يسري نصر الله للميادين نت: مهرجان القاهرة السينمائي كان فرصة لدعم الفلسطينيين
حول تأجيل "مهرجان القاهرة السينمائي" وصناعة السينما والقضية الفلسطينية، أجرت "الميادين الثقافية" هذا الحوار مع المخرج المصري يسري نصر الله.
على الرغم من الانتظار القلق لصنّاع السينما لانطلاق الدورة الـــ 45 من "مهرجان القاهرة السينمائي الدولي"، والتي كانت مقرّرة في الفترة من 15 إلى 24 تشرين الثاني/نوفمبر 2023، ثبّتت عملية " طوفان الأقصى"، وما تبعها من مجازر إسرائيلية بحق سكان قطاع غزة، ما كان متوقعاً. فقد أعلنت وزيرة الثقافة المصرية نيفين الكيلاني عن القرار بتأجيل المهرجان إلى أجل غير مسمى.
انقسم المصريون بين مؤيد لقرار الكيلاني احتراماً وتضامناً مع الفلسطينيين في غزة؛ وبين من كان لهم رأي مخالف، ومنهم يسري نصر الله (رئيس المهرجان القومي للسينما المصرية الذي تم تأجيله أيضاً)، الذي رأى أنه كان بالإمكان إقامة المهرجان في موعده وأن تكون دورته الحالية دورة خاصة بالفيلم الفلسطيني والأفلام التي تطرح القضية الفلسطينية. خاصة أن نصر الله الذي كان سيكرّم في مهرجان القاهرة، سبق له وأن حوّل رواية الأديب اللبناني إلياس خوري "باب الشمس"، التي تتحدث عن القضية الفلسطينية، إلى فيلم سينمائي يحمل العنوان نفسه كان سيعرض ضمن فعاليات المهرجان.
حول تأجيل المهرجان ونقاط أخرى متعلقة بصناعة السينما والقضية الفلسطينية، أجرت "الميادين الثقافية" هذا الحوار مع يسري نصر الله.
**
تم الاعلان مؤخراً عن تأجيل "مهرجان القاهرة السينمائي الدولي". من المعروف أنه كان لك رأي مختلف بخصوص دواعي هذا التأجيل، فما هو تعليقك؟
رسمياً، لأن الأحداث والوضع الحالي لا يسمحان بإقامة مهرجانات ولا احتفاليات تتسم بالبهرجة؛ بسبب الأوضاع في فلسطين المحتلة. والحقيقة لست مقتنعاً بهذا السبب؛ كمبرر لإلغاء تظاهرة ثقافية فنية تنحاز للحياة. كما أنها كانت فرصة عظيمة لتخصيص هذه الدورة لصالح السينما الفلسطينية، ومناقشة الفلسطينيين. ولكونه مهرجاناً عالمياً مصنّفاً درجة أولى دولياً؛ فإنه سيخلق تضامناً. هذا من جهة، ومن جهة أخرى؛ فإن إلغاء المهرجان له مؤشر خطير، حيث يعني أن مصر كدولة قلقة غير مستقرة. بالرغم من أن كل المؤشرات الرسمية تصب في صالح استقرار مصر وأمانها. كما أني متأكّد من خلال متابعتي للدورات السابقة للمهرجان؛ أن جمهور هذا المهرجان يأتي للفرجة ومشاهدة المهرجان وليس بهدف المظاهرات.
