أوروبا والعالم الإسلامي.. تاريخ بلا أساطير

في هذا الكتاب، يعيد ثلاثة مؤرخين بارزين إحياء التاريخ المديد بين أوروبا والعالم الإسلامي ويقدمون خلاصة تاريخية لهذه العلاقة الصاخبة المستمرة.

كتاب "أوروبا والعالم الإسلامي.. تاريخ بلا أساطير"

 يعيد ثلاثة مؤرخين أوروبيين بارزين إحياء التاريخ المديد بين الشرق والغرب منذ عام 633م عندما تنازعت جيوش الدولة الإسلامية في المدينة المنورة والقسطنطينية (الدولة البيزنطية) السيطرة على بلاد الشام، وحتى الآن، مروراً بتفكك بيزنطة، وبالحملات الصليبية وبالأندلس المسلمة والاسترداد المسيحة والتبادلات والنزاعات التي عرفها القرن الثامن عشر ومرورًاً كذلك بالإمبراطورية العثمانية، والاستعمار الأوروبي ونزع الاستعمار، لم تتوقف الصلات بين أوروبا والعالم الإسلامي. ومع أن أهمية هذه الصلات وثراءها وتنوعها من الأمور الجلية إلى حد بعيد لمن يعرف تاريخها فإنها ليست بهذه الدرجة من الجلاء للجميع، فكان هذا الكتاب دراسة عميقة للعلاقات بين أوروبا والعالم الإسلامي منذ ظهور الإسلام إلى الآن. وهي مستمرة في الأحداث الجارية فلا أحد يمكنه تجاهل هذه الحقيقة. فعلى سبيل المثال الدبلوماسية الأوروبية مع إيران أو ضمن النزاع الفلسطيني - الاسرائيلي والجاليات المسلمة المهاجرة في البلدان الأوروبية وموقع شركات بترولية في الاقتصادات العربية واتفاقات التبادلات الاقتصادية بين الاتحاد الأوروبي وبلدان المغرب أو المفاوضات بشأن انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي وهذه النزاعات سوف تظل رهانات رئيسية للمجتمعات الأوروبية والإسلامية على امتداد القرن الحادي والعشرين كله وبعده بكثير.

إن تاريخ هذه العلاقات الثرية قد بدأ بثلاثينيات القرن السابع حيث تنازع جيوش القسطنطينية والمدينة المنورة في السيطرة على سوريا /فلسطين، ومنذ نحو خمسة عشر قرناً كانت العلاقات متصلة وعظيمة من حروب وفتوحات واستردادات ودبلوماسية وتحالفات وتجارة ومصاهرات وعمليات نقل للتكنولوجيا وتقليدات على المستوى الفني والثفافي. إن أهمية العلاقات وثراءها لمن يعرف تاريخ أوروبا او تاريخ البلدان الإسلامية ليست واضحة للجميع فيزعم عالم السياسة الأميركي صمويل هانتنغتون أنه خلال الجزء الأعظم في تاريخ البشرية ظلت الاتصالات بين الحضارات متقطعة من خلال حملات الاستكشاف والاستعمار البرتغالي والإسباني عند منعطف القرن السادس عشر.   وعلى أساس ذلك يبنى هانتنغتون أُطروحته الشهيرة عن صدام الحضارات.

مفهوم أوروبا عند الغرب والعرب

 

