حلب: سطوع وأفول أعظم مركز للتبادل التجاري في سوريا

للمدن ديناميتها الخاصة، فالجغرافيا والاقتصاد والثقافة كلها عوامل تساعد المدن على تحدي قوة المواطنة والدين. إن التواصل اليومي بين الناس يمكن أن تكون له سطوة أكثر من إملاءات الطوائف والدول.

كتاب "حلب: سطوع وأفول أعظم مركز للتبادل التجاري في سوريا"لفيليب مانسيل

مدينة حلب، على وجه الخصوص، هي مدينة تتحلى بإيقاع خاص بها، يتحدى الفئوية والتعميمات. فموقع المدينة بين الصحراء والبحر وجبال الأناضول وضفاف نهر الفرات جعل منها مدينة ذات تنوع ثقافي وديني عربي-تركي، كردي – أرمني، مسلم ومسيحي، ويهودي.  إنها مدينة تتحدث بالعربية وذات غالبية مسلمة.

شكّلت حلب في ظل الحكم العثماني مركزاً للثقافة الفرنسية والبعثات الكاثوليكية. ومثلها مثل سائر المدن في المنطقة، شكّلت حلب مزيجاً من الحضارتين الشرقية والغربية والديانتين الإسلامية والمسيحية. وقد تميزت حتى عام 2012 بطابع مسالم.

عاش سكان حلب معاً منذ 500 عام على اختلاف أصولهم في انسجام.

ويهدف هذا الكتاب المعنون "حلب: سطوع وأفول أعظم مركز للتبادل التجاري في سوريا" لمؤلفه فيليب مانسيل الى تناول أسباب هذا التوافق وأسباب الكارثة الحالية التي ألمت بالمدينة. فمدينة حلب هي من أقدم المدن في العالم التي ظلت مأهولة بشكل مستمر. وللمدينة أهميتها التاريخية منذ آلاف السنين وفيها من الآثار التي تدل على ذلك. إن موقعها الجغرافي جعل منها مدينة تجارية كبرى.

ويسلّط هذا الكتاب الضوء على تاريخ حلب أثناء وبعد الحكم العثماني. ووفقاً لمؤرخين محليين فقد رحب أهل حلب بالغزو العثماني بعد أن استاؤوا من الأعباء الضريبية المبالغ بها وغياب القانون في عهد المماليك.

في عام 1520 قام تمرد ضد الحكم العثماني في دمشق غير أن مدينة حلب بقيت على ولائها للدولة العثمانية وقد استمر هذا الولاء نحو 400 عام.

أثبتت حلب بأن الإمبراطورية ليست فقط عبارة عن استبداد إمبريالي ودولة مسلمة تركية، ولكنها أيضاً عبارة عن مجموعة من المجتمعات المختلفة التي ظلت كل واحدة منها تتمتع بخصوصيتها لناحية إتباع الديانة والتقاليد التي تعتنقها. فإن المصلحة الشخصية والواقعية أثنتا سكانها عن محاولة التمرد.

ومن ناحية أخرى، فطالما هناك اعتراف بالهيمنة ويجري تسديد الضرائب، كان يمكن للإمبراطورية أن تعتمد سياسة متساهلة في إدارتها للحكم. فقد وجدت حلب دولة تناسبها من حيث الموقع الجغرافي والناحية الاقتصادية، فهي لم تعد مدينة حدودية إنما أصبحت مركزاً تجارياً مهماً في وسط الإمبراطورية.

وكانت حلب بمثابة قاعدة عثمانية خلال الحروب العثمانية المتكررة مع إيران في ظل حكم الصفويين.

كان ملك فرنسا من أهم حلفاء السلطان العثماني منذ عام 1535 حيث وحّدهما الخوف المشترك من نفوذ كل من إسبانيا والنمسا، وكذلك الرغبة المشتركة في توسيع التجارة. وقد انعكس هذا التحالف العثماني – الفرنسي إيجاباً على حلب لمدة 400 عام لاحقة. وبدأت حلب اكتساب الطابع العثماني في خاناتها وجوامعها ونوافيرها بالإضافة الى المباني ذات الطابع الأموي والأيوبي والمملوكي.   

ويذكر الكاتب بأن السلطة العثمانية لم تواجه أي نوع من التهديد في حلب باستثناء خطر واحد جاء من عائلة كردية تسمى جانبولاد أوغلو وهي العائلة التي تحدر منها آل جنبلاط، زعماء الدروز في لبنان حالياً.

