قديسو التشاؤم.. هل حقاً كانوا متشائمين؟
يقول الأديب الفرنسي نيقولا شامفور: "الفلسفة، كما الطب، يمكنها أن تقدّم عقاقير كثيرة وعلاجات مفيدة قليلة، وغالباً ليس لديها أي أدوية ناجعة".
يقول إميل سيوران: "لا يشغل المرء نفسه بالقديسين إلّا لأنّ مفارقات الحياة في هذه الدنيا أصابته بالإحباط، لكن كلّ ما في العالم يصيب بالإحباط، حتى حياة القديسين". يأتي اقتباس الفيلسوف والشاعر يوجين ثاكر، أستاذ الدراسات الإعلامية في جامعة (ذا نيو سكول) في مدينة نيويورك، والذي غالباً ما ترتبط دراساته بالتشاؤم والعدمية، لمقولة سيوران، أهم فيلسوف تشاؤمي في عصرنا الحديث، لتبريره الخوض في موضوع التشاؤم واليأس والعدم، بما يتعارض مع جوهر الفلسفة بأنّها المعرفة التي تمنحنا القدرة على عيش الحياة بأسلوب حقيقي وجوهر عادل، مع أنّ شيشرون قال إنّ الفلسفة أن تتدرب على الموت، على عكس مما ذهب إليه أبو الفلسفة سقراط الذي قال عن مهنته إنّها تشبه القابلة التي تساعد في إنجاب الأطفال، لكنّها ليست مسؤولة عن تنشئتهم، وهو كذلك مولّد أفكار من خلال الفلسفة، لكنّه لا يقوم بتلقينها لأحد في معرض دفاعه عندما حاكمته أثينا بتهمة إفساد الشباب.
وفي كتاب ثاكر "قديسو التشاؤم" (ترجمة أنور الشامي - دار الكرامة 2024)، هناك فلاسفة متشائمون وأفكار عدمية وعبث وجودي ليس له غاية إلّا الموت، كما قال شوبنهاور في فلسفته التي ضمنها كتابه "العالم إرادة وتمثلاً"، لكن من قلب هذا التشاؤم يجد القارئ الأمل، وذلك من خلال وضع أفكار التشاؤم موضع التحليل أو التعليق، فأي موضوع أو شعور أو فكر أو حتى خوف ما دام قد خضع للنقاش، فهذا يعني أنّه قد تم استيعابه، لكن لنعد إلى حياة القديسين الذين تعرضوا لأشد أنواع المنع والمعاناة والتعذيب، كيف اهتدوا في عبث هذا الوجود إلى بصيص أمل! ربما شعر إميل سيوران بالإحباط وهو يرى سير حياة القديسين الذين يفترض بالسماء أن تؤازرهم، فما سيكون حال من لا يؤمنون بشيء! وكأنّه يقول: ما الجهد المطلوب حتى نخرج من لجج التشاؤم إلى أرض الأمل؟
لم يكتب فلاسفة التشاؤم عنه صراحة، بل كتبوا عن نقيضه التفاؤل، كأنّهم بهدمهم مفهوم التفاؤل يخلون المكان للتشاؤم. يقول نيقولا شامفور (1741-1794): "الفلسفة، كما الطب، يمكنها أن تقدّم عقاقير كثيرة وعلاجات مفيدة قليلة، وغالباً ليس لديها أي أدوية ناجعة".
صاحب هذه المقولة هو أديب فرنسي كان داعماً للثورة الفرنسية ورفض انحرافها عن أهدافها، وكان أرستقراطياً، ولكنه دعم الحكم الجمهوري. لقد سجن لموقفه المتعارض مع الخصوم المتناحرة. وعندما جاءته الشرطة من جديد لاستجوابه، حاول الانتحار، بأن أطلق رصاصة على رأسه، فلم يمت، فقام بحزّ عنقه، وأصاب نفسه بجروح عميقة، كذلك لم يمت، وطعن نفسه وقطع رسغيه، وعندما وجده رفاقه وحاولوا إنقاذه، قال لهم: "ماذا تتوقّعون؟ هذا ما يحدث عندما يكون المرء أخرق اليدين، لا يفلح البتة في عمل شيء، حتى قتل نفسه"، ومن ثم لفظ أنفاسه. لقد كان شامفور مسرحياً. فشلت مسرحياته، وكتب تلك المقولات التشاؤمية في كتاب وجد بعد موته، وتم اقتباسها كثيراً؛ من كامو وسيلين وشوبنهاور وسيوران ونيتشه، وكلّهم كتّاب وفلاسفة متشائمون!
لا يختلف الألماني فيليب ماينلاندر (1841-1876) عن شامفور كثيراً في فلسفته التشاؤمية. تقوم فلسفته على أن كل ما يُوجد يُوجد للفناء.
لقد قرأ فلسفة شوبنهاور، وخصوصاً كتابه: "العالم إرادة تمثلاً"، وسجّل ملاحظة على أثر قراءته لشوبنهاور. كان عمر ماينلاندر 34 عاماً عندما انتحر، فقد قام بجمع نسخ كتابه "فلسفة الخلاص" بعدما أرسلت له من دار النشر، وصعد فوقها وشنق نفسه: "المتشائم في واقع الأمر هو متفائل أحسن تعليمه". إنّ انتحار فيليب ماينلاندر يذكّرنا ببطل رواية إلياس كانيتي (نار الله) بيتر كين الذي شنق نفسه فوق كتبه بعدما أشعل فيها النار.
آرثور شوبنهاور (1788-1860). إنّه اسم غنّي عن التعريف، حتى من الممكن وضع اسم شوبنهاور بدلاً من التشاؤم من دون حرج.