تعتبر  أوروبا أنها جزء من أجزاء العالم الثلاثة إلى جانب آسيا وأفريقيا فنجد هذه الفكرة لدى واضعي الخرائط اللاتين في العصر الوسيط لإننا نرى عليها دائرة المحيط التي تطوق الكتلة باليابسة فنرى مياه البحر المتوسط والنيل والتانايس التي تقسم العالم الى ثلاث قارات. لكن هذا التقليد الجغرافي يبدو تأثيره على الهويات الفعلية محدوداً فالمرء يعتبر نفسه جنوياً أونورمانياً إلا إنه نادراً ما يسمي نفسه أوروبياً وسوف تكون المرجعية الأوسع دينية. فالكنيسة هي التي توحد جميع المسيحيين. لكن وحدة الكنيسة وهمية بالفعل وتؤدي الى انقسامات لاهوتية ومؤسسية عديدة الى انقسامات بين جماعات مسيحية عديدة. كما يتحدث الكتاب أيضاً عن اللاتين  Christianitas وهم جماعة من المسيحيين يعترفون بسلطة البابا ويستخدمون اللاتينية في أداء الطقوس. لكن هذه جماعة مسيحية متمحورة على أوروبا تستبعد غالبية مسيحيي العالم وهي حضارة في توسع سافر، أولاً في أوروبا ( في أسبانيا وفي أوروبا الشمالية – الشرقية) وفي جزر البحر المتوسط (صقلية كورسيكا، جزر البليار، قبرص، إلخ)  وكانت تسود جزءاً من فلسطين لحقبة قصيرة. فالقدس في أيدي ملوك الصليبيين من عام 1099م إلى عام 1187 ويحتفظ اللاتين بجزء من الساحل الفلسطيني حتى عام 1291. واعتباراً من المغامرة الاستعمارية البرتغالية والإسبانية التى تبدأ في أواخر القرن الخامس عشر سيحدث التوسع الأوروبي في أجزاء أخرى من العالم وصولاً إلى حملة نابليون بونابرت على مصر.

وعند كٌتاب العرب فإن أوروبا (أورفا) هي مصطلح موروث من التراث الإغريقي يجري تمثيلها في الجغرافيا العالمية بوصفها أيضاً أحد أجزاء العالم لكنها تلعب دوراً ضئيلاً لان الجغرافيين العرب يرفضون بوجه عام التقسيم الى قارات إيثاراً لمخطط تصوري آخر أصله إغريقي أيضاً. فهم يقسمون العالم الى أقاليم عددها في الغالب سبعة ومن ثم فهم لايعتبرون أن أوروبا وحدة بل بلاداً جد متمايزة: بلاد الروم (البيزنطيون)، بلاد الفرنج (الفرانك)، بلاد الصقالبة (السلاف)، إلخ، أي أنهم يرون في هذه البلدان تعددية وتنوعاً (حضارة). ويتناول الكتاب مصطلح أوروبا بتعريفه الحالي وبالشكل الجغرافي الموجود الآن مع مراعاة السياق التاريخي للقارة.

ما الفرق بين مفهوم دار الإسلام ومفهوم الأمة؟

ارتبط مفهوم العالم الإسلامي بمصطلح دار الإسلام التي كانت تعني في الكتابات العربية مجمل الأراضي التي يُعد الإسلام الديانة المسيطرة فيها وهو مصطلح لا يجب خلطه بمصطلح الأُمة الذي يعني مجمل المسلمين، إذ يقيم في دار الإسلام أيضاً أهل الذمة أقليات محمية (يهود، مسيحيون). أما فيما يتعلق بالأمة فيدخل في قوامها أيضاً المسلمون الذين يحيون خارج دار الإسلام ومنها الأسرى  المسلمون، والأقليات المسلمة التى تحيا في بلدان يحكمها غير المسلمين وتجار مسلمون في المحيط الهندي أو في أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى أو (في العصر الحاضر)، المهاجرون المسلمون في أوروبا أو في أميركا. ومن الواضح أن دار الإسلام شأنها في ذلك شأن أوروبا ليست كياناً جغرافياً ثابتاً فهي في توسع سافر على امتداد العصر الوسيط وهي تولد في موجة من الفتوحات الخاطفة التي أدت خلال القرن التالي لوفاة النبي محمد(ص) في عام 632م إلى جعل المسلمين سادة إمبراطورية تمتد من نهر الإندوس ومن الهندو كوش إلى السواحل الأطلسية للمغرب الأقصى والبرتغال. واذا كان هذا التوسع قد تباطأ بعد ذلك لكي يستأنف مسيرته بوسائل أخرى فيما بعد عبر التحول الجماعي إلى اعتناق الإسلام من جانب الأتراك اعتباراً من القرن التاسع ومن جانب المغول اعتباراً من القرن الثالث عشر ما يقود الإسلام في آسيا الوسطى إلى أبواب الصين، إذ سوف يقوم المغول الذين أسلموا بفتح جزء لا بأس به من شمال الهند، ومن جهة أخرى عبر طرق التجارة ينتشر الإسلام صوب ممالك غربي أفريقيا كدولة مالي أو في المحيط الهندي من زنجبار إلى جاوا. وصحيح أن الأندلس (إسبانيا المسلمة) تم فتحها بين القرنيين الثالث عشر والخامس عشر من جانب الملوك المسيحيين في شبه جزيرة أيبيريا لكن الدولة العثمانية تتمكن في الوقت نفسه من مد سلطتها إلى قلب أوروبا. وفيما يتعلق في العصر الوسيط هذا الجزء من دار الإسلام ذو صلات الوثيقة بأوروبا أي ببلدان البحر المتوسط.

