"الأزمة الأوكرانية وصراع الشرق والغرب"
الطبقة الأوليغارشية كانت السبب الأساس الذي أوصل أوكرانيا لتكون دولة ضعيفة وتتولد منها الأزمة الحالية.
يؤكد الباحث محمد الكوخي في كتابه المعنون "الأزمة الأوكرانية وصراع الشرق والغرب"، الصادر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات في بيروت عام 2015، أن اختلاف المواقف حول الأزمة الأوكرانية يعبّر عن مدى تعقيد هذه الأزمة وتعدد أسبابها بين عوامل داخلية وحسابات جيو ستراتيجية دولية ومصالح محلية وإقليمية ودولية متداخلة ومتناقضة. فمنهم من "يراها ثورة شعبية ضد النظام الفاسد المستبد على منوال الثورة الرتقالية"، ومنهم من يراها جولة جديدة من الصراع بين روسيا والغرب، ومنهم من يراها شكلاً من أشكال الحرب الأهلية الداخلية في مجتمع منقسم على نفسه.
يعتبر الكتاب أن انفجار الأزمة الأوكرانية الحالية أبرز تجلّيات هذه المرحلة التاريخية الجديدة في العلاقات السياسية الدولية والصراع بين روسيا والغرب. ويرى الباحث أن هذه الأزمة هي تعبير عن مخاض ناجم عن نهاية حقبة تاريخية ماضية وبداية حقبة تاريخية جديدة في ظل لعبة شد الحبل بين الشرق والغرب.
يشير الكوخي إلى أن في الإمكان فهم الأزمة الأوكرانية الجديدة في سياق تاريخي عام، محلي و إقليمي ودولي، يشهد إعادة تشكيل حدود دول ما بعد الدولة السوفياتية في منطقة الشرق الأوروبي، وإفلاس الدولة الأوليغارشية في عدد من هذه البلدان، ويشهد صعود روسيا كقوة إقليمية ودولية كبيرة تحاول استعادة نفوذها في ما تعتبره مجالها الحيوي على الصعيد الإقليمي، وتراجع دور دول أوروبا الغربية وحلف شمال الأطلسي (الناتو).
تحاول هذه الدراسة أن تدرس الجذور المختلفة للأزمة الأوكرانية الجديدة في كل أبعادها السياسية الإقتصادية والإستراتيجية وماَلاتها المستقبلية.
يؤكد المؤلف أنه لعل أهم ما نتج عن الأزمة الأوكرانية الجديدة هو عودة روسيا إلى الساحة الدولية كقوة جديدة منافسة للولايات المتحدة الأميركية والإتحاد الأوروبي.
استفادت روسيا من المتغيرات الدولية سواء ما حدث من تراجع للقوة الأميركية خاصة بعد انسحابها المخزي من أفغانستان، أو ما حدث للإتحاد الأوروبي من مشكلات متراكمة، فيرى المؤلف أن روسيا ترغب في العودة إلى الساحة الدولية كقوة عالمية كبيرة يجب أخذها بالحسبان في صراع المصالح ولتحقيق ذلك استفادت من مسألتين:
الأولى: انهيار مرحلة التفاهم الأميركي - الروسي التي أعقبت 11 أيلول / سبتمبر 2001 والحرب على الإرهاب، والتراجع الكبير للولايات المتحدة التي عرفت أزمات متعددة في الأعوام العشرة الأخيرة، بدءاً بحربيها الكارثيتين في أفغانستان والعراق وغرقها في مستنقعات حرب مجنونة لا نهاية لها، مثل الحرب على الإرهاب، التي حدت كثيراً من إمكانياتها العسكرية وجعلت قدرتها على التدخل العسكري غير مضمونة النتائج، ما أدى إلى نشوء عقيدة جديدة لإدارة الرئيس الأميركي باراك أوباما تقتضي تفضيل خيار القوة الناعمة على الخيار العمل العسكري. وكان من أسباب هذا الخيار هو الأزمة الإقتصادية التي عصفت بالولايات المتحدة ابتداء من عام 2008 والتي لا تزال أثارها السلبية في الإقتصاد ماثلة إلى اليوم والتي دفعت بالولايات المتحدة إلى تحجيم تدخلاتها في الساحة الدولية.