على الرغم من أن الهاجس الأمني مبرّر، لكن أليس من دواعي اللياقة إلغاء أي احتفاليات ومهرجانات بينما هناك من يقتلون في غزة؟
المبرّر الأمني محلول بأن تجري العروض كلّها داخل مباني الأوبرا مع وضع ضوابط أمنية وسيارات أمن خارجها وقد حدث هذا من قبل؛ وبالتالي فاحتمالية خروج التظاهرات سيكون مستبعداً. أما بالنسبة لدواعي التضامن فكان يمكن أن تلغى الاحتفاليات و"السجادة الحمراء". وإذا كان المبرر مالياً نظراً للضغوط الاقتصادية؛ فمن الممكن إلغاء المسابقة بجوائزها؛ مع استمرار عرض الأفلام وتصبح الدورة 45 مخصصة للتضامن مع الفلسطينين. أظن أن القضية الفلسطينية منذ أن تولت مسؤوليتها الأنظمة العربية؛ تم استخدامها لقمع الشعوب العربية وإسكاتها. برأيي لا يوجد مبرر لمنع أي نشاط ثقافي. لا أريد احتفالاً. أريد الفرجة على أفلام. فمثلاً شاهدت فيلم "وداعاً جوليا" ولم تخرج أي تظاهرات بالرغم من كونه وطناً جريحاً يعاني من حرب أهلية. فالبشر عندما يشاهدون عملاً فنياً يحكي عنهم؛ هذا الأمر يعطيهم أملاً في الحياة. في نهاية الأمر؛ في أوقات الكوارث يصبح للأنشطة هدفاً ومعنى وضرورة.
لكن هناك أصوات ومبادرات للمقاطعة دعماً لغزة، وهذا ما حصل مؤخراً من مقاطعة مصرية وعربية لمعرض فرانكفورت للكتاب
كان هناك سبب. سبب واضح ألا وهو سحب الجائزة من الأديبة الفلسطينية عدنية شلبي لأسباب سياسية تتعلق بإلغاء كل ما له علاقة بفلسطين. وبالتالي فالمقاطعة ضرورية وواجبة؛ كون المعرض ألغى الجائزة والفعاليات والمؤتمر، وهذا أمر عدائي واضح.
وبشكل عام أنا مع المقاطعة حتى للمنتجات؛ لكن ليس بهذه الطريقة. عندما نقاطع؛ نقاطع منتجاً أو اثنين سننجح في تحقيق تأثير ما اقتصادي أو سياسي؛ أولاً سيلتزم الناس وبالتالي ستعي كل الشركات الرسالة. وكأن الناس اكتشفت أن الشركات متعددة الجنسيات تدعم الكيان المحتل؛ وكل ذلك بــ "مناسبة" الاعتداء على غزة. أنا لا أحب "بمناسبة"؛ صنعت "باب الشمس" فيلماً عن الفلسطينيين عندما شعرت أني أريد أن أصنع فيلماً عنهم ومن دون "مناسبة". فالفن يجب أن يكون بدافع ذاتي. والعمل بدافع ذاتي والمواقف كذلك.
كيف نعمّق ونطوّر المقاطعة الثقافية للعدو والمؤسسات المساعدة له في قطاعي السينما والميديا؟
دائماً ما أكون حريصاً عند كتابة أي تعاقد حول إنتاج مشترك أن تكون حقوق التوزيع في منطقة الشرق الأوسط (بما فيها إسرائيل) لصالح الجانب المصري؛ حتى لا يعرض في "إسرائيل" من قبل الجانب المشارك الأجنبي. هذا موقفي الشخصي بدافع ذاتي. لكن إذا كان هذا الموقف بدافع الخوف من العقوبات التي قد تلحق بالفنان من قبل المؤسسات؛ سنُفقِد الموقف الهدف منه، لأنه سيكون وليداً للخوف من عقوبات نقابية أو خلافها.
الخطأ أن نضع المثقف أو الفنان في موقف التابع أو الخائف أو الخجلان. وقد حدث معي في المؤتمرالصحافي في باريس عند عرض "بعد الموقعة" في مهرجان كان؛ أن وجّه لي سؤال من صحافي "اسرائيلي" حول ما إذا كنت سعيداً بعرض فيلمي في "تل أبيب" (بالرغم من أن العقد في يد الجانب المصري)، فنظرت للمنتجين ولم أجد منهم رداً.. وكان ردي "لا لست سعيداً قطعاً.. بالرغم من أن أي فنان لن يكون سعيداً بعدم عرض أعماله؛ لكن في هذه الحالة وأنتم تحتلون الأرض لا لست سعيداً".