التصور الأوروبي لدار الإسلام

إن كلمتي إسلام ومسلم تعاودان الدخول إلى اللغات الأوروبية متأخرتين فنحن نجد أول استخدام بالفرنسية لكلمة Islam في عام 1697م وأول استخدام لها بالانجليزية في عام 1818م. وفي الفرنسية نلتقي بكلمة musulman  منذ منتصف القرن السادس عشر ونلتقي بكلمة Moslim في الإنجليزية في عام 1615م. أما قبل ذلك، فإن مصطلحات ذات أصل إثني بالأخص هي التي كانت تستخدم للكلام عن المسلمين: عرب، ترك، فرس، مار (خليط من سكان العرب والبربر والسود في موريتانيا)، إلخ. وهناك مصطلحات من الكتاب المقدس أيضاً مثل الإسماعيليين أبناء إسماعيل لأن هذا الأخير في التراث التوراتي والقرآني يعتبر جد العرب ويسمونهم بالمثل الهاجرنة (نسبة إلى هاجر أم اسماعيل). لكن المصطلح الأكثر استخداماً في العصر الوسيط لا شك إنه السراسنة وهذه الكلمة ذات الأصل الغامض يذكرها الجغرافيون على أنها أحد شعوب بلاد العرب وهي تستخدم فيما بعد للإشارة إلى كل العرب ثم إلى كل المسلمين. وفي الإشارة إلى الإسلام غالباً ما يدور الكلام عن شريعة السراسنة  أو شريعة محمد lex mahumeti .  ومع صعود الدولة العثمانية في القرنين الرابع عشر والخامس عشر، انتشر في العصور الوسطى مصطلح السراسنة sarrecenorum وهو مصطلح لاتيني مساوٍ لمصطلح دار الإسلام.

 

تصادم أم تنافس أم تواصل الحضارتين الغربية والإسلامية

يرى هانتيغتون أننا إزاء حضارتين متنافستين قائمتين على أيديولوجيتين عالميتين متباريتين في طموحاتهما التوسعية تتصادمان ملوحتين بلواءي الحملة الصليبية والجهاد.

وأيد مؤرخو هذا الكتاب رأي المؤرخ ريشار بيليه الذي قال بالتواصل الحضاري بينهما فقال نحن إزاء فرعين لحضارة واحدة إسلامية ومسيحية تمتد جزورها امتداداً عميقاً في تراث ديني ثقافي وفكري مشترك هي الحضارة المتوسطية والشرق الأوسطية القديمة، والوحى الإنجيلي، والعلوم والفلسفة الإغريقية والهلينستية. وقد يكون هذا التراث المشترك قد تعزز خلال خمسة عشر قرناً بفضل التبادلات المتواصلة للسلع والأشخاص والأفكار. والواقع لو اعتبرنا العالم الإسلامي وأوروبا (الغرب) فرعين لحضارة واحدة، فإن الفكرة التي تتحدث عن صدام الحضارات لا يعود لها معنى والمسألة ليست مجرد كلمات. فالنظر على سبيل المثال في لحظات الصدام مثل الفتح الإسلامي لإسبانيا (711 م) والحملة الصلبية الأولى عام 1099 م واستيلاء العثمانيين على القسطنطينية عام 1453م وفتح غرناطة عام 1492م وحملة نابليون بونابرت على مصر عام 1798م والغزو الفرنسى للجزائر عام 1830م والتدخلات الأميركية في العراق، بوصفها تجلَيات أو أدلة على صدام حضارات مفترض، إنما يجعل أي بحث عن تفسيرات أكثر تحديداً أمراً لا طائل من ورائه. إلا أننا حين نعدد الحروب في داخل أوروبا أو في البلدان الإسلامية فلا يلجأ الكاتب إلى  تفسير الفتح العثماني على حساب المماليك أو حروب الدين في أوروبا أو الحربين العالميتين اللتين مزقتا أوروبا في القرن العشرين أنه صدام حضارات، فقد قامت حروب داخل أوروبا نفسها فكانت فرنسا في حرب مع جاراتها وبخاصة بريطانيا العظمى وألمانيا وهم ينتمون إلى حضارة واحدة.

