فرحان بلبل: شيخ المسرحيّين السوريّين رحل شاباً
وهب معظم حياته للمسرح وحمل لقب "شيخ المسرحيّين السوريّين". من هو الفنان السوري فرحان بلبل الذي رحل عنّا قبل أيام؟
رحل عن دنيانا، قبل أيام، شيخ المسرحيّين السوريين، فرحان بلبل، (1937- 2025)، بعد أن وهب معظم حياته لأبي الفنون، تاركاً فيه بصمات عميقة على صعيد الكتابة والنقد والإخراج، فهو وإن كان من عائلة اهتمت بالفقه الإسلامي من والده إلى جده إلى والد جده، فإنه سعى لأن يُفقِّه الآخرين بضرورة المسرح وأهميته الاجتماعية.
ورغم أنه عاش يتيم الأب منذ شهره السابع، ودخل الميتم الإسلامي في سن الخامسة، إلا أنه استطاع في ما بعد أن يكون أباً روحياً للكثير من المسرحيّين السوريّين، وملجأ لهم بمحبته ووعيه العالي ونقده الموضوعي الصادق.
هناك من لا يعلم أن بلبل بلغ الــ 27 من عمره من دون أن يعرف شيئاً عن المسرح. إذ أنهى دراسته للأدب العربي في الجامعة السورية كما كانت تسمى في تلك الأيام عام 1960، وبدأ التدريس في ثانويات حمص مترافقاً مع نشاطه الأدبي كشاعر وقاص وناقد. لكنه في عام 1964 شعر بأنّ الشعر والقصة ليسا ميدانه، بل المسرح، ولأنّ معلوماته عنه ليست سوى لمحات قليلة تلقَّفها في الجامعة، لذا اعتكف في بيته مدة 4 سنوات يدرس فنّ المسرح بمدارسه واتجاهاته منذ أقدم العصور. كما قرأ كلّ ما وصل إليه من ترجمات لنصوص مسرحية إنكليزية وفرنسية وألمانية وروسية.
بعد ذلك كتب 13 مسرحية اعتبرها تمرينات على هذا الفن، ليتوِّجها بمسرحية "الجدران القرمزية" عام 1969 كأول نص ناضج له يردُّ فيه على هزيمة حزيران/يونيو 1967، لكنه عندما حاول إخراجها مع فرقة أحد الأندية الفنية التي شكَّلها قبل عام من ذلك، أدرك أن معرفته بفنّ الإخراج لا تخوِّله لذلك، فكلَّف المخرج المصري، محمود حمدي، للقيام بتلك المهمة، ثم أمضى 4 سنوات أخرى في دراسة فنّ الإخراج والتمثيل من خلال الكتب ومشاهدة العروض المسرحية والتعلُّم من المخرجين، وأيضاً عبر رصد استجابة الجمهور لما يُعرض ومحاولة تلمُّس ملامح الذوق الفني للناس، وهو ما خوَّله إخراج مسرحيته "الحفلة دارت في الحارة" عام 1972، وحينها بدأت رؤيته الإخراجية بالتشكُّل.
مسرح من دون منصة
بعد ذلك بعام شكّل فرحان بلبل "فرقة المسرح العمالي" في حمص من المجموعة نفسها التي بدأت معه عام 1968، وقدّمت عروضها في معظم المدن السورية، وفي التجمّعات العمّالية الكبيرة، في الرميلان والجبسة ومناجم الفوسفات، وفي القرى الكبيرة، والمهرجانات المسرحية في دمشق من مهرجان الهواة، إلى مهرجان المسرح العمالي، ومهرجان المسرح العربي، ومهرجانات المحافظات، وفي العراق. حتى أنّ عدد عروض المسرحية الواحدة كان يصل في بعض الأحيان إلى 100 عرض، رغم أنها فرقة فقيرة مادياً، وهي مموّلة ذاتياً، حتى أنّ أحد أعضائها باع دراجته من أجل دفع تكاليف الديكور والإضاءة، وكانت تصنع أجهزة إضاءة بدائية، وتجعل من الديكورات سهلة الفك والتركيب، حتى أنها كانت تقدّم عروضها في أماكن ليست فيها منصة مسرحية، وأمام جمهور يشاهد المسرح للمرة الأولى، وبسبب الندوات التي تلي كل عرض، ساهمت الفرقة بنشر الثقافة المسرحية في سوريا كلها. كما أنها دفعت "الاتحاد العام لنقابات العمال" لإنشاء فرق مسرحية في جميع المحافظات، أقام لها بعد ذلك مهرجاناً مركزياً سنوياً دام 10 سنوات.
