الروائي المصري صنع الله إبراهيم يتحدث للميادين نت عن روايتيه "67" و"برلين 69"

بعد فوز الكاتب المصري صنع الله إبراهيم بجائزة كفافيس للأدب لعام 2017 نعيد قراءة روايتيه المهمتين، "67" و"برلين 69"، ليس فقط لأنهما تعدان امتداداً أو لأنهما تشكلان كما يبدو رواية واحدة في جزئين، لكن لأنهما تقفان عند طرفي خيط طويل يربط المسيرة الإبداعية لكاتبنا المبدع. فالأولى كتبت مباشرة بعد هزيمة عام 1967 والثانية بدأ كتابتها عام 2011 وأنهاها في نيسان إبريل من العام 2017، وبينهما أمتعنا إبراهيم بالعديد من الأعمال. ولكن تبقى لهذين العملين خصوصيتهما التاريخية والإبداعية.

رواية "67" للروائي المصري صنع الله إبراهيم

رواية "67" هي مرآة لهزيمة 1967 من خلال يوميات فرد مثقف في مجتمع ستيني مقموع. إنها، كما يصفها صنع الله إبراهيم، تشريح نفسي للحالة السياسية التي خلقها النظام الناصري في مصر في حقبة الستينات من القرن الماضي.

تتقاطع رواية "67" - وهي الرواية الأولى التي كتبها إبراهيم والتي نشرت 2017 عن دار الثقافة الجديدة- في القاهرة مع روايته الأولى، "تلك الرائحة" المنشورة عام 1966، والتي عكست حال مصر قبل الهزيمة بعام واحد، حيث تشتركان في الفترة الزمنية وفي ملامح شخصية البطل.

كتب صنع الله إبراهيم "67" في بيروت عام 1968 حينما غادر القاهرة لأسباب سياسية، مصطحباً معه كل أشيائه وكتبه، وكأنه لن يعود أبداً. قضى في بيروت بضعة شهور، كان ينتظر تصريحاً بالسفر بعد ما اتفق مع وكالة ألمانيا الديمقراطية على العمل معهم كمحرر صحافي. عمل وقتها في بيروت في ترجمة وتلخيص بعض الروايات الأميركية الهامة لصالح جريدة النهار، كما يقول إبراهيم في مقدمة روايته "67". ويضيف أنه لم يفكر في محاولة نشرها في مصر لظروف الرقابة وقتها، "وشجعني جو السماح السائد في لبنان فقدمتها إلى عدة دور للنشر رفضتها جميعاً، منها دار الآداب التي أسسها سهيل إدريس، والذي برر رفضه بأن بطل روايتي مصاب بهوس الجنس".

عند عودتي إلى مصر عام 1974، يستطرد الكاتب، كنت قد نسيت أمر رواية "67" وانشغلت بأعمالي التالية، كما أنني وجدت أن الأجواء السياسية السائدة وقتها لا تساعد على نشر رواية كُتبت بحرية تامة، كما خشيت أن تستخدم من قبل القوى اليمينية في حملاتها ضد الناصرية والاشتراكية. بعد ثورة 25 يناير – كانون الثاني 2011، وأثناء مراجعة الكاتب، كما يقول، لأحد المخابىء التي استخدمها تحسباً لزيارة مفاجئة من رجال السلطة، عثر على مخطوط الرواية وكان قد نسي أمرها تماماً وداعبته على الفور الرغبة في نشرها. فقد تبين الدور الذي تمثله كحلقة من حلقات تطوره الإبداعي وشهادة على فترة حافلة في تاريخ البلاد.

كُتبت "67" بالكامل أثناء إقامته في بيروت، كيف لم يتجلَّ تأثير المكان مطلقاً في الرواية؟ سألته في لقاء امتد لحوالي الساعة في مكتبه بدار الثقافة الجديدة في القاهرة. أجاب إبراهيم: "بالتأكيد كان للمكان تأثيره، حيث خرجت الكتابة بلا قيود، حرة بالشكل الذي أردته، بعيداً عن القيود التي فرضتها حالة الطوارىء في مصر بعد هزيمة 67".

