"الصبي سارق الفجل".. عينان تبحثان عن شيء ما
نجح الروائي الصيني مو يان في جعل الصبي صامتًا لا يتفوه بكلمة واحدة، كما لو كان يخبرنا أن صمته هو مقاومته وتمرده على كل شيء يحدث معه، فقدان أمه، رحيل أبيه، معاملة زوجة أبيه السيئة، وسباب الجميع له.
في عام 1985 نشر الروائي الصيني مو يان روايته الأولى بعنوان "الصبي السارق الفجل" ولم يكن يتخطى عمره آنذاك الثلاثين عامًا، فيقول في حواره الذي أجراه معه مترجم أعماله حسانين فهمي حسين إنها "كان لها الأثر الكبير في ظهور اسمي على الساحة الأدبية الصينية، وأكدت فور صدورها مكانتي ككاتب شاب آنذاك. ويعتقد الكثير من القراء والنقاد أن هذه القصة هي أفضل أعمالي على الإطلاق حيث كنت قد كتبتها آنذاك قبل الإلمام بالنظريات الأدبية والكثير مما يتعلق بأساليب الإبداع الأدبي، فهي تتمتع ببراءة الطفولة والصدق في تصوير العالم المحيط بالكاتب".
وقد نشرت الترجمة العربية للرواية عام 2015 عن الهيئة المصرية العامة للكتاب ضمن إصدارات سلسلة الجوائز، من ترجمة د.حسانين فهمي حسين، وتقديم د.محسن فرجاني.
يبدأ مو يان روايته بمشهدٍ بانورامي كاشف للريف الصيني إبان فترة الثورة الثقافية الصينية (1966-1976)، فنرقب لحظة وصول السيد رئيس العمال إلى القرية. وما أن يشد الجرس المعلق بالشجرة حتى يخرج أهالي البلدة على إثر رنينه، ويتجمعوا حوله، جامدين في أماكنهم كالدمى، ثم يبلغهم بأن إدارة "الكومونة" قررت توسيع الهويس الذي يقع خلف القرية، وإن كل فرقة تحتاج إلى بناء وعامل يساعده.
والهَويِس هو منشأة ملاحية فائدتها نقل القطع الملاحية (المراكب والسفن الخ) من منسوب مياه إلى منسوب مياه آخر.
ويقول رئيس العمال لهم إنه بحسب العرف المتبع فإن المساعد غالبًا ما يكون امرأة، ولأن جميع النساء سينشغلن في جمع محصول القطن، وصعوبة أن يضحى باختيار رجل لأنه سيؤثر على مجموع الأيدي العاملة، تقع عينيه على الصبي الأسمر – يجده على الرغم من برودة الجو - حافي القدمين، عاري المنكبين، ذا سروال فضفاض يصل إلي ركبتيه، وقدماه ممتلئتان بالندوب، فيعرض عليه أن يكون مساعدًا للبناء ويقوم بتكسير الحجارة، وأن يثبت نفسه رجلًا ويكسب بعض المال. لا يجيب الصبي ولكنه يقترب من البناء الشاب، كما لو أنه بذلك يقبل عرض رئيس العمال.
مو يان في الصينية تعني الساكت، وهي الصفة التي أعطاها للصبي بطل روايته ذي العشرة أعوام، كما لو كان يشير إلى نفسه بالصبي الأسمر (هي-هاي)، إذ يمكن اعتبار الرواية إحدى روايات السيرة الذاتية، فيقول مو يان عنها في حواره مع المترجم "تشير القصة إلى بعض جوانب حياتي الشخصية حيث كنت قد عملت في طفولتي عاملًا أجيرًا في مسقط رأسي، وحدث معي الكثير من الأحداث التي سجلتها القصة حول البطل".
يصل الصبي برفقة البناء الشاب إلى الهويس، وما أن يراه نائب الرئيس ليوتاني يانغ حتى يبدأ في نقد الصبي والتشكك في قدرته على العمل، فيحاول البناء الشاب أن يتشفع له، وهنا يكشف الكاتب عن جزء من الماضي الحزين للصبي، فنعرف أن أمه ماتت وهو يعيش مع زوجة والده، وقد هجرهم الأب إلى قواندونغ منذ ثلاث سنوات. ويسأل البناء الشاب متعجبًا السيد ليو "فإن لم تهتم به الإشتراكية فمن سيهتم به!".