 

تاريخ العلاقات الأوروبية - الإسلامية في العصور الوسطى

يعرض الكاتب جون تولان  تاريخ العلاقات الأوروبية - الإسلامية في العصور الوسطى (من الصدام إلى التواصل الحضاري)، أي منذ القرن السابع إلى القرن الخامس عشر، ويوضح وجهتي النظر المختلفة التي نظر بها كل طرف إلى الآخر في العصور الوسطى، صورة  الأوروبيين في الجغرافيا العربية وصورة الشرق في الجغرافيا اللاتينية وفي الأرض المسيحية كما في الأرض الإسلامية. وغالباً ما استخدمت أيديولوجيات  الحرب المقدسة لتبرير الفتح على حساب الكفار( وفق مفهوم العصور الوسطى حيث اعتبر المسلمون المسيحيين كفاراً والعكس صحيح ) وتطورت مفاهيم الجهاد الإسلامي والحملات الصليبية المسيحية وهي أيديولوجيات تمجد الحرب التي تخاض في سبيل الدين الحق وإن كانت نادراً ما تستبعد التحالفات السياسية والعسكرية مع أمراء الدين المنافس. وهذه الأيديولوجيات لا تمنع الأمراء من ترك مكان محمٍ للأقليات الدينية وإن كان مكاناً تابعاً كما يوضح مصير الأقليات المسيحية في البلدان الإسلامية في أوروبا ومصير الأقليات المسلمة في البلدان المسيحية.

وقد أدت التجارة في البحر المتوسط إلى نسج علاقات قوية بين المدن البحرية الأوروبية (بيزا والبندقية وجنوا وبرشلونة) وموانى العالم الإسلامي وتمارس تأثيراً عميقاً على كل المجتمعات اعتبارًا من القرن الثاني عشر. كما يتناول الباحث التبادلات الفكرية والثقافية والفنية والأثر العميق للعلوم والفلسفة العربية في اليقظة الفكرية في أوروبا، اعتبارًا من القرن الثاني عشر ودور الحضارة الإسلامية في نهضة أوروبا في العصر الحديث  ومراكز انتقال الحضارة الإسلامية إلى أوروبا (صقلية والأندلس وبلاد الشام في عصر الحروب الصليبية).

 

أوروبا والعالم الإسلامي في العصور الحديثة

يوضح المؤرخ جيل فاينشتاين تاريخ العلاقات الأوروبية والعالم الإسلامي في الحقبة الحديثة من أواخر القرن الخامس عشر إلى القرن الثامن عشر(الحملة الفرنسية). ويعترض البعض على تقسيم هذه الفترة لأنها تحدد  حقبة التاريخ الحديث من جانب الغربي ويبررها البعض بأن هذه الفترة في العالم الإسلامي ظهر فيها انبثاق وازدهار إمبراطوريات عظمى عدة حلت محل التفتت السياسي الهائل الذي عرفته المرحلة السابقة : إمبراطورية المغول الكبار في الهند، إمبراطورية الصفويين في فارس، والإمبراطورية العثمانية. والمهم أن هذه الفترة شهدت تغيرات عميقة في أوروبا، أهمها الدخول إلى الحداثة والعلاقات بين أوروبا والعالم الإسلامي تدخل في هذا السياق. إن حالة الدولة العثمانية لا يمكن سوى الإعلاء من شأنها لأنها حالة إمبراطورية من الإمبراطوريات الإسلامية يعد تاريخها التاريخ الأعمق تداخلاً مع التاريخ الأوروبي بحيث أن التاريخين يمتزجان جزئياً.

