مثقفون عرب في مصر: كيف نعود إلى أوطاننا؟
مثقفون عرب خرجوا من أوطانهم قسراً نتيجة الحروب. ماذا قالوا في غربتهم عن أرضهم؟
"المنفى أكثر من مجرد نفي جسدي من الوطن. إنه نفي روحي وذهني وشعوري. أنا هنا، لكن روحي وذهني ما زالا هناك". (غسان كنفاني).
**
"يا مهون من الغربة ليرجع الغريب ويلاقي على البر حبيب". هكذا عبر الأدب فيما مضى عن الغربة والتغريبة. لكن ظل أقربها إلى النفس وأشدها تأثيراً في القراء افتقادُ الذكريات في الحارات ومعايشة الشتات، وهو ما عبر عنه كل من غسان كنفاني، في روايته "عائد إلى حيفا"، والطيب صالح في "موسم الهجرة إلى الشمال"، وفدوى طوقان في "اللاجئة"و"العودة"، وإدوارد سعيد في "في محراب المنفى". تجربة الغربة هذه، يعايشها اليوم عدد من الكتّاب اليمنيين والفلسطينيين والسودانيين، والذين اضطُروا إلى مغادرة أوطانهم واللجوء الموقت إلى مصر. قابلت "الميادين الثقافية" بعضاً منهم، وهكذا عبروا عن ألم الغربة ومواجهته أيضاً.
**
محمود جودة: لا المدن نفسها ولا الشوارع
"سأُغادر هذه المدينة، مثل تعبٍ ينساب عن الجسد بعد اغتسال ساخن، سوف أتسحّب من شوارعها وحدائقها مثل سوار واسع في معصم فتاة، في سهرةِ راقصة"، هكذا عبّر الكاتب الفلسطيني، محمود جودة، عن الغربة في رحلاته السابقة عن غزة.
لكن ارتحاله الأخير إلى القاهرة كان مغايراً. لذا، فإنه يرى أنه حتى الآن لم يروِ القصاصون الفلسطينيون ما مروا فيه في أثناء الحرب الأخيرة ومحاولة النجاة بذويهم. ولتكتمل تجربة الكتابة يجب هضم استمرار الحدث، واستيعاب عملية الفقد، سواء للأصدقاء أو الأقرباء أو حتى المنازل والذكريات، والتي تزيد في الاغتراب، ذلك بأن انتهاء الحرب أمر لازم لتكتمل رواية الكاتب حتى يحوّلها إلى نص.
ويرى جودة أن أي عملية الكتابة الآنية انتقاص من حجم الحدث الجلل الكائن حالياً. فألم الفقد يغلب على ألم الغربة، وتلبية الاحتياجات الإنسانية، من بحث عن ملجأ وسكن ومدرسة، للوصول إلى حياة تقارب الحياة الطبيعية، أكثر إلحاحاً من الشعور بالغربة، وهي رفاهية لا يمتلكها الفلسطينيون. لذا، فإن أي نتاج أدبي سيصدر لن يكون أدباً مستقراً قادراً على التعبير الملائم، ومن الممكن أن يأخذ الصفة الوصفية الغاضبة بسبب الدماء النازفة، ناهيك بالإحساس بالخذلان العربي ومقارنته بالمثقف الأوروبي الذي أخذ موقفاً تقدمياً.
لكن ما يقلق جودة حقاً أنه حتى لو تمكن من العودة إلى غزة، فإنه سيرجع إلى مكان ليس نفسه. لا المدن ولا الشوارع التي مُحيت ومُحي معها ما تحمله من ذكريات الماضي وآمال المستقبل. لذلك، لا يرى جودة لغة تواسي المعاناة الحالية والتي لم يشعر بحدة وطأتها بعدُ المجتمع الفلسطيني بكامله، سواء المثقف أو غير المثقف.
سهير السمان: أحمل وطني
من جانبها، ترى الكاتبة والناقدة اليمنية، سهير السمان، أن المشهد الثقافي اليمني عبّر باقتدار عن تجربة الغربة التي استمرت ما يقارب عقداً من الزمن، بحيث ظهرت دلالات لمفردات، مثل "الداخل"، و"الخارج"، و"أماكن الإقامة في اليمن والتنقل خارجه".
وفقاً للسمان، فإنها أظهرت هذا في عدة روايات، منها "تراي تشيزفرونيا"، لتلقي الضوء على أزمة الذات وتشظيها في ظل واقع الحرب والاغتراب.
وكشفت السمان، في مجموعاتها القصصية، نبضها وهواجسها وغربتها ووحشتها وأشواقها إلى أعماقها البعيدة في اليمن. ويظهر هذا في مجموعتها المعنونة "يحدها من الشمال"، بحيث استخدمت كلمات الرحيل والموت والاغتراب والوحشة.
ماهر المقوسي: الكتابة أم البقاء؟ سفر أم اغتراب؟
في ديوانه "حديث للظل"، يناجي الشاعر الفلسطيني، ماهر المقوسي، مدينته غزة قبل رحيله عنها، ويقول:
"أيتها الخيام الرثة
إنهم يسرقون الشمس
ويصلبون بقايا جسدي
على ألواح الثلج
أتبادل الهمس
مع ظليَ الفاني
قديماً قلتَ لي
ابحث عن أسطورتك الشخصية
فقلتُ لك
امنحني بعض الوقت
كي أفتش بين أوراق الأنبياء المنسية
عن بعض التفاصيل الصغيرة
وأبحث في الشوارع القديمة
عن عيون امرأةٍ تحتويني
في لحظة ضعف
قد تأتيني"
ويرى المقوسي، وهو صاحب تجربة شعرية تمتد أكثر من 20 عاماً، أن ما يجري منذ تاريخ الـ7 من أكتوبر 2023، من قتل واغتيال وإحراق للأطفال، يُفقد الكتابة معناها مقارنة بالمشاهد المنقولة عبر الشاشات.
