الهوية الثقافية عند جابر عصفور
الهوية الثقافية لكل قطر عربي لا تتطابق مع الهوية الثقافية لكل قطر آخر بالضرورة، فرغم عوامل الاتفاق هناك عوامل إختلاف.
إذا كنا سنتحدث عن الحرية أو السياسة أو الثقافة أو أي موضوع مقترب من تلك الأفكار فمن الطبيعي أن يقود الحوار الثقافي إلى موضوع "الهوية الثقافية"، وأن يشتد النقاش حولها، والمطالبة بحماية تلك الهوية الثقافية والحفاظ عليها، ذلك الموضوع هو الذي تحدث عنه الدكتور جابر عصفور في كتابه "الهوية الثقافية والنقد الأدبي" الذي أصدرته الهئية المصرية العامة للكتاب، والذي حاول فيه التقصي عن مفهوم وأبعاد الهوية والثقافة الوطنية والشعبية .
فالهوية الثقافية لأي شعب هي هوية متغيرة بالضرورة، لا تعرف الثبات ما ظل تاريخها يمر بمراحل من التحول والتغيّر اللذين ينتجان عوامل محلية وعالمية في آن واحد. فالهوية ليست كياناً ثابتاً منغلقاً على نفسه، وإنما هي كيان فعال، أي فاعل ومنفعل معاً مع كل الظروف الحياتية المحيطة به .
والهوية الثقافية تتكون من عناصر ثابتة عميقة الجذور وأصيلة، وعناصر متغيرة مشروطة بالتاريخ المتحول لهذه الأمة بكل لوازمه وعملياته، وعندما نحدد هوية الثقافة المصرية من هذا المنظور فيجب أن نحدد عناصر ثابتة ثلاثة ألا وهي: العنصر الفرعوني أو المصري القديم الذي لا يزال ثابتاً ممتداً بمعنى أو بغيره، والعنصر المسيحي الذي لا يزال ميراثه المادي والمعنوي متجسداً في الطرف التاني من الأمة التي لا يزال يجمعها شعار ثورة 1919 وهو "الدين لله والوطن للجميع". أما العنصر الثالث والأخير فهو العنصر العربي الإسلامي الذي يجمع ما بين دين وهوية قومية، على نحو ما ينبغي التمييز بينهما، رغم كل ما يربطهما، حتى لا يختلط الدين بالقومي أو العكس، ففي هذا الاختلاط أو الخلط ما يؤدي إلى مشاكل جمة.
أما عناصر التغيّر فإنها تجمع بين المؤثرات الثقافية الوافدة على هذه الثوابت، وهي في عصرنا الحديث، العالم الغربي الذي اتصلنا به وفرض وجوده علينا، منذ بدء الحملات الاستعمارية التي استهلتها حملة نابليون بونابرت سنة 1798، والتي جاء رحيلها سنة 1801، والاحتلال البريطاني الذي امتد من عام 1880 الى عام 1954، وهي الفترة التي يمكن أن نطلق عليها فترة الاستعمار الاستيطاني، والاقتصادي والحضور الثقافي الذي إقترن بجوانب إيجابية أفادت ثقافتنا سواء في التعليم والإبداع والإعلام من ناحية مقابلة، ورغم أنه فرض علينا الاتباع والتقليد في هذه المجالات في جوانب، فإننا أخذنا منه في بعض الدوائر الثقافية، ما علمنا نقض الاتباع ورفض الهيمنة الثقافية.
الهوية الثقافية لكل قطر عربي لا تتطابق مع الهوية الثقافية لكل قطر آخر بالضرورة، فرغم عوامل الاتفاق هناك عوامل إختلاف. ويعتقد جابر عصفور أن أهم خطأ ثقافي وقع فيه - ولا يزال - الفكر العربي القومي الأصولي أنه يقيم مفهوم الوحدة العربية على أساس من عناصر الاتفاق وحدها، متجاهلاً عناصر الإختلاف، ولم يضع في اعتباره مبدأ الوحدة القائمة على التنوع الذي كان يمكن أن يثري ممارسات الوحدة العربية ومحاولاتها، ولكن هذه هي أزمة الفكر الأصولي بوجه عام، خصوصاً حين يتم رفض وحدة التنوع .
فلا سلام ولا تقدم في أية أمة من الأمم وخصوصاً العربية إلا حين تتوازن عناصر الهوية الثقافية، وتتفاعل سلمياً في شروط تاريخية مواتية، عندئذ تتحول الهوية الثقافية إلى مصدر قوة متجددة وتقدم متواصل، خصوصاً حين يسفر التجاوب بين عناصر الهوية وبينها والشروط التاريخية التي تتبادل وتتفاعل وتقبل الاختلاف والمجادلة .