ويعرض الكاتب لتاريخ الفتح العثماني في أوروبا ويستعيد ترتيب الأحداث التي اختلط عبرها تاريخ أوروبا بتاريخ علاقاتها الطيبة أو السيئة مع الدولة العظمى الإسلامية الأولى آنذاك. كما يوضح خصائص أوروبا المنبثقة عن الفتح العثماني: أوروبا متعددة الإثنيات ومتعددة الطوائف الدينية تحت سيطرة الهلال. وهذا الحضور الكافر من وجهة النظر المسيحية في أوروبا والخطر الذي يمثله، يشكلان أسوأ التجريسيات بالنسبة للجماعة المسيحية، ويبين أيضاً أشكال التناحر التي تضع الطرفين على المستوى الأيديولوجي في موضع التضاد الذي لا علاج له. فعامل الدين يظل حاضراً بالفعل كما في العصر الوسيط وهو يستعيد في الأغلب أشكال  السجال القروسطي. لكن الرفض المتبادل يتخذ أيضاً على الجانبين أشكالاً جديدة تتغذى على مصادر أُخرى غير الإقصاء الديني بشكل محدد.

ويوضح المؤرخ جيل فاينشتاين انقسام أوروبا إلي قسمين حاضرين بشكل متفاوت اليوم في الذاكرات الأوروبية: وجود حدود إسلامية – مسيحية عبر أوروبا وهذه الحدود هي موقع مواجهات دائمة فعلية ورمزية وإن كانت أيضاً موقع تبادلات وتأثيرات متبادلة. ويظهر تعبير صارخ عن هذه التأثيرات في هذه التشكيلات العسكرية المعكوسة انعكاساً مراوياً والتي تحت تسميات متنوعة وبشخصيات خاصة في كل حالة تعد ثابتة على جانبي هذه الحدود على امتداد خطها البري أو البحري. فبما أنها مجتمعات بديلة ناجمة عن توترات اجتماعية ودينية في الخلفية، فإنها تخلق مواجهة على جانبي الخط الفاصل بين خصوم لا يجتمعون إلا لكي يزدادوا خصومة. إنها عالم بيني عالماً على حدة يميل إلى لعبه الخاصة في العلاقات بين الدول، وعندما تدعو الضرورة إلى ذلك.

ويوضح الكاتب تراجع التناحر والعنف لصالح الواقعية السياسية أو البراغماتية   التجارية التي لا تؤدي بالتأكيد إلى أعمال العنف لكنها على الأقل تضعها بين قوسين. وبوسع طباع أخرى كالميل إلى الغرائبية أو الفضول الفكري أو التأمل الفلسفي أن تساعد على تآكل الحاجز الأيديولوجي لكن التشكيك الذى تحمله إليه يظل على أي حال محدوداً بالفعل خلال الحقبة الحديثة.

 

أوروبا الصناعية وضرورة التحول في العالم الإسلامي

تناول المؤرخ هنري لورنس العلاقات بين أوروبا والعالم الإسلامي منذ منتصف القرن الثامن عشر التي سماها مؤرخو الغرب بفتح المسألة الشرقية (الدولة العثمانية)    ووضع أوروبا في قوة عظمى مفرطة مما لزم من احتلال للعالم القديم مع ظهور الثورة الصناعية فيها. ومنذ بداية القرن التاسع عشر أصبح واضحاً للنُخب المسلمة أن مما لا مفر منه قبول التحول للتمكن من البقاء وهو تكوين دولة حديثة. لكنه ينطوي على تحولات أساسية للمجتمع والثقافة ومن ينجحون في صون استقلال شكلي ينخرطون في سباق سرعة بين تقدم التدخلات الأوروبية وإقامة دولة قوية لا مفر أمامها من الإستعانة بالأوروبيين أنفسهم. ودينامية التغيرات تبيّن أن من الصعب تحديد ما هو مستعار لا أكثر ولا أقل وما هو مزامنة للتطور. كما تبين ذلك المسألة المعقدة الخاصة بتحرير غير المسلمين في أرض الإسلام.