ألتقط الكلمة، الهزيمة، فأسأله ما الذي تعنيه لك الآن؟

"الهزيمة... شكّلت نهاية مرحلة وبداية مرحلة مستمرة حتى هذه اللحظة، مرحلة الرضوخ التام لإرادة قوى أجنبية. هذه هي الهزيمة. وهي جاءت معبّرة أيضاً عن فشل منظومة سياسية تنفرد باتخاذ القرار السياسي. تميزت تلك المرحلة بإقرار العدالة الاجتماعية وغياب الحرية السياسية. أتصور أن الهزيمة ما زالت مستمرة حيث هناك انفراد بالقرار السياسي وما زاد هو عدم مراعاة العدالة الاجتماعية،" يقول صنع الله إبراهيم بشكل قاطع لا مهادنة فيه كعادته دوماً.  

بطل رواية "67" شاب مثقف يحمل روحاً مستقلة متمردة، في الثلاثينات من عمره يعمل صحافياً، مولع بالجنس، يقيم في منزل أخيه وزوجته وابنتهما الصغيرة في مصر الجديدة، أحد أحياء القاهرة البرجوازية. يقيم البطل علاقة جنسية مع زوجة أخيه. يتصرف بكثير من الشذوذ، قد يكون مدعاة للضحك أحياناً، مولع بالتحرش بالنساء في المواصلات العامة وفي أماكن العمل.

 

ظاهرة التحرش الجنسي

الروائي المصري صنع الله إبراهيم خلال حديثه مع الميادين نت

من يقرأ الرواية، لا يكاد يصدق أن آفة التحرش قد بدأت منذ الستينات، ذلك العقد التنويري بامتياز، كيف حدث ذلك؟

يجيب إبراهيم: "في نهاية الستينات كان التحرش الجنسي أمراً واقعاً في المجتمع المصري. أتذكر أن حجازي، فنان الكاريكاتير المعروف كان يفرد رسوماً خاصة بهذا الشأن على أغلفة مجلة صباح الخير. وبالرغم من ذلك كانت السيدات يمارسن حريتهن في ارتداء الملابس القصيرة بل كن يلتزمن بآخر صيحات الموضة".

ماذا كانت تعني ظاهرة التحرش، ما زلت لا أفهم؟

"لا شك أنها كانت هناك حالة من الكبت الجنسي موازية لحالة من الارتباك النفسي..."، يقترح إبراهيم.  أقاطعه، يبدو أننا كجيل تسعيني نرى مرحلة الستينات بشكل وردي حالم، ولكنها لم تكن كذلك تماماً!

"بالطبع كانت مرحلة تنويرية ولكن كانت لها مشاكلها أيضاً. كل عصر له مشاكله الخاصة، ولكن فيما يتعلق بعلاقة المرأة بالرجل كانت هناك مساحة من القبول والتسامح. سأعطيك مثالاً، بعد ما عدت إلى القاهرة عام 1974 أقمت في منزل أختي بعض الوقت، كانت لها جارة تقاربنا في السن، استقبلتني تلك الشابة بترحاب شديد، وقامت بالاحتفاء بي بأن جلبت زجاجة من النبيذ لنحتفل معاً، ببساطة ومن دون أية مقاصد أخرى. من المستحيل أن يحدث ذلك الآن، بعد زحف الموجات الوهابية من الخارج وترييف المدينة من قبل موجات الهجرة الداخلية".

ويضيف إبراهيم-الذي يبدو، وقد بلغ الثمانين هذا العام، رشيقاً، مرهف الحس، حاضر الذهن، ولكنه متجهماً بعض الشيء- أن مغازلة الرجال للنساء كان موجوداً في الخمسينات، وكان أمراً مقبولاً. "في أي مكان في العالم، التحرش موجود حتى في المجتمعات الأوروبية. ولكن، حينما ينقلب الأمر إلى اعتداء جسدي يكون جريمة وليس تحرشاً".