تعتبر اللغة أيضاً مكوّناً مهماً من مكوّنات الهوية الثقافية، لكنها ليست مكوّناً حاسماً في كل الأحوال، فما أكثر من ينتسبون إلى هوية ثقافية عامة تصل ما بين عناصرها بأكثر من رابط. ومع ذلك تتعدد لغات المجموعات المنتسبة الى هذه الهوية. وفي رأيي أننا إذا نظرنا مثلاً إلى الإتحاد الأوروبي وهذا الكيان المتحد العملاق الذي يعتبر من أقوي الكيانات الحديثة، سنرى أن هناك تنوعاً كبير في اللغات بين الإنجليزية والفرنسية والألمانية وغيرها، ولكن تم بناء هذا الاتحاد على عناصر كثيرة مختلفة متنوعة متشابهة ومختلفة مع عدم إنكار أهمية تشابه اللغة أيضاً.
الدين عنصر أساسي من عناصر الهوية الثقافية بالتأكيد، وهو عامل من العوامل الحاسمة في بناء هذه الهوية، خصوصاً لأنه يتصل بالقيم الروحية التي لا يمكن للإنسان أن تكمل إنسانيته من دونها، لكن المقصود بالدين في هذا السياق، ليس هو الدين بصيغة المفرد، وإنما الدين بصيغة الجمع التي تنفتح على التعدد والتنوع. ففي كل ثقافة تعدد للأديان، وإذا كان ثراء الهوية الثقافية يغتني بالتنوع بالأخلاق، والانفتاح على كل ثقافات الكوكب الأرضي، فسنرى على ما أعتقد أن مضمون الأديان جميعاً هو الأخلاق الحميدة الصحيحة .
الهوية المنفتحة هي نقيض الهوية المنغلقة على نفسها أو الممزقة بين نقائضها المتقاتلة، فهي الهوية التي تحقق أكبر قدر من التوازن والتفاعل والتناغم بين مكوّناتها الأساسية، وذلك من دون أن ينفي عنصر من عناصر هذه المكوّنات غيره. فالهوية الثقافية المصرية لا تكون في أقوى حالاتها إلا في حال تجاور العنصر الفرعوني في تواصله مع العنصر المسيحي، في حضوره مع العنصر الإسلامي العربي في امتداده، وذلك شريطة أن يتصف هذا التجاور بالتسامح والتفاعل واحترام كل عنصر لحضور ما يوازيه.
لا أعتقد أن مفكراً عربياً استطاع أن يصوغ نظرياً نموذجاً مفهومياً متكاملاً عن الهوية المنفتحة مثل طه حسين، وكانت أغلب عناصر التصور حاضرة في ذهنه حتى من قبل أن يصوغ أفكاره الخاصة بمستقبل الثقافة المصرية في كتابه "مستقبل الثقافة في مصر" الذي صدر سنة 1938، بعد عامين من حصول مصر على استقلالها في معاهدة 1936 مع انجلترا. فدفع ذلك طه حسين إلى تصور مستقبل الثقافة المصرية، لكن من دون أن يراه معزولاً عن محيطه العربي أولاً، وعن ضرورة تفاعله مع ثقافات العالم والإسهام في تنوعها الخلاق، ولذلك لا يخامر طه حسين شك في أن الثقافة إنسانية بطبيعتها.
هناك عناصر تكوينية تتشكل بها الثقافة المصرية في نظر طه حسين، ألا وهي أولها: التراث المصري الفني القديم بكل مراحله وتجلّياته التي تظهر حتى في المأثورات الشعبية المادية والمعنوية، وثانيها: التراث العربي الإسلامي الذي أكسبته مصر خصائصها التي جعلته يتطبع بطابعها في أشياء كثيرة، كما حدث مع فقه الإمام الشافعي قبل مصر وبعدها، وشعر الشعراء الذين استقروا في مصر، أو وفدوا إليها، أو أقاموا فيها زمناً قليلاً أو كثيراً من حياتهم. أما العنصر الثالث والأخير فهو ما كسبته مصر وتكسبه كل يوم من خبرات ما أثمرت الحياة الأوروبية الحديثة، وتلك كانت العناصر التي ذكرها جابر عصفور عن طه حسين في كتابه.
إن كتاب "الهوية الثقافية والنقد الأدبي" يعد من أهم الكتب من وجهة نظري التي نحتاجها اليوم وفي هذه الأحداث للحفاظ على هويتنا وأصالتنا وحريتنا بشكل مصري أصيل في ظل الأحداث الراهنة سواء كانت السياسية أو الاقتصادية أو حتى التكنولوجية والتطور الهائل السريع لتلك التكنولوجيا ومحاولة مواكبة ذلك التقدم الرهيب من خلال أصالتنا المصرية والحفاظ على تلك الهوية العربية الإسلامية المسيحية المصرية العظيمة .