كان بلبل يرى في المسرح العمالي دفاعاً عن إنسانية الإنسان وحقوقه، وهو أيضاً كفاح ضد الفساد والاستبداد والتخلّف الاجتماعي، وهو ما رسَّخه في جميع المسرحيات التي كتبها وأخرجها. كما أنه سخَّر التراث الإنساني المسرحي في خدمة توجّهه، بعد إعادة صياغة نصوص المدارس المسرحية المختلفة وطباعتها بطابعه الشخصي، حتى يَخفى على قارئه الأصول التي اتكأ عليها، وهو ما يلجأ إليه أيضاً في ما يتعلّق بالأساطير وحكايات ألف ليلة وليلة وغيرها من قصص التراث العربي بغية التحايل على هوامش الحرية الضيّقة، طبعاً إلى جانب الكثير من نصوصه الواقعية التي تدور في فلك الحياة المعاصرة والتي جرَّت عليه نقمة كثيرين من فئات المجتمع كالمحامين والقضاة والأساتذة ورجال الدين، إلى حد أنه هُدِّد بالقتل لجرأة طروحاته. إذ طالما كان ينظر، كما أشار في أحد حواراته، إلى أنّ "المسرح في بلادنا هو بمثابة خندق للقتال، وليس حلية ثقافية، والدليل على ذلك أنه لو عدنا إلى نشأة المسرح العربي في منتصف القرن الــ 19 لوجدنا أن نشأته كانت استكمالاً للنهضة العربية، كما كانت مهمته الخوض في مشاكل النهضة، ومحاربة المستعمر العثماني، كما كانت جزءاً من حراك اجتماعي، ولا تزال هذه المهمة تقع على المسرح، لكنّ ضياع المسرحيين العرب وتخلّيهم عن الدور الاجتماعي الذي يقوم به المسرح العربي عادةً، جعل الجمهور ينفضّ عنه، وهذا يعني أن الأزمة ليست في المسرح، وإنما بانفضاض الجمهور عنه".
جو ديمقراطيّ
دام نشاط "فرقة المسرح العمالي" حتى العام 2011. أي أنها واصلت عملها ما يقارب 45 عاماً، لتكون بذلك الأطول عمراً في تاريخ المسرح، بأعضائها الذين كانوا أصدقاء حياة، وأزواجاً، وانتمى أحفاد بعضهم إلى الفرقة ذاتها، التي كان منزل فرحان بلبل مقرها الدائم، وتحوَّل إلى مُنشِّط ثقافي لأعضائها الذين يُخيم عليهم جو ديمقراطي في تقرير أعمال الفرقة، وانضباط إداري صارم من خلال مجلس إدارة واجتماعات دورية، إضافة إلى التنافس الفني بينهم من دون أي اعتبارات مادية، فهي غير موجودة أساساً.
قدّمت الفرقة 45 مسرحية أخرج منها فرحان 35 عرضاً بينما تولّى إخراج الباقي بعض أعضاء الفرقة الذين تعلّموا الإخراج على يديه، وإلى جانب ذلك نشر 32 مسرحية في سوريا ولبنان ومصر والإمارات، كما اهتمّ بمسرح الأطفال فكتب فيه 6 مسرحيات، وقدّمت الفرقة عدداً كبيراً من مسرحيات الأطفال له ولغيره.
كان بلبل عضواً في "اتحاد الكتّاب العرب" منذ عام 1971، وشارك في لجان تحكيم عدد كبير من المهرجانات المسرحية ولجان تحكيم النصوص والأبحاث المسرحية السورية والعربية. وعمل منذ عام 1986 حتى عام 2011 في "المعهد العالي للفنون المسرحية" في دمشق أستاذاً لمادة الإلقاء المسرحي.