لذا فالمقاطعة الثقافية للعدو يجب أن تكون انتقائية. لن أنسى ما حدث مع المخرج ميشيل خليفي عند عرض فيلمه "عرس الجليل" في مهرجان القاهرة السينمائي؛ وهوجم الفيلم من قبل جريدة "الأهالي" وهي جريدة يسارية تقدمية تحت بند الاتهام بالتطبيع.
كل ذلك لكون خليفي يحمل الجنسية الإسرائيلية ولم يشفع له أنه عربي فلسطيني. هذا يعتبر عقاباً لمن ظل متمسّكاً بأرضه من فلسطيني الأراضي المحتلة عام 1948؛ كأننا نتركهم وحدهم في وجه الاحتلال، وهذا أمر سخيف من وجهة نظري. أنا أرى أن العرب يعشقون القضية الفلسطينية؛ لكننا لا نحب الفلسطينيين. وما تفعله الأفلام أنها جعلت الجمهور يحبّ الفلسطينيين. لذا فإن إدارة المقاطعة لا يكون لي أي رأي فيها، بل يجب أن ننفذ ما يملى علينا؛ مما يحرمني من حق اتخاذ موقف.
كيف تستطيع السينما العربية أن تكون مستقلة عن إرادة المموّل، خاصة في الحالة الفلسطينية؟
أن نصنع أفلاماً ذات جودة عالية وبأعداد كبيرة فتصبح موجة يمكن عرضها في أسواق غير تقليدية مثل الصين، الهند؛ أميركا اللاتينية ..إلخ؛ تحمل سمة أو تيمة محلية مثل التحطيب والرقص. وهنا أتكلم عن الأفلام التجارية؛ على سبيل المثال قدّمت السينما الصينية أفلام بروس لي ومنها انتشرت أفلام فنون القتال الدفاعية التي أصبحت جزءاً من الميراث الإنساني.
على الشاكلة نفسها كانت الأفلام المصرية تتسم بسمات الموسيقى والأغاني والرقص؛ لذا انتشرت. هذه العوائد المادية من نجاح الأفلام التجارية عالمياً يعطي مجالاً للحركة وإخراج أفلام بعيدة كلّ البعد عن المتحكّمين في سوق الإنتاج السينمائي اليوم، وبالقدر نفسه تسمح بهامش للحركة مع المموّل الخارجي ويخرج الفنان من تحت قبضة "قائمة checklist " التي يفرضها المموّل.
هذا بشكل عام؛ أما بخصوص القضية الفلسطينية فإن مخرجين مثل هاني أبو أسعد عندما صنع أفلاماً مثل "الجنة الآن" و"عمر"، تمكّن من إيجاد الصيغة التي تناسبه. أفلام إليا سليمان هل بها checklist؟ أبداً.. بالرغم من أن إنتاجها كله أوروبي وأميركي. دائماً هناك منفذ، لكن الأهم هل الفنان حقيقي؟ ويمكن داخلها صناعة أشكال من كوميديا وموسيقى، يمكن تقديم الحياة والاحتفاء بها.
ماذا عن تجربتك في إخراج فيلم "باب الشمس" وهو يتناول القضية الفلسطينية؟
ظهور "باب الشمس" للنور كان عملية غريبة جداً. فقد قرأت رواية "باب الشمس" عندما كنت أعمل في لبنان في جريدة "السفير". ومن أول مرة عشقتها؛ فيها كنوز يمكن أن تصلح للعديد من الأفلام لمن يريد. فالعرب لا يريدون إنتاج فيلم عن الفلسطينيين؛ وفي أوروبا الأمر صعب جداً.