تنقسم رواية "67" التي يبلغ عدد صفحاتها 158 من القطع المتوسط إلى اثني عشر فصلاً، كل منها يمثل شهراً في عام 1967، تبدأ في شتاء القاهرة. يناير –كانون الثاني 1967 حيث يلقي بنا الكاتب منذ البداية في صخب الاحتفال برأس السنة حيث الراوي-البطل يحتفل في منزل أخيه مع أصدقائه وأقاربه بالعام الجديد. تبدو العلاقات أكثر حميمية من مثيلتها الآن، حيث أفسدتها موجات التديّن المصطنع. إذن الجميع هنا – يفاجىء القارىء من اللحظة الأولى بعدد من الشخصيات المتداخلة التي لا يعرف القانون الذي يحكم علاقتها بعضها ببعض- يحتسي الويسكي والبراندي، وتبدو العلاقات متقاطعة وحميمية بألفة شاذة بعض الشيء ولكنها ليست مصطنعة: يقول البطل/ الراوي في الفصل الأول:

"فلتُ لإنصاف: لو جاءت ابنة أختها الليلة سأطلب منها أن تتزوجني. نظرت أنصاف إلى زوجة أخي وقالت إن لها ذراعين جميلتين، وكانت زوجة أخي تتحدث باستغراق مع رجل لا أعرفه. كانت ذراعاها بيضاوين ممتلئين بانسياب ... حتى راحة اليد ومشدودتين ... ورأيت كأسها فارغاً فحملت كأسين لها ولرفيقها. توقفا عن الحديث بمجرد اقترابي وقدمته إليّ على أنه صديق أخي. ناولتهما الكأسين وعدت إلى طاولة الشراب فحملت كأساَ أخرى وبحثت عن أخي فوجدته في غرفته مع الرجل الأنيق ذي الوجه المحتقن المتعب وامرأة تبدو زوجته."

الشخصيتان المحوريتان في الرواية هما البطل/الراوي، الذي لم يمنحه الكاتب اسماً، وزوجة أخيه. تبدو زوجة الأخ شخصية مماثلة لشخصية بطل الرواية: امرأة جميلة، قوية، شديدة الثقة بأنوثتها وقدرتها على الإغواء، مسيطرة، مستقلة، ولا تشعر بحرج كبير في أن تقيم تلك العلاقة الجنسية في منزلها أو منزل أحد أصدقائهما.

 

 

المرأة المصرية في الستينات

الروائي المصري صنع الله إبراهيم

هل كانت المرأة بهذه القوة في الستينات بالفعل؟

"بالطبع، كانت نتيجة تلك المشاريع الصناعية التي أقامها النظام الناصري في الستينات أن جاورت المرأة الرجل على الماكينة ذاتها، وأدى ذلك إلى انقلاب في قيم المجتمع. في عام 1966 شاهدت بنفسي امرأة تعمل "كمسارية" (تبيع التذاكر) في الباصات العامة، ترتدي الاوفرول تخوض في الزحام في وسط الناس لتؤدي عملها. استمر ذلك حتى حدثت الهزيمة التي قضت على كل المحاولات التنويرية،" قال إبراهيم مبتسماً ابتسامة ساخرة.

في الفصول الخمسة الأولى للرواية لم تكن هناك توطئة لهزيمة حزيران يونيو 1967. هناك اختزال للمشهد السياسي، حتى على مستوى الكلمات المتداولة، على سبيل المثال، استبدل الكاتب كلمة "خطاب التنحي" للرئيس جمال عبدالناصر بالخطاب السياسي. كما أن إسرائيل ذُكرت مرتين فقط، مرة واحدة وصفها الكاتب "بالعدو" والمرة الثانية "الجيش الإسرائيلي".

في فصل مايو، قبل الهزيمة، يبدو أن هناك انشغالاً طفيفاً بالأجواء السياسية. يبدو الهم الجنسي-حيث تتكرر المشاهد الجنسية بكثافة من خلال علاقة البطل بزوجة أخيه أو بنساء أخريات- أكثر إلحاحاً: "عند الظهر غادرت الجريدة وذهبت إلى منزل إنصاف وجدت عندها صادق وزوجته وكانوا يتحدثون عن احتمالات الحرب. قال صادق إنها 80 بالمائة قالت إنصاف الظاهر أن لا مفر منها. سألني صادق عن رأيي فقلت: لا أعرف."

تنتمي الروايتان "67" و"برلين 69" إلى تيار الكتابة الواقعية، ففي "67" يعيش القارىء الحياة اليومية لفترة الستينات، التي لا تختلف تفاصيلها كثيراً عن الحياة اليومية في القاهرة بعد مرور أكثر من أربعين عاماً، ربما فقط تبدو أكثر بساطة ونظاماً عما يعيشه القاهريون الآن. تتخلل الرواية مشاهد سريالية قليلة، منها الكابوس الذي انتاب البطل فتخيل عنكبوتاً ضخماً ينقض عليه.