لقد عارض شوبنهاور فلسفة هيغل التي تتكلّم عن أنّ الروح العظيم غاية هذا الكون، وقال عن فلسفة هيغل إنّها أشبه بحبار يطلق سحابة من الحبر ليوحي بغموضه. وقد سانده في هذا الرأي الفيلسوف الدانماركي المتشائم والسوداوي سورين كيركغارد، بأن قال عن هيغل بأنّه: بالع هواء!
لقد تأثر شوبنهاور بالفلسفة الهندية، فقال: "وحدها النيرفانا وهو مفهوم في الديانات الهندية تجعل التخلي طوعاً عن إرادة الحياة أمراً ممكناً"، والغريب أن متشائماً آخر، هو نيتشه، علّق على هذه الجملة من كتاب "العالم إرداة وتمثلاً" بكلمة: خطأ!
يقول نيتشه (1844-1900): "إنّ التعارض ينبثق بين العالم الذي نبجّله والعالم الذي نعيش فيه – وهو ما نحن عليه. وعلينا إذاً أن نلغي، إمّا تبجيلنا، وإمّا أنفسنا. قرأ نيتشه شوبنهاور، وأعجب به إلى حدٍ ما، كذلك الكاتب الروسي دوستويفسكي، الذي منحه معرفة كبيرة بالنفس البشرية. وفي إحدى المرّات بعد عودته من جولاته في المشي، فقد كان مشّاء كبيراً، رأى أحدهم يجلد حصاناً يجر عربة، فاقترب منه باكياً وعانقه وهمس بأذنه. وبعدها انهار نيتشه، أكبر فلاسفة القرن التاسع عشر، وصمت حتى الموت.
لم تكن حياة سورين كيركغارد صاخبة، بل للحقيقة كانت هادئة جداً، لكنّه كتب: "الوجود كلّه يفزعني، من أضأل ذبابة وحتى سرّ التجسد. كل شيء مستغلق عليّ، ولا سيما نفسي". لقد كان سوداوياً. وللحقيقة يدين كيركغارد للسوداوية بالكثير: "لولا سوداويتي، ما كنت لأصبح فيلسوفاً، ناهيك بأكون مسيحياً". هذه السوداوية هي التي صنعت هذا الفيلسوف العجيب الذي استخدم التشاؤم، ليوضح لنا كيف تكون الحياة عدماً من دون إله. لقد كان يكره هيغل ويراه "آكل هواء". ولذلك تصدّى له، لأنّ في الدانمارك آكلي هواء كثراً! لقد دوّن كيركغارد يومياته بدقة كبيرة، على الرغم من سوداويته، ولكنه كان يحب بعض الأشياء، كعصي المشي ومظلته، التي كتب لها قطعة ساخرة، بأنه عندما تكون السماء مشمسة يفتحها في غرفته ويتمشّى بها، حتى لا تشعر بالضجر.
صاحب كتاب "المياه كلها بلون الغرق" إميل سيوران (1911-1995) كان متشائماً كبيراً مع أنّ ألزهايمر في أواخر عمره أنساه تشاؤمه. يا للمفارقة الساخرة! إنّ كتابات سيوران مجزأة ومتشظية، حتى أنّها تبدو أحياناً أقل من شظية! إنّها أقرب إلى ذرة من الغبار أو حطام فكر. نشر سيوران أحد كتبه (مشكلة الولادة) عام 1973 على أثر فترة من الخسارات، فقبل بضع سنوات، توفيت والدته وشقيقته، كما انتحر صديقه المقرب المسرحي آرثر آدموف. وشهد في العام نفسه وفاة صديق مقرب آخر، الفيلسوف الوجودي غابرييل مارسيل. وبعد عام، انتحر الشاعر بول سيلان، الذي ترجم أعماله إلى الألمانية. لقد كانت فترة عصيبة عليه. في كتابه "مشكلة الولادة"، يتعامل سيوران "مع معضلة فلسفية قديمة ــ مشكلة التواجد هنا، في هذه اللحظة، حيث تم إلقاؤه في وجود لم يطلبه أحد ولم يرغب فيه، في عالم يصعب علينا قبوله أو رفضه بكل إخلاص".
لقد رفض سيوران بكل فخر العديد من الجوائز الأدبية، وكثير منها كانت ذات قيمة مالية كبيرة. لقد كان المسرحي صموئيل بيكيت يقرض سيوران المال، فيما كان يؤنبه لرفضه مثل هذه الجوائز. لقد استمر سيوران في العيش بشكل متواضع في شقته المستأجرة، حيث كان يعمل على مكتبه الصغير المزدحم، ويكتب في دفاتر ملاحظاته متعددة الألوان، ويقوم بنزهات متكرّرة في مدينته، حتى أكل الألزهايمر رأسه، فليس غريباً أن يكون أول كتاب أصدره سيوران بعنوان: "الوجيز في التحلّل"!
هذه بعض أسماء الفلاسفة المتشائمين الذين تناولهم ثاكر في كتابه الصغير الحجم، فقد قارب ميشيل دو مونتني صاحب كتاب "المقالات" وجاكومو ليوباردي أعظم شاعر إيطالي بعد دانتي وآخرين. لم يكن يقصد ثاكر تقديم سير حياتية عنهم، ولا عرض فلسفتهم بالتفصيل، بل هي قراءة أقرب إلى الشذرات التي اشتهر بكتابتها هؤلاء الفلاسفة. هو كتاب يدعو للتأمل، وخصوصاً عندما يقول سيوران: "المولود الأكثر حرّيّة؛ هو المولود ميتاً".