وينضم الصبي إلى جموع الفتيات والنساء في تكسير الأحجار إلى قطع صغيرة، وعند رؤيتهن له تتكرر نفس الملاحظة أن كيف يتركه أهله يخرج عاريًا هكذا في البرد. وتظهر جيوتزة الفتاة الطيبة القلب والتي ـ ربما بدافع الشفقة والعطف ـ تقترب منه وتخبره بأن يعتبرها كأخت له. وبدورها تكتشف أن الفتى لا يتحدث، وتتساءل عن السبب، أهو أخرس أم يتعمد عدم الكلام. فيخبرها البناء الشاب في الإجابة عن سؤالها بأن الصبي يتمتع بذكاء حاد، وأنه كان لا يتوقف عن الكلام، ولكن عندما كان في الرابعة أو الخامسة بدأ يقل كلامه تدريجيًا.
ولاحقًا وعندما توطدت علاقته بالفتاة جيوتزة والبناء الشاب، فإنه يكتفي في تجاوبه مع حديثهما بنظرات من عينيه.
نجح مو يان بجدارة على طول الرواية في جعل الصبي صامتًا، لا يتفوه بكلمة واحدة، كما لو كان يخبرنا أن صمته هو مقاومته وتمرده على كل شيء يحدث معه، فقدان أمه، رحيل أبيه، معاملة زوجة أبيه السيئة، وسباب الجميع له.
الصبي شاهدًا..
لا يبقى الصبي في وظيفته الجديدة كثيرًا إذ يتسبب بإصابة نفسه خلال تكسير الأحجار، وهو الأمر الذي أقلق نائب رئيس العمال ليو، فهو لا يريد تحمل أي مسؤولية عن إصابات الصبي فيطلب من البناء الشاب بأن يعود به إلى رئيس فرقته ويطلب بتغييره.
خوف الصبي من فقدانه لوظيفته جعله ينظر تجاه البناء الشاب والفتاة جيوتزة بنظرات متوسلة وكلها رجاء لإقناع النائب ليو بإعطائه فرصة أخرى. ويمكن تفسير حاجته للعمل وقبوله للظروف القاسية برغبته في الإبتعاد عن المنزل لأكبر قدر ممكن من الوقت حتى لا يضطر إلى مواجهة نوبات زوجة والده السكيرة وضربها له.
ولا يكاد الصبي يلتحق بورشة الحدادة كمساعدٍ للحداد العجوز والحداد الشاب حتى يزوره البناء الشاب، وما أن يدرك صعوبة العمل على الصبي الصغير حتى يحاول إقناعه بالعودة إلى تكسير الحجارة، ولكنه لم يولّيه أدنى اهتمام. وحتى عندما حاول البناء الشاب العودة بالفتاة الطيبة جيوتزة لإقناعه، فشلت بدورها، بل حاولت جرّه وسحبه إلى موقع تكسير الحجارة فما كان منه إلا أن رمقها بنظرة قاسية ثم عضها ليفلت منها.
إن العلاقة التي تجمع بين الفتاة والبناء الشاب من جهة والصبي من جهة أخرى يمزجها العطف والشفقة، فكلاهما يشعران بالمسؤولية تجاهه، ويحاولان حمايته من النائب ليو والحداد الشاب الأعور، ومن نفسه كما في هذا الموقف. ومع ذلك فهو يقابل عطفهم بنوع من المقاومة أقرب إلى العناد الطفولي، فهو يرغب في تحقيق ما يعتقده الآخرون بمستحيل عليه بسبب بنيته الضعيفة.
وعلى الرغم من الصدام الذي جمع بين جيوتزة والصبي الصغير في المشهد، إلا أن الروائي مو يان قام ببراعة شديدة بالإشارة إلى تعميق الرابطة بينهما، فقد قامت بكبس جرحها بالتراب، وهو الأمر الذي نهت الصبي عن فعله من قبل ليضحى تأثير الصبي عليها قويًا.
ويمثّل الشاب الحداد الأعور الضد والنقيض لشخصيات البناء الشاب والفتاة جيوتزة، فهو يتمتع بشخصية خبيثة ولديه لسان سليط ويملأ قلبه الحقد والغرور. فهو لا يجد غضاضة في سؤال الصبي الصغير عن جيوتزة في اشتهاء شهواني فاضح، أو ذم الشيخ الحداد في غيابه، والزعم أن بمقدوره فعل ما يفعله معلّمه العجوز. وفي يوم ما يحاول تحيّن فرصة غياب الشيخ الحداد لإظهار مهارته كحداد يترأس الصبي الأسمر، ويشرع في تصليح المطارق المكسورة في عجلة ورعونة واضحة، وتنتهي محاولاته بالفشل ومطاردة العمال له.