فالشاعر يكتب ما يختمر في ذاكرته والتجارب التي يحياها. لذلك، فإن المقوسي، في يوم من الأيام، ستأتيه الكتابة الأدبية بصورة طبيعية، وتحمل جميع المعاني التي ستكون الغربة أولها. ستكون الغربة علامة فارقة في تاريخ الشعر الفلسطيني وتاريخ الشعر العربي. أما بالنسبة إلى التجارب الإنسانية المأسَوية، التي قابلها أي فنان أو مثقف، فيمكن إخراجها عبر الفضفضة مع بعض الأصدقاء لتخفيف الآلام مما قد يحد من أثر الغربة عن البلاد. كما قد تتحول إلى عمل فني إبداعي يحتاج إلى فترة من الزمن. كما أن مشاعر الفرار من الموت والاغتراب فإنها تحتاج إلى وقت للتعبير عنها بصورة تليق بحجم الكارثة في غزة. المقوسي ينتظر أن تناديه القصيدة ليكتبها، وإلا فإن قصائده ستصبح تكراراً.
يتباين الاحساس بالمكان وفقاً لاختلاف طريقة دخوله. هذا ما أكده المقوسي. فعلى الرغم من أنه من المعتادين على القدوم إلى مصر، وله فيها ذكريات وأصحاب، لكن هذه المرة كان الإحساس مغايراً. فكيف للمجيء القهري أن يتساوى مع المجيء بإرادة حرة؟ كما أن ما يشغل بال المثقف الفلسطيني ونفسه هو متى ستنتهي تغريبته التي بدأت كأنها استدعاء لتغريباته السابقة. كما يزيد في وحشة تغريبته السؤال عن الذي سينتظره الفلسطينيون بعد انتهاء الحرب؟ وإلامَ سيعودون؟
وفي سؤال المقوسي عن إمكان خلق رابطة للكتاب والمثقفين الموجودين في مصر، ينفي احتمال حدوث ذلك لأكثر من سبب، أهمها أن وجود مثل هذا الشكل من التجمعات في مصر أو الأردن يعني الاستسلام لفكرة عدم العودة إلى غزة واستمرار الغربة. وهذا احتمال غير مطروح، ذهنياً وشعورياً. كما أن "اتحاد الكتاب الفلسطيني" هو الممثل الشرعي للكتاب والمثقفين الفلسطينيين أينما وُجدوا، وهم بالفعل في حالة لقاء مستمر.
أما السمان فتزيد بأنها شخصياً استفادت من الغربة، بحيث تطور أداؤها ككاتبة، وانفتحت على عوالم جديدة مغايرة، لم تكن لتراها لو ظلت في اليمن. واعترفت بأن القاهرة لم تجعلها تشعر بالغربة يوماً، وما ساعدها حملها لليمن في تفاصيل يومها الحياتية "فالوطن يحيا فينا كما نحيا فيه".
عبد الوهاب وردي: الناجي الموقت
أما الملحن والمطرب السوداني، عبد الوهاب وردي، فيوافق المقوسي الرأي نفسه، بحيث قال إنه اعتاد القدوم إلى مصر منذ أن كان في الثامنة من عمره رفقة والده المطرب محمد وردي. لكن، هذه المرة، حملت رحلته وجع قهر الفرار من الحرب والقتل على يد الأخ الذي قتل أخاه، ومرارة اللجوء والشتات. لذلك، يسمي نفسه "الناجي الموقت"، كأن الفرار من الحرب لا يكفي للنجاة.
ويضيف وردي، القادم من الخرطوم ليغني في القاهرة، أنه "لولا القاهرة لَما كنت لأتعايش بألم أقل مع حالة الغربة". ويشدد على أن "القاهرة منحتني القدرة على بث الأمل في قلوب السودانيين، سواء في مصر أو خارجها. فالأمل مقاومة للحرب، ولا وقت لدينا للاستسلام. كما منحتني القاهرة الفرصة في التعافي من آثار الحرب ورحلة الفرار".
فاتنة الغرة: مش عاوزة أنسى
مثّل الخروج من غزة بالنسبة إليها صدفة غريبة، كأنها كانت على موعد مع رؤية مدينتها للمرة الأخيرة، وكأن الأقدار أرادت لفاتنة الغرة أن تكون شاهدة عيان على المجازر التي تحدث، قبل أن تخرج من القطاع رفقة والديها.
الغرة، وهي صاحبة تجربة أدبية تمتد أكثر من 20 عاماً، تقول إنها تنتظر انتهاء العدوان على غزة حتى تتمكن من فهم المشاعر المتناقضة التي خلفتها، وحتى تتمكن الذاكرة من هضم التجربة وتحولها إلى ذكريات، لا إلى حاضر مَعيش.
لذلك، فإن الغرة تقوم بإعادة تشغيل التسجيلات الصوتية التي سجلتها في غزة حتى لا يغادرها هذا الشعور، ومنها "مش عاوزة أنسى .. مش لازم أنسى"، و"ثأري أن أوثق المجازر".
هذا الثأر بدأته الغرة عبر توثيق يومياتها في القطاع، منذ كانت محاصَرة في مستشفى "القدس". وهذا التوثيق سيصدر في كتاب بالعربية والهولندية.