وهكذا فقد أنتج الغزو مدينة حلب العثمانية ثم جعلت منها التجارة مدينة عالمية. وقد باتت حلب بمثابة وجهة طبيعية للتجار بمفضل موقعها عند ملتقى الأناضول والهلال الخصيب وصحراء سوريا حيث اتصل طريق الحرير مع البحر الأبيض المتوسط. وقد توافدت قوافل الجمال كل سنة من الهند وإيران والخليج وإرضروم ودمشق وشبه الجزيرة العربية حيث كانت حلب محطة توقفهم قبل مباشرة سيرهم نحو الإسكندرون على البحر المتوسط وسميرنا على بحر إيجه أو القسطنطينية.

وصف  الدبلوماسي الفرنسي جاك غاسو حلب بأنها مركز تجاري مهم يتفوق من الناحية التجارية على القسطنطينة وعلى أي مدينة أخرى في الشرق. أمّا الرحالة الانجليزي توماس كورياتي  فقد ذكر بأن حلب هي أهم مركز تجاري في سوريا بل في المشرق.  

نمو حلب التجاري

منظر عام لمدينة حلب
شهدت حلب بعد عام 1590 نمواً متزايداً عندما فتحت الإسكندرون رسمياً للتجارة العالمية على يد الحكومة العثمانية والتي تبعد بالطريق البري 75 ميلاً (أي ما يعادل 121 كيلومتراً) عن مدينة حلب.

مع بداية عام 1600 أصبح في مدينة حلب 53 خاناً و56 سوقاً. وكان يقام على الأقل ثماني أسواق يوم الجمعة من كل أسبوع خارج أسواق المدينة لاستقبال التجار الوافدين من المناطق الريفية المجاورة لمدينة حلب لكي يبيعوا منتجاتهم في هذه الأسواق. كانت هناك لاحقاً عشرة أبواب حول أسوار المدينة جرى إطلاق أسماء هذه الأبواب على أحياء المدينة منها: باب أنطاكية وباب النصر وباب الفرج.

ويذكر الكتاب أن حلب هي ثالث أكبر مدينة في الإمبراطورية العثمانية بعد إسطنبول والقاهرة. ومن أهم المنتجات التي كان يتم تصديرها، الحرير والصابون والتوابل وشعر الماعز. أما النسيج فكان من أبرز المنتجات التي يتم استيرادها، وكانت إنجلترا في أوائل القرن السابع عشر تبيع كل سنة نحو 12000 قطعة من الملابس التي تعرف باسم "لوندرا".

ومنذ منتصف القرن السادس عشر لعب الأرمن دوراً لافتاً في إدارة تجارة الحرير مع إيران. في عام 1616 أُنشئت كاتدرائية الأربعين شهيد كمقر للبطركية الأرمنية مما يعكس البروز المتزايد للأرمن. وقد ذهل الرحالة الأرمني في عام 1617 عندما شاهد ازدهار الأرمن وتفوق مدارسهم في مدينة حلب ذات الشهرة الواسعة. ويذكر أن تجاراً من مدينة البندقية (فينيسيا) الإيطالية كانوا يتوافدون أيضاً الى مدينة حلب حيث ازدهرت تجارتهم هناك.

وكانت القوافل تأتي أيضاً من الصحراء العربية لبيع الأحصنة التي يقبل على شرائها الأوروبيون لأنها سريعة مقارنة بسلالة الأحصنة لديها.

أصبحت حلب في ظل الإمبراطورية العثمانية مدينة من مدن المشرق العربي حيث تقع قرب الحوض الشرقي للمتوسط وقد كانت لها خصائصها ميزتها عن المدن الأخرى منها: اعتبارها مركزاً للتجارة الدولية، وجود قنصليات أجنبية فيها، استخدام اللغات العالمية مثل اللغة المشتركة "لينغوا فرانكا" أو اللغة الايطالية المكسورة ثم الفرنسية بعد ذلك، والتسامح النسبي والتوازن العددي بين المجتمعات المختلفة بحيث لم تطغَ أي طائفة على أخرى.

وهكذا أصبحت حلب مدينة القنصليات حيث نشأت فيها أقدم القنصليات التابعة للدول مثل فرنسا وانجلترا وفينيسيا. وباتت هذه القنصليات بمثابة مصدر للمعلومات، وعلامة تجدد وضيافة، فعلى سبيل المثال عملت القنصلية الإنجليزية كمركز للأبحاث. وكان التجار الأوروبيون بشكل عام ينجزون أعمالهم التجارية مع التجار المحليين من خلال مترجمين يهود أو مسيحيين – غالباً عن طريق استخدام لغة إيطالية مبسّطة عُرفت بـ"لينغوا فرانكا".