الثانية: ما حدث للإتحاد الأوروبي من مشكلات متراكمة والتي نجمت عن أزمة الديون السيادية التي عصفت بالبيت الأوروبي عام 2010 وكادت تهدد بانفراط عقد الإتحاد الأوروبي من خلال الأزمة التي عرفتها عدة دول فيه، الأمر الذي هدد بخروجها من منطقة اليورو ما لم تتلقَ حزمات إنقاذ اقتصادي متتالية، بلغت في مجملها نحو 500 مليار يورو موزعة على دول عدة، ما جعل الإتحاد الأوروبي أقل قدرة على التورط في صراعات إقليمية ودولية.
ويضيف المؤلف أن الهدنة بين روسيا والإتحاد الأوروبي انتهت وصار الأوروبيون يخشون من توسّع موسكو فيما يعد مجالها الحيوي في أراضي الأمبراطورية الروسية التاريخية، وإعادة رسم خريطة شرق أوروبا ووسطها من جديد.
ويعتقد المؤلف أن هذه الأوضاع الدولية التي نشهدها شجّعت روسيا على استغلال نقاط الضعف الجديدة وخوض الصراع مع أوكرانيا، لإعادة رسم خريطة التوازنات واعتبار روسيا جدياً قوة كبيرة لها شأن كبير.
ويرى المؤلف أنه لا بد لأي مرحلة انتقال تاريخي من حقبة إلى أخرى من مخاض يتجلى في صراعات وتجاذبات قد تتطور إلى حروب، وأن ما يجري اليوم في أوكرانيا مظهر من مظاهر المرحلة الإنتقالية التي يعرفها النظام الدولي بمرحلة ما بعد انهيار الإتحاد السوفياتي وأحادية القطبية الأميركية.
يتحدث المؤلف عن تاريخ الدولة الأوكرانية، فهي حديثة نسبياً حيث حصلت على استقلالها عام 1991 عقب انهيار الإتحاد السوفياتي، بعد أن كانت إحدى جمهورياته الـ15 التي تمتعت بحكم ذاتي.
يبين الباحث أن معظم أراضي أوكرانيا كانت قبل انتصار الثورة البلشفية جزءاً من أراضي الأمبراطورية الروسية، في حين كان الجزء الغربي منها يخضع لإمبراطورية النمسا والمجر، وجزء اَخر لبولندا. وكانت شبه جزيرة القرم تخضع للسلطة العثمانية قبل أن تنتزعها منها روسيا بعد حرب دموية طويلة بين عامي 1768 و1774. لذلك يقول المؤلف إن قيام أوكرانيا الحديثة مر بمراحل تاريخية طويلة شهدت فيها الأراضي الأوكرانية تبادلاً للنفوذ بين قوى وإمبراطوريات عدة مجاورة.
وعقب الثورة البلشفية عاام 1917 حدثت حرب أهلية بين عنيفة بين الجيش الأحمر وبين الجيش الأبيض الموالي للقيصر والقوى الاوروبية، نشبت خلالها معارك كثيرة على الأراضي الأوكرانية. ويوضح أنه في هذه الأجواء أُلف مجلس "الردا" لأوكرانيا الوسطى في كييف (البرلمان الأوكراني). وأعلن المجلس الحكم الذاتي للمنطقة الغربية من أوكرانيا الحديثة قبل أن يعلن استقلالها عن روسيا وينتخب زعيمه المؤرخ والمفكر الشهير ميخائيل هروشيفسكي أول رئيس للجمهورية الشعبية الأوكرانية في 29 نيسان/ أبريل 1918.
هذا الإستقلال لم يدم طويلاً إذ اقتحمت القوات البلشفية (الجيش الأحمر) كييف وأخضعتها مجدداً لسلطة موسكو في عام 1919، قبل الإعلان عن إنشاء اتحادات الجمهوريات السوفياتية.