اللغة في الروايتين موجزة. تؤدي غرضها بشكل مباشر وبسيط، مبتعدة عن الشاعرية والرطانة والفخامة الأسلوبية بل وعن المجاز أو التشبيه والوعظ أيضاً. "يمكنك أن تقولي أن هذه سمة كتابتي بشكل عام..هناك بعض السمات المشتركة التي تجمع أعمالي مع عدد قليل من كتاب الستينات مثل إبراهيم أصلان"، يؤكد إبراهيم.

ما مدى علاقة رواية "67"  بكتابة الستينات بشكل عام؟

يقول إبراهيم إن فترة الستينات فترة فارقة سياسياً، حيث اجتاحت ثورة الشباب أماكن عدة في العالم. كان الشباب ثائراً على كل القيم القديمة، بما فيها المفاهيم الجنسية التقليدية.

من السمات الرئيسية للرواية، ذلك الحياد القاطع الذي التزم به الراوي، فهو لا يفصح عن مشاعره، لا يتبنى موقفاً أو يعبّر عن رأي، يبدو هذا الحياد محيراً، مع الأخذ في الاعتبار أن الراوي/ البطل يعمل صحافياً في إحدى الجرائد القومية، هل هذه سمة لصيقة بكتابة اليوميات أم بكتابة الستينات بشكل عام؟

يعتبر إبراهيم أن الحياد هو سمة من سمات الكتابة الحديثة، بدءاً من هيمنغواي وألبير كامو، حيث لا يفصح الكاتب مباشرة عن رأيه، وبرغم ذلك فرأيه موجود في ترتيب الجمل وتصوير مواقف بعينها، من دون أن ينفعل. كما أن البطل/الراوي يشعر باللا جدوى وخيبة الأمل من الأوضاع السياسية والاجتماعية.

ويستطرد: "هو ليس حياداً ولكنه أسلوب بارد، وهو الوجه المقابل للانفعال والصوت العالي والشاعرية تلك التي كانت تميّز بعض الكتابات السياسية والأدبية في الستينات. تجريد الأسلوب من الانفعالية الشديدة، نوع من التمرد على الأساليب الفنية القديمة المترهلة".

تنتهي الرواية بتصميم البطل على إنهاء علاقته بزوجة أخيه وحزم أمتعته ومغادرة البلاد، مما يرمز إلى رفض كامل لتجربته الشخصية، وربما للتجربة الناصرية برّمتها، التي لم تؤتِ ثمارها الاجتماعية والسياسية المرجوة.

 

رواية "برلين 69"

رواية "برلين 69" للروائي المصري صنع الله إبراهيم

بدأ صنع الله إبراهيم في كتابة رواية "برلين 69"، التي نشرتها دار الثقافة الجديدة عام 2014، عام 2011 أي بعد أكثر من أربعين عاماً على زيارته لبرلين التي امتدت من عام 1968 وحتى عام 1974، حينما قرر العودة إلى القاهرة. اعتمد إبراهيم في كتابتها على عدد من المدوّنات التي سجّل فيها الحياة اليومية أثناء إقامته في برلين.

"تجسد "برلين 69" مجتمع ألمانيا الشرقية، مجتمع يحقق المساواة الاجتماعية بشكل مثالي، حيث لا توجد بطالة ولا يعاني أحد من عدم وجود مسكن، وهو أمر كان يفتقر إليه سكان ألمانيا الغربية في ذلك الوقت حيث كان ينام الكثير من الشباب على الأرصفة أو في مبانٍ صغيرة أقرب إلى الأكشاك. في الوقت ذاته، كانت هناك مشكلة في ألمانيا الشرقية فيما يخص الحريات السياسية، تقريباً كما كان الحال في مصر في الستينات، وهو ما أرفضه تماماً"، يقول إبراهيم.

يحمل عام 1969 خصوصية تاريخية: حيث حركة الطلبة الألمانيين وهي حركة معارضة حدثت في أواخر الستينات في ألمانيا الغربية، حيث كانت رد فعل على التسلط والنفاق الذي ساد أداء حكومة ألمانيا الغربية في الستينات والأحوال المعيشية السيئة للطلبة. وبشكل موازٍ كانت مصر تخوض حرب الاستنزاف.