أما الآخرون فيضطرون إلى مواجهة الليل الإستعماري للسيطرة  الأوروبية والتي تميل في بعض المناطق إلى التحول إلى استعمار استيطاني والعالم الإسلامي بعيد عن أن يكون سلبياً حيال تقدم أوروبا متعددة الأشكال، فهو يدخل في تحولات متصارعة تفضي إلى تبني مبدأ القوميات بوصفة نمطاً جديداً للتنظيم الاجتماعي والأشكال الجديدة للتعبير السياسي تصطدم بالموروث الإسلامي.

وفي مستهل القرن العشرين يدخل العالم الإسلامي في عصر الثورات وتحرره من الاحتلال الأوروبي مع الحرب العالمية الأولى التي اجتاحت كل بلاده من المغرب الأقصى إلى الهند وصولاً إلى الاستقلالات المحرزة. وإن تطلب ذلك خوض النضال المسلح الذي فرض على العالم الإسلامي تحديات جديدة منبقة من مواجهته مع أوروبا مثل النزعة القومية والإسلام السياسي والتنمية والتبعية، والدول الحديثة والجماعات  الطائفية الدينية أو الإثنية.

 والحال أن العالم الإسلامي هو في آن واحد رهان وفاعل النزاعات الجديدة للحرب الباردة وهي نزاعات تستأنف منطق التوريط والتدخل الذي جرى إدخاله في القرن التاسع عشر واستمر إلى الوقت الراهن ودفع بهجرات إسلامية إلى أوروبا.

 

تطلعات لتعاون أوروبي إسلامي مستقبلي

في الختام أوضح المؤرخ هنري لورنس أنه برغم العنف الذي يظهر على السطح في الآونة الأخيرة لا يمكن أن يحجب وحدة المصير المشترك الذي بُني عبر قرنين ونصف بين العالم الإسلامي وأوروبا بعد أن اهتمت أوروبا بالتحديث ودخلت العولمة. فالعالم الإسلامي يحتل موقعاً متوسطاً بين البلدان الصناعية القديمة والجديدة والبلدان الأقل تطوراً وذات الأداء المتوسط لكنه ليس مخزياً فهو لا ينطوي على انحدار عام لثقافة مجتمعات العالم الإسلامي.

ومع تغير أوروبا في تركيبها البشري وتحول قوامها الديني وتحديد هوية أوروبية لا تأخذ في الإعتبار تعددية مكوناتها، من شأنه أن يكون عبثاً لا طائل ممن ورائه كتحديد شخصية مسلمة منغلقة عن بقية العالم والأرجح أن استبعاد الآخر بوصفه غريباً هو الخطر الأوسع انتشاراً في كل العالم.

وتتمثل الحقيقة الواقعية التاريخية في أن هناك اليوم في كل شخصية أوروبية جزءاً مسلماً، كما أن في كل مسلم جزءاً أوروبياً، والعنف الذي يتصور المرء أنه يمارسه ضد الآخر هو بادئ ذي بدء عنف يمارسه المرء ضد نفسه. والحال أننا عندما نستفسر عن مكوناتنا الوجدانية المشتركة سوف نتوصل إلى حوار ثقافات حقيقي. والمعروف أن الحضارة الإنسانية سلسلة من الحلقات بدأت في الشرق (الحضارة المصرية القديمة وحضارة بلاد الرافدين وسورية القديمة) ثم انتقلت إلى الغرب القديم (اليونان والرومان) ثم عادت إلى الشرق (الحضارة الإسلامية في العصور الوسطى)، ثم عادت إلى الغرب في العصر الحديث وهي الآن في الغرب  فهل تعود مرة أخرى إلى الشرق؟

 

*كاتبة مصرية