واستقبلت حلب رحالة من شمال أفريقيا وإيران والهند وأوروبا وكانت دائماً محطة استراحة في الطريق الى الهند. وكان يجد هؤلاء المسافرون في المدينة الكثير من المحال التجارية والأطباء والمرشدين والقوافل. 

التسامح الديني في حلب

قلعة حلب الأثرية
يتناول الفصل الرابع من الكتاب كيف كان أهل حلب يرفّهون عن أنفسهم حيث كان الأغنياء يلعبون لعبة "الجريد" وهي لعبة فروسية يحاول فيها فريقان من الفرسان تسجيل النقاط برمي رماح خشبية على بعضهم البعض. ويتحدث الرحالة البرتغالي بيدرو تاكسييرا الذي زار حلب في عام 1605 عن هذه اللعبة فيقول إن نحو ألف فارس يمارسون هذه اللعبة في كل مساء يوم جمعة. كما أن الرجال كانوا يستمتعون بلعبة الصيد عن طريق الصقور المدربة. فكان اصطياد الخنازير البرية والأرانب والحجل من الأمور الشائعة بين الأجانب. ويذكر الرحالة الهولندي كورنيليس بروين بأنه زار مدينة حلب بين عامي 1683 و1684 حيث وجد الصيادين يشربون نخب صيد كبير أو صيد حيوان مفترس. أما القنصليات فكانت تنظّم الحفلات التنكّرية خلال موسم الكرنفالات.

وكانت الجوامع والمدارس تحتوي على المكتبات، وفي ساحات الجامع الكبير كانت تقام حلقات تدريس. وقد ظهرت المقاهي مباشرة بعد التعرّف على القهوة اليمنية في القرن السادس عشر. ويذكر الرحالة التركي إيفليا تشلبي الذي زار مدينة حلب عام 1671 بأن هناك حوالي 105 مقهى في المدينة. ويتحدث تحديداً عن مقهى أرسلان دادا الذي يصفه بأنه أشبه بالفردوس. وكان الزبائن الذين يترددون الى تلك المقاهي يلعبون الداما والشطرنج ولعبة الطاولة.

وقد أشاد الكتاب بآداب السلوك في المدينة قائلاً: "حلب هي من أروع الأماكن على الأرض: لا مكان يوازيها من حيث تميّز مناخها، وسكانها وطعامها".

ويتحدث الفصل الخامس عن سماحة أهل حلب والتعايش الديني فيما بينهم فقد احتضنت المدينة المسلمين والمسيحيين واليهود الذين عاشوا داخل مجتمعهم قرب الجوامع والكنائس والكنس.

ومن أمثلة هذا التعايش أنه كان يسمح للمسيحيين بأن يمتطوا الأحصنة في الوقت الذي لم يكن يُسمح لهم بذلك في اسطنبول. وكان يجري بيع وشراء الممتلكات بين أطراف المجتمع من دون عوائق.

وكانت الكنائس ترمّم ويتم بناء كنائس جديدة. أما الرهبان فكانوا يرتدون لباسهم ويمشون به في الشوارع.

يذكر أنه في القرن السابع عشر ازدهرت مدرسة تضم عباقرة الرسامين المحليين. وكان المسيحيون يكسبون قضايا قانونية ضد مسلمين، حيث كانوا يفضلون اللجوء الى المحاكم السنّية عن اللجوء الى المحاكم المسيحية، لأن المحاكم السنّية كانت أسرع في إصدار الأحكام والأوفر من ناحية التكاليف حيث كانت تسمح للبنات بالحصول على حصة أكبر من الميراث. وكان يتم اللجوء الى تلك المحاكم أيضاً في حالات النزاع بين الأزواج.

وكانت المحاكم الإسلامية تقبل بالقسم على الإنجيل وعلى التوراة من قبل اليهود.

أما بالنسبة إلى وضع المرأة فيذكر الكتاب بأن 40% من النساء قمن ببيع وشراء المنازل في سبعينيات القرن السابع عشر وبعضهن عملن في السوق.