تعد "برلين 69" والتي تستغرق 251 صفحة من القطع المتوسط، استكمالاً بشكل ما لرواية "67"، حيث يحمل بطل الرواية، وقد منحه الكاتب اسم صادق الحلواني هذه المرة، السمات ذاتها. تفتتح الرواية بمشهد وصوله إلى برلين وبداية اندماجه في العمل في القسم العربي لوكالة الأنباء الألمانية.

سافر صادق إلى ألمانيا ليس بدافع تحسين أحواله المعيشية ولكن لتحقيق "حلم ثقافي". ربما لهذا السبب تكثر المقارنات التي يعقدها صادق ما بين القاهرة وبرلين: الطقس، المناخ السياسي، الأحزاب الشيوعية بين أشياء أخرى. "..ربما كنا على حد قولك نحمل مشاكلنا داخلنا. على كل ما زلت عند فكرتي، أن أسافر وأعمل وأستمتع. أريد أن أعطي نفسي فرصة جديدة. في الحقيقة أريد فرصة أولى...أريد أن تعمل وظائف عقلي وجسدي بشكل طبيعي. أن أفكر من دون خوف من عقاب. أن أراقب وأنتقل بغير هدف. قد يبدو هذا رومانطيقياً في عصر الجليد هذا..."، يقول صادق الحلواني في الفصل الرابع من الرواية.

تتمحور الرواية إذن حول حياة صادق-الذي يبدو هنا-أكثر ثقة في ذاته كمصري مثقف بين أقرانه من الصحافيين العرب. للبطل أيضاً هنا مغامراته العاطفية ولكنها تبدو أكثر رزانة، وندية في تعامله مع المرأة الألمانية، ولكنها تعكس القليل من الارتياح والسعادة.

نقرأ بشغف تفاصيل حياة البطل اليومية في برلين الشرقية وتنقله إلى برلين الغربية، ناقلاً الأجواء ما بين الألمانيتين. في ألمانيا الغربية التي يحمل البطل تصريحاً بزيارتها، يرصد الكاتب "الزحام، السيارات الأميركية الحديثة، الباصات الأنيقة، الطلبة والشبان بملابس مهملة وشعور طويلة...التظاهرات. المباني العالية والسينمات الكثيرة، الصحف اليمينية واليسارية والفنون وحوانيت الجنس".

هنا أيضاً سرد-لا يشوبه الملل- لتفاصيل الحياة اليومية. في هذه الرواية، ينمو شغف أكبر لدى القارىء لمعرفة روتين الحياة اليومية في برلين في نهاية عقد الستينات، حيث ثورة الشباب التي اجتاحت أوروبا، والتمرد التام على كل القيم السائدة في عقد الستينات.

يقيم البطل علاقة جنسية مع "إنغمار" زميلته الألمانية في الوكالة، وهي امرأة في منتصف العمر مطلقة ولديها طفل، ثم ينتقل للإقامة معها في بيتها. تتسم علاقتهما بالفتور والحيادية بالرغم من التزام البطل بطقوس العلاقة.

تنقسم الرواية إلى مدخل وخمسة فصول، كل فصل مقسم داخلياً إلى أجزاء. في نهاية الفصل الثاني مشهد إيروتيكي غير مكتمل مع فتاة صغيرة تدعى إلكا، عاملة في مصنع للمشغولات البلاستيكية. يتجلى هنا ضوء خفيف على الاختلاف بين العقليتين الشرقية والغربية: "أحطتها بذراعي فلم تمانع. قلت: أنا معجب بك وأتمنى أن تدوم صداقتنا. قالت: صداقاتي لا تدوم عادة وهذا يضايقني. ربما تستطيع تغييري. سألتُ: ألا يزعجك أني أجنبي؟ قالت: أنا أنظر إلى الأجنبي كإنسان مثلنا...أعجب لمن يحملون مشاعر ضد الأجانب."

هنا أيضاً شخصيات عديدة لدرجة قد تثير الارتباك ولا يتبقى في الذهن سوى شخصيتين أو ثلاث بالكاد.