وفي المعهد نشر بلبل كتابه "أصول الإلقاء والإلقاء المسرحي"، وله 15 كتاباً في النقد منها: "المسرح العربي المعاصر في مواجهة الحياة، من التقليد إلى التجديد في الأدب المسرحي السوري"، و"المسرح السوري في مئة عام 1847–1946"، و"المسرح التجريبي الحديث عالمياً وعربياً، مراجعات في المسرح العربي". كما أنه أعاد صياغة "رسالة الغفران" لأبي العلاء المعري بلغة سهلة على القارئ العادي، وله كتاب غير منشور بعنوان "محمد بن عبد الله كما أراه"، وفيه يسرد سيرة نبي الإسلام بعدما خلَّصها من الشوائب والزيادات، لكن هذا الكتاب لم تجرؤ دار نشر عربية على نشره حتى الآن.
فنّ الإلقاء
في حديث خاص مع "الميادين الثقافية" قال المخرج المسرحي، عجاج سليم إن: "فرحان بلبل اسم كبير، فهو الأستاذ والمخرج والكاتب والباحث، وكان لي شرف لقائه أول مرة عام 1993 خلال وجودي لأول مرة في لجنة تحكيم مهرجان حمص المسرحي مع الدكتور نبيل حفار والدكتور فايز الداية. زرته حينها في بيته، وحتى الآن ما زال الانطباع الجميل الأول والدهشة التي غمرتني وأنا أرى مجموعة كبيرة من البوسترات المسرحية التي تغطي جدران صالون بيته الذي كان بيت ضيافة لكلّ فنان يمرّ بحمص. في ذاك اللقاء تحدّثنا عن المسرح والمطلوب من الفنان المسرحي الأكاديمي وغير الأكاديمي، ومشاكل المعهد العالي، وغير ذلك من قضايا حينما كنا نظن أنها فترة مسرحية صاعدة، لكنها كانت مفعمة بالكسل بعد السبعينيات والثمانينيات، وفي التسعينيات أعادت انطلاقتها ثم عادت إلى هدوئها، ومن مجمل الأحاديث عن مشاكل الممثل العربي ومنها موضوع الإلقاء والصوت، ومعرفتي به كأستاذ لغة عربية، لذا اقترحت أن يأتي إلى المعهد العالي الذي كنت وكيله زمن العميد صلحي الوادي، ولبّانا بشكل جميل، وكان يأتي كل أسبوع مرة من حمص ليلقي محاضراته، التي أسست لأسلوب خاص في الإلقاء، فهو أستاذ لغة عربية وشارح للقرآن الكريم بكل ما يتعلق بمخارج الحروف والصوت والإلقاء، وكانت نتيجة هذه الدروس صدور كتابه عن فن الإلقاء الذي بات ذخيرة غنية في المكتبة المسرحية العربية بما يتعلّق بتكوين الممثّل، وحينها أطلقنا عليه شيخ شباب المسرحيّين لهمّته العالية بروحه وجسده وطاقته وعقله".
وأضاف سليم: "استمرت اللقاءات وكانت دعوتي له لحضور عرض "سفربرلك" في دمشق، حضر مرتين، وكتب عنه واحدة من أجمل المقالات في الصفحة الأخيرة من جريدة "الثورة"، بعنوان "صنع العفوية"، وكان المقال مجالاً لحديث طويل بيننا، استفدت جداً من كل كلمة ذكرت في هذا المقال، وتوطدت العلاقة والصداقة بيننا التي استمرت حتى قبل أيام من وفاته. آخر مرة زرته منذ نحو سنة في بيته، كان التعب عليه واضحاً، ومع ذلك يستقبل زوّاره بمحبة، وأول حديث عن المسرح والجامعة والمعهد العالي والمسرح القومي، شغوف بأسئلة وقضايا المسرح السوري والعربي، وفي عام 2019 بمهرجان المسرح العربي كلّف بكتابة كلمة المسرح العربي الذي يصادف 10 كانون الثاني/يناير من كل عام، وذكر فيها جملته الشهيرة، "علينا أن نفتح أبواب المخفر الموجود في عقل كلّ مبدع"، التي لم تكن بمثابة كلام مباشر أو نصيحة مباشرة بل هي متضمّنة في جميع نصوصه من "العشّاق لا يفشلون" إلى "قرى تصعد إلى القمر" التي تطرح قضايا اجتماعية أقرب لحياة العمال لكنها في الوقت ذاته تخصّ الوطن بالكامل، ولو بشكل غير مباشر، بل عبر إسقاطات عديدة نجح بإيصالها إلى الجمهور الذي كان يتابعه".