يشهد الصبي الصغير تنامي العلاقة بين الفتاة جيوتزة والبناء الشاب، وكذلك تنامي غيرة الحداد الأعور تجاه البناء الشاب، ومحاولاته للكيد له عن طريق إفساد أدواته الجديدة. ويراقب رحيل الشيخ الحداد المفاجئ والذي لا يضع له مو يان أي تفسير.
الصبي سارقًا.. الصبي باحثًا
"رفع الصبي الفجلة وراح يتأملها تحت ضوء الشمس، وتمنى من أعماق قلبه أن تبدو هذه الفجلة تحت ضوء الشمس المبهر شفافة وذهبية وكريستالية كتلك الفجلة التي سقطت منه في النهر، ولكن هذه الفجلة خذلته. نعم حيث لم تكن شفافة ذهبية، بل كانت خالية من السائل الفضي الذي يكشف عنه غلافها الذهبي؛ فاقتلع فجلة ثانية، ورفعها ليتفحصها تحت ضوء الشمس المبهر؛ فشعر بالإحباط للمرة الثانية، ثم توالت الحركات نفسها بضع مرات، حيث كان يتقدم على ركبتيه ويقتلع الرأس من الفجل ويرفعه ليتفحصه تحت ضوء الشمس، ثم يلقي به بعيدًا، ثم يقتلع ويتفحص ويلقي..". ص 141.
منذ أن وقعت عينا الصبي هي-هاي على الفجلة المتسخة بجوار السنديان حتى أصابته بحالة من الذهول والإعجاب كما لو كانت تسحره، ولما فشل في الوصول إليها وانتهى بها الحال فى قعر النهر، حتى تحول إلى حالة من البحث الدائم، وظل يتخيّل نفسه واقفًا وسط الماء، وأحيانًا أخرى وسط الفجل، وهو يبحث عن فجلته. فهو خاض بقدميه في النهر حتى حسبه الحداد الأعور يرغب في الانتحار غير عالم بأنه يبحث عن فردوسه المفقود.
وفي الوقت عينه يحتدم الصراع بين الحداد الأعور والبناء الشاب بسبب غيرة الأول، والذي كانت له الغلبة إلا أن بكاء جيوتزة سلبه شعوره بالنشوة والنصر وخامره إحساس بالحزن بدلًا منها. وهو ما جمّده في مكانه لوهلة ليستغل البناء الشاب الفرصة للرد عليه. وينتهي القتال بفقدان الفتاة الرقيقة جيوتزة لعينها اليمنى خلال رشق الحداد الأعور للجموع بالحصى، ولما يكتشف صنيع يديه لمحبوبته يهوي على الأرض وتصدر عنه صرخة حادة وأليمة كأنه يدرك أي حياة بائسة تنتظرها.
ولأول مرة خلال فصول الرواية يشعر الصبي الأسمر بالبرد، وعند رحيل البناء الشاب والفتاة جيوتزة واختفائهما، كما الحال مع الشيخ الحداد، ازداد شعوره بالبرد، ولأول مرة غطى جذعه العاري بجاكيت. ولم يعد يتبقى له غير البحث عن فجلته الذهبية.. وهو المسعى الذي ينتهي بالقبض عليه وتجريد رئيس العمال له سترته الجديدة وسرواله وحذاءه ليصبح عاريًا كما ولدته أمه.
وبعد أن يتركه رئيس العمال يفر بعيدًا عنه حتى يلقي نفسه وسط حقول الجوت(شجيرات لصناعة الحقائب والأحذية والأقمشة) الواسعة، ويشعر بداخلها بالأمان وكأنه سمكة تسبح وسط محيط كبير. ثم يتعالى صوتًا مناديًا.. لا نعرف إن كان حقيقي أم نابع من ذكراه، يعود للغائبين جيوتزة والشاب البناء "أيها الصبي الأسمر، أيها الصبي الأسمر".
وفي النهاية ينبغي التعقيب على الترجمة العربية التي قدمها حسانين فهمي حسين للنص، فقد قام بترجمة نصوص الحوارات إلى اللهجة العامية المصرية، والتي أراها غير موفقة تمامًا، وأفقدت النص جزءاً كبيراً من روحه. فهو يضعني أمام عبارات من تربة الريف المصري، الأمر الذي جعلني في مواضع عدة أتساءل جديًا عن مدى جدوى تلك المحاولة فقد فشلت في كل مرة التهيئة واستقبال النص بروح الريف الصيني.