أتساءل، لماذا قررت كتابة "برلين 69" في عام 2011 تحديداً؟

"هذا سؤال جيد، ولكن، امممم، ليس هناك سبب محدد، ولكنه كان مشروعاً قائماً ضمن مشروعات عدة. طوال أربعين عاماً وأنا منشغل بالشكل الذي يمكن أن تخرج به هذه الرواية. لم أكن أرغب في كتابتها حينما كانت ألمانيا الشرقية ما زالت قائمة. لأن الأمر كان سيبدو وكأنني أطعن صديقاً في ظهره".

في نهاية الرواية تنتحر هايدي بعد أن تم تجنيدها من قبل الأمن في ألمانيا الشرقية للتجسس وكتابة تقارير عما يدور ما بين الرفاق من الصحافيين العرب. "لقد تم الاعتداء على تكاملها النفسي وأصبح الملاذ الوحيد لها هو الزواج بأحد هؤلاء الرفاق والسفر معه إلى بيروت والهروب من أسرتها إلى الأبد. حينما انهار حلمها بالزواج بعد مشاجرة معه اتخذت قراراً فورياً بالانتحار. وهذه إدانة واضحة لنظام ألمانيا الشرقية برّمته،" يقول إبراهيم.

تثير الروايتان بعض التساؤلات لدى القارىء حول تصنيفهما الأدبي، هل ينتميان إلى السيرة الذاتية أم إلى كتابة اليوميات؟ "لا، هي ليست كتابة سيرة ذاتية، ولكنني أحب أن أستخدم صيغة الأنا في كل أعمالي وربما تقمصت إحدى شخصيات الرواية"، يوضح إبراهيم.

ولكن، تستدعي قراءة الروايتين برغم تباعد زمن كتابتهما- بسبب ما  يجمعهما من تشابهات في الإيقاع والسرد والحياد، وأيضاً التشابه الكبير بين بطلي الروايتين- التساؤل التالي: ما جدوى التصنيف الخاص بالأجيال الأدبية..ما معنى كتابة ستينية أو تسعينية أو ألفينية؟ "ربما حدث التشابه بسبب طبيعة الملاحظات التي دوّنتها. تسجيل الأحداث التي قد تبدو غريبة. وربما أيضا لأنني منحت الأحداث دور البطولة لتفصح عما وراءها".

هل معنى ذلك أنك قد قصدت منح الحدث اليومي أهمية أكبر من تلك التي للشخصيات، بالرغم من كثرتها؟ "بالتأكيد. لاحظي أن كل كاتب له سماته اللصيقة التي قد تتكرر بتلقائية في كل أعماله. إنني تماماً مع الكتابة الصريحة العلمية الموجزة. العلمية، كما علّمنا يحيا حقي، بمعنى الإفادة، المعرفة. بمعنى أن تقول مشيت لمسافة تسعة كيلومترات مثلاً، بدلاً من أن تقول مشيت لمسافة طويلة. وهو أمر يتناسب مع تحضر المجتمعات". ويستطرد:"أن الحياد والاضطراب في شخصية البطل في الرواية الأولى "67"، كان بسبب الهزيمة والجو البوليسي الذي كان موجوداً في مصر وقتها. وبالتالي كان لديه تطلع لأفق آخر. في "برلين 69" كان البطل مضطرباً أيضاً لشعوره بأنه ليس في المكان الصحيح، وكان عاقد العزم على الرحيل بسبب ظروف الحياة: البرودة الشديدة، اختلاف اللغة، والشخصية الألمانية التي تتسم بالانضباط الشديد،"، قال وهو يطلق ضحكة قصيرة مفاجئة. ثم حكى لي عن شاعر عربي يساري كان يعيش معه في برلين وكان ينتهز فرصة الخروج من حدود ألمانيا في العطلات لكي يبصق على الأرض، تعبيراً عن حريته المفتقدة في البصق في شوارع ألمانيا. واصلنا الضحك. "أعمل حالياً على عدد من المشروعات الأدبية ولكني لا أحب الحديث عن التفاصيل قبل الانتهاء منها".

إذن ..لقد انتهيت من تساؤلاتي، قلت ُبعد أن أغلقت صفحة الملاحظات ونظرت إلى وجهه الشاب المتمرد دوماً. "فعلاً؟ طيب الحمد لله" علّق، منهياً حديثنا الرائق بابتسامة طفولية مندهشة.

 

*رانية خلاف كاتبة وصحافية مصرية.