عام 1994 جرت أول انتخابات تعددية رئاسية وبرلمانية في أوكرانيا انتهت بفوز الحزب الشيوعي فيها بـ86 مقعداً في البرلمان. وكانت هذه الإنتخابات مؤشراً على أن الحزب الشيوعي السابق وبيروقراطيته متحكمان بصناعة القرار في البلاد. وظهرت من صفوف بيروقرطيته السابقة، طبقة جديدة كلياً على المجتمع الأوكراني هي طبقة الأوليغاشية التي تكونت من رجال أعمال جدد إستولوا على ممتلكات الدولة السابقة وحوّلوها إلى ممتلكات خاصة بهم.
تعد أوكرانيا حسبما يرى الكاتب، بأنها أكثر البلدان قابلية لتفجر الصراع المحلي الإقليمي والدولي، بسبب وصول النظام الأوليغارشي فيها إلى نهاياته. فكانت هذه الطبقة الأليغارشية هي السبب الأساس الذي أوصل أوكرانيا لتكون دولة ضعيفة وتتولد منها الأزمة الحالية. فهم من يسيطر على مؤسسات الدولة وحولها إلى ملك خاص حصري لهم.
يشرح المؤلف ما تعنيه طبقة الأوليغاشية بقوله: عادة ما يُعرف النظام الأوليغارشي بأنه حكم الأقلية المتحكمة في الثروة والسلطة، حيث تكون السلطة محصورة في أيدي أقلية صغيرة تعمل للحصول على مصالح جديدة ومراكمتها ونهب ثروات بلادهم على حساب شعوبهم. ففي نظام الأوليغارشية يحصل تزاوج بين الثورة والسلطة حيث لا يمكن الحصول على واحدة من دون الأخرى.
ويسرد المؤلف بشكل واسع كيفية هيمنة الطبقة الأوليغارشية: يوصف رجال الأعمال في أوكرانيا بأنهم أوليغارشيون وليسوا برجوازيين بالنظر إلى مصادر أموالهم. فطبقة البرجوازية تراكم ثروتها عبر الإنتاج وملكية رأس المال ومراكمة الأرباح عبر دورة الإنتاج الإقتصادية. أما الأوليغارشية فتستولي على الملكية العامة للدولة ومواردها وتوظّف نفوذها السياسي لمراكمة الأرباح خارج دورة الإنتاج الإقتصادي، وتعتمد أساساً على الفساد الإداري والإقتصادي وعلى حصولها على امتيازات إحتكارية أو ريعية لمراكمة الثروة، مستغلة نفوذها السياسي.
هذه الطبقة أخذت مجدها بين عامي 1994 و1999 ووصلت إلى درجة لا تصدق حين استطاع 50 أوليغارشياً الإستحواذ على نحو 85 بالمائة من الناتج الوطني المحلي لأوكرانيا.
ويؤكد المؤلف في كتابه المكون من ستة فصول وخاتمة،أن معظم هذه الطبقة ينتمي إلى الأقلية اليهودية في البلاد التي لا يتجاوز عددها نصف مليون نسمة، الأمر الذي يفسّر كثيراً من أسباب عداء اليمين القومي لهم.
ضعف الدولة الأوكرانية جعلها منقوصة السيادة وملعباً للصراعات الدولية. وستحتاج هذه الأزمة إلى سنوات ومفاوضات طويلة لحلّها.
نشير إلى أن الكاتب محمد الكوخي باحث مغربي وُلد في مدينة أكادير عام 1985، حاز الماجستير في الإقتصاد من جامعة فيليبس ماربورغ الألمانية عام 2012. له عدد من الدراسات والبحوث في حقل الاقتصاد والعلوم السياسية والاجتماعية، وقد صدر له كتاب عنوانه "سؤال الهوية في شمال أفريقيا: التعدد والانصهار في واقع الإنسان واللغة والثقافة والتاريخ عام 2014.