وقد اعتمدت المحاكم المسلمة سياسة محايدة في البت بالنزاعات حيث كان بمقدار المسيحيين من مختلف الطوائف يرفعون قضاياهم أمام تلك المحاكم. وكان المسلمون والمسيحيون يرتادون المحال التجارية نفسها ويعملون سوياً في ذات النقابات بالرغم من أن تلك النقابات كان يهيمن عليها أعضاء من دين واحد.

وكانت مدينة حلب تضم نحو خمسة آلاف يهودي يعيشون في حي خاص بهم. ويروي الرحالة البرتغالي بيدرو تاكسييرا أن أغلب اليهود كانوا أغنياء من التجار وبعضهم كانوا وسطاء أو حرفيين يعملون في النقاشة والحدادة وغيرها من الحرف المماثلة. وقد احتفظت المدينة منذ القرن الرابع عشر بأقدم نسخة موثقة من التوراة وقد أطلق عليها اسم مجموعة مخطوطات حلب.

اشتهرت حلب في أوائل القرن الثامن عشر بإحياء الأدب العربي بفضل المساهمات اللافتة التي قدمها الأساتذة المسيحيون حيث ضمّت المدينة مدرسين لغة عربية من الديانتين المسيحية والمسلمة.

والجدير بالذكر أن اقتصاد المدينة انتعش بفضل توقف الحجاج المسلمين أيام الحج من كل عام في مدينة حلب وهم في طريقهم الى مكة والمدينة لأداء فريضة الحج.

ويتحدث الكتاب عن فترة الانتداب الفرنسي ودخول القوات الفرنسية الى حلب في 23 تموز/يوليو 1920 حيث لم يعد السلطان العثماني في الأستانة (اسطنبول) يحكم المدينة بل أصبح يدير أمورها المفوض العالي الفرنسي من موقعه في دمشق. فمعظم سكان حلب المسلمين عارضوا الانتداب الفرنسي وقاموا بتظاهرات ضد الوجود الفرنسي.

وفي الوقت الذي كان العثمانيون يقومون باضطهاد المسيحيين في مدينتي اسطنبول وسميرنا اللتين بدأتا تفقدان السكان المسيحيين بسبب الاضطهاد العثماني، فقد حافظت حلب على تعددها الطائفي حيث احتضنت المدينة الهاربين (أرمن وأشوريين وسرياك وأرثوذوكس) من المجازر التي ارتكبها الأتراك والأكراد في الأناضول.

حصلت سوريا على استقلالها من الانتداب الفرنسي في الأول من كانون الثاني/يناير 1944. ومرّ قطار الشرق السريع في مدينة حلب بعصر ذهبي حيث كان يسلك الأقاليم التي كانت تحت سيطرة الحلفاء عبر تركيا الى داخل المحور الأوروبي وقد ارتاده الدبلوماسيون والطلاب الأجانب الذين كانوا يتلقون دراستهم في ألمانيا والأثرياء من رجال الأعمال الأتراك والفلاحون الأكراد.

وبعد ذلك ينتقل الكاتب الى العصور الحديثة بعد الاستقلال وتحديداً الى ستينيات وسبعينيات القرن الماضي عندما انتقل الحكم إلى حزب البعث عام 1970 تحت قيادة الرئيس حافظ الأسد. يقول الباحث إن مدينة حلب شهدت ازدهاراً اقتصاديا وتجارياً ونهضة ثقافية في تلك الحقبة بالرغم من الحكم الشمولي لعائلة الأسد وخاصة بعد أن تولى الحكم بشار الأسد خلفاً لوالده عام 2000 حيث أولى المدينة اهتماماً وكان يتردد عليها أكثر من والده. ولكن حال المدينة تبدل بشكل درماتيكي وماتت الحياة فيها منذ اندلاع الحرب الأهلية عام 2011 تحت ما سمّي بـ"الربيع العربي". وقد إنجرت حلب الى الصراعات الطائفية وتعرّضت الى الهدم وقد تحولت ألف سنة من الحضارة الى أنقاض خلال بعد أشهر من القتال، فقد قبضت هذه الحرب على تاريخ وحياة الناس.

وعرض الكتاب مدونات للعديد من الرحالة الذين زاروا مدينة حلب خلال منذ القرن السادس عشر وحتى القرن العشرين حيث وصفوا المدينة وصفاً جميلاً وقدموا صوراً عن الحياة فيها من حيث التجارة والعلاقات بين سكانها من مختلف الطوائف واندماج الأجانب في المجتمع الذي اتصف بالتسامح وقبول الآخر. فقد كانت حلب على مر العصور رمزاً للعيش المشترك والتسامح.