هكذا إلى أن عرض عليّ أمبير بلزان المنتج الفرنسي عام 2000؛ عرضاً من قناة Arte الفرنسية لإخراج فيلم عن الفلسطينيين، فرفضت؛ لأن ما أرادوه حينها هو إخراج قصة تتناول قصة حب (روميو وجولييت) بين شاب فلسطيني وفتاة إسرائيلية، وتنتهي بالنهاية السعيدة. ثم طلب مني إعادة التفكير؛ فاقترحت رواية "باب الشمس" بشرط أن يكتب إلياس خوري السيناريو معي، فوافقوا وطلبوا مني الاتصال بإلياس فوراً؛ الذي وافق هو بدوره.
ثم أبلغني بلزان باجتماع مع جريوم كليمون رئيس Arte، وبيير شوفالييه رئيس قسم الأفلام الروائية في Arte. وتحدثت معهما باعتداد بالنفس وقلت لهما هل تتوقعان أن أخرج فيلماً يلبي رغباتكما، فقالا لي: "نحن نريد إنتاج فيلم جيد فقط لا غير".
وبعد أن انتهيت من فيلم "باب الشمس" تعرّض جريوم كليمون وهو من أصول يهودية؛ للنقد بسبب الفيلم وقامت مطالبات بعدم عرضه من قبل شركائه في القناة. كما ضغط مجلس الشؤون اليهودية في فرنسا على دور العرض حتى لا يتم عرضه؛ ومن بين 20 دار عرض اعتذرت عن العرض بالرغم من التعاقد المسبق معها؛ وافقت دار وحدة فقط على عرض الفيلم.
هل تستطيع السينما العربية أن تخرج الفلسطيني من وضعية الضحية وتعلي من شأن المقاومة العسكرية؟
الإنسان الفلسطيني هو ضحية سواء شئنا أن أبينا؛ لكن يجب ألا يكون موضوع الفيلم هو الضحية. ما يجب على الأفلام أن تطرحه هو أسئلة عن حياة الفلسطيني وتفاصيل حياته بلحظات فرحه وغيرها.
فالفن مهمته هي تقديم الحياة والاحتفاء بها وهي مليئة بالحكايات؛ لا عرض عدد الضحايا والمنازل التي تم قصفها. فمثلاً أكثر صورة أثّرت في الأحداث الأخيرة هي صورة عائلة تحتفل بعيد ميلاد وسط الدمار والمنازل المتهدمة.
سطوة الصورة المحزنة في غزة.. هل تخطت قدرة السينما على إعادة تشكيلها سينمائياً؟
اليوم، يجب أن يتم تقديم ما يحدث في غزة من مجازر على أنها جريمة ضد الإنسانية. لكن السينما عملها هو إعادة تقديم الألم سواء الأفلام من العراق أو السودان أو فلسطين؛ لكي تطرح الحياة التي بداخلها ومعاناة البشر.
الإعلام قد يطرح الأعداد والمواقع بشكل مجهّل مثل الصور التي نشرت عن حرب العراق، كلها صور من الأعلى من القمر الصناعي تصوّر مواقع؛ أصبحت الصورة كأنها مأخوذة من لعبة على الكمبيوتر وأنهم مجرد أهداف، لا تعبّر عن أشخاص وعائلات لهم أسماء وحياة.
بالتالي إذا أردت عمل فيلم تسجيلي عما يحدث في غزة سيكون عن الناس، حياتهم، ضحكاتهم، كيف يمكن في داخل هذا الجنون أن تتمكّن من الحياة. فالفرق ما بين الإعلام والفن؛ أن الإعلام يبحث عما يجذب المتلقّي لحظياً فيعمل على "صنفرة" الموضوع بهدف "التريند"؛ بينما السينما جزء منها بدائي يثير الخيال ويترك أثراً في روح الناس، وهذا هو الأبقى.