في الذكرى الـ107 لشهدائها.. ما التحديات التي تواجه الصحافة اللبنانية اليوم؟
بعد تأسيسهم صحفاً في مختلف قارات العالم، ما هي التحديات التي تواجه الصحفيين اللبنانيين اليوم؟ وهل تُحتضر الصحافة اللبنانية فعلاً في ظل الأزمات التي تواجهها؟
في الـ6 من أيار/مايو، تحتفل كلٌّ من سوريا ولبنان بعيد الشهداء. صحيحٌ أنّ هذه الذكرى هي في الأساس لشهداء الصحافة، الذين علّقت السلطة العثمانية مشانقهم في العام 1916، في "ساحة البرج" في بيروت، التي أصبحت تُعرف بعد ذلك بـ"ساحة الشهداء"، وفي "ساحة المرجة" في دمشق، لكنّها أيضاً تذكار لجميع الشهداء، ومن ضمنهم الصحافيين، الذين سقطوا دفاعاً عن حرية التعبير.
مراحل الصحافة اللبنانية
في استعراض لأمهات الصحف الصادرة باللغة العربية أيام الحكم العثماني، يتبيّن لنا أنّ أول صدور لصحيفة سياسية لبنانية في بيروت كان في العام 1858، هي "حديقة الأخبار"، وكان ذلك على يد الصحافي خليل الخوري. بعدها، في العام 1860، أصدر المعلم بطرس البستاني صحيفة "نفير سوريا". ثم توالت الصحف والدوريات، ومن أبرزها جريدة "لسان الحال" (في العام 1877) للصحافي خليل سركيس.
بعض الصحف كانت ثقافية اجتماعية، أُسِّست على يدّ المرسلين الأجانب، أو أُصدِرت بإصدارات رسمية من المتصرف نفسه، بالإضافة إلى الصحف التي كانت تصدر باللغة العربية في المهجر.
وهنا تجدر الإشارة إلى الدور الرائد الذي لعبته الصحافيات اللبنانيات، إذ أسَّست الصحافية سليمة أبي راشد أول مجلة نسائية، حملت اسم "فتاة لبنان"، وذلك في العام 1914، كما أصدرت الصحافية ماري عطالله مجلة "مينرفا" في العام 1917، وهو العام نفسه الذي أصدرت فيه الصحافية والمربية عفيفة صعب مجلة "الخدر".
ولعلّ أول صحيفة مهجرية حملت قضايا بلاد الشام صدرت في باريس، باللغتين العربية والفرنسية، في العام 1858، وحملت اسم "برجيس باريس"، لصحابها رشيد الدحداح. وبحسب المؤرخ فيليب طرازي، الذي اهتمّ بتأريخ الصحافة العربية، فإنّ السوريان نجيب وإبراهيم عربيلي كانا أول من أصدر صحيفة عربية في الولايات المتحدة الأميركية، أسمياها "كوكب أميركا" (1892)، وكانت جريدة سياسية علمية تجارية وأدبية. بعد ذلك بسنتنين، أصدر اللبناني نعوم مكرزل صحيفة "العصر"، ثم صحيفة "الهدى" في العام 1898، وفي العام التالي أسَّس اللبناني نجيب دياب صحيفة "مرآة الغرب".
أمّا في أميركا الجنوبية، فكانت "الرقيب" (1896) أول صحيفة لبنانية صدرت في البرازيل، التي أسّسها كلٌّ من أسعد خالد ونعوم لبكي. وفيما بعد توالت إصدار الصحف والمجلات باللغة العربية في كل القارة الأميركية.
أمّا الصحف التي أسسها مهاجرون في مصر، فقد أسّس الأخوان سليم وبشاره تقلا جريدة "الأهرام" (1875)، كما أنشأ الصحافي يعقوب صروف مجلة "المقتطف" (1876)، وأصدر الطبيب والأديب شبلي شميّل أول مجلة طبية في العالم العربي، حملت اسم "الشفاء" (1886)، فيما أسّس ابنه الصحافي رشيد شميّل جريدة "البصير" (1896). كما أصدر المفكر فرح أنطون مجلة "الجامعة" (1899).
من ناحية أخرى، دخلت الصحافة اللبنانية مرحلتها الثانية بعد التحرّر من الهيمنة العثمانية، فنشأت في حقبة الاستعمار الفرنسي صحف ومجلات جديدة، طالب بعضها بالاستقلال، فيما ساير بعضها الآخر الحُكم الجديد. وفي هذه المرحلة أُنشِئت أول إذاعة في لبنان، كانت تُعرف بـ"إذاعة الشرق"،ة وذلك في العام 1938، وأصبح اسمها لاحقاً "إذاعة لبنان"، وهي من أقدم الإذاعات في العالم العربي.
