عبر وسائل الإعلام، وأحياناً أخرى من خلال أخبارٍ عن القُدرات والاستعدادات لكلٍ منهما لمواجهة الآخر فيما لو اندلعت هذه المواجهة.

اتهامات مُتطابقة: يُحضِّرون لعملٍ عسكري واسع

وكتعبيرٍ دقيقٍ وحمّالٍ للمعاني عن سير المواجهة بين الطرفين وفق استراتيجية "الخطوة بخطوة"، يمكن المُقارنة بين تصريح بيشكوف الذي بدأنا منه الحديث، والذي أيَّد فيه تعليق الجنرال غراسيموف على مُناورات "الناتو" بالقول "إن الناتو يُحضِّر لعملٍ عسكريٍ واسع النطاق"؛ نستعيد تعليق المُتحدِّث باسم "الناتو" دايلان وايت في مايو/أيار من العام 2018 على مُناورات "فوستوك 2018": "تؤكّد (مُناورات) فوستوك تركيز روسيا على ممارسة صراع واسع النطاق".

تصريحان مُتطابقان من خصمين مُتقابلين، الفارِق بينهما 18 شهراً، يُعبّران بوضوحٍ عن نمطٍ شهدته الحرب البارِدة، حيث كان المقابل "للناتو" "حلف وارسو". واليوم تخوض روسيا هذه المواجهة من دون "وارسو"، ولكن أيضاً من دون عبء العقيدة وضغوطات ظروف الاتحاد السوفياتي، ومع شبكةٍ واسعةٍ من التفاهُمات المُتصاعِدة نحو التحالف تجمعها ببكين وطهران وأنقرة. أهم من ذلك، إنها تخوض هذه المواجهة وفق منطق العصر، بصورةٍ تختلف تماماً عن منطق الاتحاد السوفياتي السابق خلال "الحرب البارِدة".

مع أنها تظهر بقيادة بوتين أكثر حزماً، وتزيد من ميزانيّتها الدفاعية بصورةٍ مستمرة، وتمارس نهجاً تدخّلياً جريئاً في المحيط الإقليمي القريب، كما على المستوى الدولي، كما رأينا في جورجيا عام 2008، وفي سوريا عام 2015، وفي القرم وأوكرانيا بعد ذلك مباشرةً؛ فإنها تصرّ على دعوة "الناتو" إلى إرسال مندوبين لمُراقبة مناوراتها، وتمدّ اليد للقوى الغربية للتفاهُم على نظام أمنٍ إقليمي أوروبي يجمعها بدول أوروبا الغربية لمواجهة المخاطر المشتركة الداهِمة، كالإرهاب والنَزعات القومية.

تعاونٌ يتجلّى في اللقاءات والزيارات المُتبادَلة وفي التبادُلات التجارية وبخطوط الطاقة، ثم لا يلبث أن يخبو تحت وطأة مُناوراتٍ عسكرية، أو عقوباتٍ اقتصادية، عنوانها الدائم "إبحث عن الأميركي".