لمّ شمل مسرحي
وأوضح عجاج سليم أنّ فرحان بلبل "اسم حفر عميقاً بمسيرة المسرح السوري، إلى جانب أسماء مثل سعد الله ونوس، عبد الفتاح قلعه جي، وليد إخلاصي، ممدوح عدوان، وغيرهم من كتّابنا الذين كانوا رجال مسرح حقيقيين وليس مجرد منظّرين، فهم تواجدوا في المطبخ المسرحي في سنوات صعبة، وحاولوا أن يوصلوا أفكارهم والقضايا التي يريدونها".
وقال: "ميزة فرحان أنه استطاع أن يلمّ شمل فرقة المسرح العمالي بذكاء ونعومة لأكثر من 4 عقود، والفضل لقدراته الإدارية المبهرة التي تضاف لإبداعاته المختلفة، التي لم تقتصر على الكتابة للمسرح، بل تعدّته للتلفزيون عبر مجموعة من الأعمال منها مسلسل "الأم" ذو التأثير الكبير في بداية القرن العشرين، ونحن الآن بحاجة إلى تأكيد كلّ ما كتبه وإعادة نشر كتبه في المسرح والفن، وذلك وفاءً لمسيرته، ساهم بإعطاء بصيص أمل للمواطن السوري وتأكيد انتمائه لبلده".
من جهته، قال المخرج المسرحي، زين طيار إن: "فرحان بلبل هو حالة لا تخصّني فقط بل تخصّ كلّ المسرحيين في حمص وسوريا والوطن العربي، وقبل انتقالي إلى دمشق كنت أزوره في منزله بشكل أسبوعي، ومن المهم فيه أنه لم ينسَ أيّ تفصيل من تفاصيل حياته المسرحية في يوم من الأيام. كنا نجلس ونتحدّث عن فرقة المسرح العمالي والتجارب المسرحية في حمص، وكان شرفاً لي أنه أُعجِبَ بعروضي والأعمال التي اشتغلتها، وفي أحد الأعمال كان من لجنة المشاهدة في المسرح القومي بحمص، قال جملة، وإن كنت في يوم من الأيام سأكتب مذكراتي ستكون هذه الجملة أول الكلمات التي سأكتبها، حينها قال: "إننا أمام مخرج يمتلك خيالاً شيطانياً، وأنا اليوم مستعدّ لأن أكون خادماً في هذه الفرقة المسرحية"، وهذه العبارة كانت كبيرة جداً وذات ثقل على كتفي وعلى كتف فرقتي المسرحية".
وأضاف طيار: "لطالما دارت حوارات مهمة بيننا في بيته، وكان داعماً حقيقياً لكلّ الشباب وكلّ المسرحيين في مدينة حمص، وتجربة المسرح العمالي كانت حالة فريدة من نوعها على مستوى الوطن العربي، إذ استطاع أن يصنع أسرة مسرحية من فرقته، لها نظام داخلي وقوانين وقواعد انتساب وكتّاب وممثّلون وفنيّون،تمكّنت من صياغة حالة مسرحية خاصة، كنا دائماً ننتظر أعمالها، إذ ضمّت الفرقة قامات كبيرة وخرّجت أسماء مهمة. واليوم رغم حزننا على رحيل الأستاذ فرحان إلا أننا نستطيع القول بأنه سيبقى خالداً بأعماله ومؤلفاته وأقواله وابتسامته اللطيفة وهدوئه. فقد كان فعلاً رجلاً مسرحياً حقيقياً، ومنذ توقّفه عن العمل في عام 2011 كان يترقّب الحالة السياسية التي وصلت إليها سوريا بفارغ الصبر، وأنا سعيد بأنه حقّق حلمه في أن يرى سوريا حرّة من الطغيان والاستبداد، وكنت أتمنى أن يقضي معنا وقتاً أطول".