بعد نيل لبنان استقلاله، انتقلت الصحافة إلى عهد جديد، فتنوّعت وتعدّدت مصادرها، ليصبح لبنان رائداً في الإعلام المرئي والمسموع أيضاً، مع انطلاق البثّ في "شركة تلفزيون لبنان" في العام 1959.
نقيب المحررين اللبنانيين: الصحافي مشروع شهيد وشهادة
بمناسبة ذكرى شهداء الصحافة، وبالتزامن مع "اليوم العالمي للصحافة وحرية التعبير"، الذي يُصادف في الـ3 من أيار/مايو، تضيء "الميادين الثقافية" على مراحل الصحافة اللبنانية، منذ بداية تأسيسها وصولاً إلى يومنا هذا؛ عصر الصحافة الرقمية، من خلال مقابلة خاصة مع نقيب المحررين اللبنانين، جوزيف القصّيفي.
1- هل يبحث الصحافيون اليوم عن حرية التعبير بقدر بحثهم عن الهمّ المعيشي، في ظل الأزمة الاقتصادية؟
للحديث بواقعية عن وضع الإعلام في لبنان، نرى بأنّ هناك حرية تعبير كافية، ولكنّ الكلام عن حرية التعبير وتقييم هذه الحرية وكيفية ممارستها يختلف بين محللّ وآخر. الحقيقة أنّ لدينا حريّة رأي وتعبير وحريّة إعلام، وأحياناً يُؤخذ على الإعلام في لبنان أنّ حريته غير محدودة، وهي خارجة عن بعض الضوابط. قد يكون في هذا الكلام بعض الصحة، ولكن يجب أن نتنبه إلى أنّ هناك قوانين مرعية، وهناك قانون مطبوعات، وقد يختلط الأمر على البعض، فيلجأ عندما يتضرّر من إعلامي ما إلى محكمة غير مختصة (أي جزائية)، في حين أنّ هناك محكمة المطبوعات التي تبتّ وتفصل. في بعض الأحيان هناك خلط بين التعرض للشخصي وبين المعارضة السياسية، أو نجد أخباراً قد لا تكون صحيحة. ولكنّ عملية التصويب موجودة في محكمة المطبوعات، وعلى المتضرر أن يوضح أو يكذّب، أو يطلب إبداء ردّه في الصحيفة أو الوسيلة نفسها، وعلى هذه الأخيرة أن تتجاوب.
في المقابل، الهمّ المعيشي للصحافي موجود، وإذا أردنا التحدّث عن الصحافة المكتوبة فهي تُحتضر. وإذا أردنا أن نتكلّم عن المرئي والمسموع، كان الوضع المادي سابقاً أفضل من الوضع الحالي، أمّا اليوم فإنّ مجمل العاملين، وباستثناء قلّة قليلة، رواتبهم ليست على النحو الذي يستطيع أن يرتاح إليه الصحافي تماماً. بالإضافة إلى أنّ العاملين في المواقع الإلكترونية رواتبهم ليست كافية أيضاً. أمّا العاملون في مواقع التواصل الاجتماعي، فرواتبهم خارجة عن أية ضوابط ويلزمها قانون خاص. لذلك، أنا أقول إنّ علّة الصحافة في لبنان، بالإضافة إلى الوضع المادي السيئ، والتحديات السياسية وانعكاساتها وتعدّد الآراء فيها، هي الحاجة إلى مرجعية قانونية، أي قانون شامل وكامل للإعلام بكل فئاته، وبرأيي هذا القانون هو الذي ينظّم العمل الإعلامي.
إننا نعمل اليوم في قانون يعود إلى العام 1962. وأكثر من مرة، ومنذ العام 2000، ونحن نجتمع تارة في لجنة الإعلام النيابية، وتارة في لجنة الإدارة والعدل. ومشروع قانون يذهب ومشروع قانون يأتي، نرسله إلى اللجان ثم يُسحب، وحتى الآن لم نصل إلى نتيجة. وهناك اليوم مشروع قانون للإعلام أُعِدّ وأصبح موجوداً في لجنة الإدارة والعدل، ينام ملء جفونه، وهو بحاجة إلى من يوقظه ليُرسَل إلى المجلس النيابي.
2 - في زمن الصورة والإعلام الرقمي، كيف انعكست الأزمة الاقتصادية على الجريدة الورقية، على الرغم من متعة لمس الجريدة الورقية وعطر حبرها؟
شخصياً، أنا من الذين يحبون ويتمتعون بالجريدة الورقية وبعطر حبرها، لكن لنعترف بأنّ الصحافة الإلكترونية اليوم هي الأكثر انتشاراً، على الرغم من أنّها ليست الأكثر دقة بسبب التسابق على الأخبار والمعلومات، وهذا ما حصل في فترة من الفترات مع وسائل الإعلام المرئية والسموعة. في بعض الأحيان يكون الخبر مبتوراً أو غير دقيق، مما يخلق إشكالات كثيرة، في حين أنّ الصحافة المكتوبة تقدّم نوعاً ما الخبر الموثوق، لأنّ لديها الوقت للتحقّق منه. ثانياً، إنّ الصحافة المكتوبة تُتيح للموضوع مساحة كافية للتطرّق إليه من كافة جوانبه، فيخرج مستوفياً كل الشروط الموضوعية.
صحيحٌ أنّ الصحافة الورقية تُحتضر، لكنّها وفي وجه هذه المضاربة القوية، عليها أن تقوم بخطوات لتمويل إنفاقها بهدف تأمين شروط استمراريتها، بالإضافة إلى إيجاد مواقع أو صفحات إلكترونية تابعة لها لتتكامل مع القسم الورقي فيها، بحيث يشكّل الموقع عنصراً مسانداً مادياً أو معنوياً للصحيفة.
تجدر الإشارة إلى أمر علينا التنبّه إليه، وهو أنّ المنافسة غير متكافئة بين الصحيفة الورقية والموقع الإلكتروني، فترخيص الصحيفة كان مُكلِفاً في الماضي، بالإضافة إلى تسجيل المكتب والحبر والمطابع والورق ونفقات المكتب من كهرباء وغيرها. في المقابل فإنّ تسجيل الموقع الإلكتروني أقل كلفة، وبالتالي نفقاته أقل من الصحافة الورقية وأرباحه أكثر، لذلك لا نستطيع أن نوازي بين الصحافة الإلكترونية والصحافة الورقية أو المرئية والمسموعة، وبالتالي هذا التوازن المفقود يجب أن نجد له علاجاً.
4- برأيك كيف نستطيع قياس أخلاق المهنة في ظل الإعلام المفتوح على كلّ العالم؟ وهل ما زالت هذه الأخلاق محترَمة؟
في دول العالم المتحضّر، هناك مدونات سلوك يلتزم بها الصحافيون، وبعضها إلزاميّ. على سبيل المثال، في ألمانيا أو في بلجيكا، هناك مدونات سلوك ومجلس يُشرف على تطبيقها، يتألف من أصحاب الصحف ومحررين وقضاة، ويرأسها قاضٍ. تراقب هذه المدونة سلوك الصحافي، وتتخذ الإجراءات اللازمة في حال المخالفة.
أمّا في لبنان فهناك ضوابط أخلاقية للمهنة وشروحات لها، لكنّها ما زالت ضمن مشروع القانون الذي تكلّمنا عنه سابقاً. وبرأيي علينا العمل على خلق ثقافة داخل الجسم الإعلامي في التعاطي مع بعضه البعض، والتعاطي مع المجتمع. بمعنى الفصل بين الموقف السياسي والموقف الشخصي. وربما هذه الثقافة موجودة، إنّما غير مطبَّقة تماماً. لذلك، أنا من الرأي القائل إننا بحاجة إلى مدونة سلوك إعلامية.
5- الصحافة هي نوع من أنواع المعرفة، واليوم أصبح النص ينتمي إلى كل مكان في عصر العولمة، هل نحن بحاجة إلى منهج فكري أو قانون معين لمواكبة الثورة الصحافية المعلوماتية؟
المنهج المطلوب هو قانون حديث للإعلام، فالمهنة تتطور والديناميكيات تفرز نفسها. ولكنّ الإطار العام للإعلام كوسيلة للمعرفة وتقريب المسافات والإضاءة على مشاكل المجتمع هي نفسها. الحاجة هي تشريع القانون الجديد.
6-في ذكرى شهداء الصحافة اللبنانية، لديكم وقفة رمزية في 6 أيار/مايو في ساحة الشهداء، فما هي الرسالة التي تودّ توجهيها إلى جميع الزميلات والزملاء؟
الرسالة الموجهة هي الوفاء لتراث الشهداء، فشهداء 6 أيار/مايو 1916 ليسوا تفصيلاً في تاريخ الوطن. عندما عُلِّقت المشانق في ذلك التاريخ، شكّل الصحافيون ثلث الشهداء. هؤلاء كانوا الشرارة لشقّ طريق التحرّر والحرية، ودفعوا ثمن آرائهم وارتقوا إلى ذرا الشهادة. وفيما بعد، كانت هناك قافلة من الصحافيين الشهداء الذين سقطوا في كلّ المواقع، وفي كلّ محطات تاريخ لبنان... وبالتالي نرى بأنّ الصحافيين والإعلاميين كانوا دائماً في ذروة الحدث. لذلك عليهم أن يعتبروا أنفسهم أساساً في المشهد الوطني، بمعنى ألّا يستهينوا بدورهم وأن يقوموا به بكل مسؤولية. وأنا أعتبر بأنّ الصحافي حتى في ذروة أيام الرخاء هو مشروع شهيد وشهادة.