فتنة الجمال العربي: بين الموروث الشعري والمنظور المعاصر
ما معاييرُ اختلاف الفلسفة الجماليّة بين الموروث والمعاصر؟ وإلى أيّ مدى ساهمَ تغيّر البِنية الثّقافيّة في إعادة إنتاج الرّؤية إلى الجمال؟
لطالما كانت الرؤية إلى الجمال نابعةً من المنظومة الفكرية التي تحكم السّياق الاجتماعيّ في كلّ مرحلةٍ زمنيّةٍ، لذا كان لا بدّ من إيجاد فروقاتٍ في الهُويّة الثّقافيّة على مدار العصور المتلاحقة، فلو تتبّعنا حركة الحياة استناداً إلى الموروث الشّعريّ، لوجدنا أنّ الجمال عموماً، وجمال المرأة خصوصاً، اتّخذ حيّزاً لافتاً في الأدب العربيّ. ذلك أنّه يُعَدُّ محرّكاً فاعلاً في إثارة كوامن النّفس البشريّة، ومحرّضاً على الكتابة، وباعثاً على الأمل، لا سيّما أنّ الإنسان بطبيعته يتوسّل ضوءاً ولو شحيحاً في زحمة الظّروف الصّعبة المتعبة، ويهرب إلى ما يجعله أكثرَ ارتباطاً بالوجود، وعلى هذا الأساس بدا عنصر الجمال مهمّاً جدّاً.
على سبيل المثال، كان العربيّ "الجاهليّ" يرى في جسد المرأة قصيدةً يسعى إلى تحقيق اكتمالها، معتمداً على كشف مفاتنه. مع دخول الإسلام، تبدّلت المفاهيم تبدّلاً نسبيّاً، فاندمج الجمال بالخفاء الذي صار الوجه الآخر له، لكنّنا اليوم، وبتأثير الفضاء الرّقميّ، نجد مقاييسَ ومعاييرَ مختلفةً للجمال.
وعليه، نعالج في هذه الورقة البحثيّة الإشكاليّةَ الآتيةَ: ما معاييرُ اختلاف الفلسفة الجماليّة بين الموروث والمعاصر؟ وإلى أيّ مدى ساهمَ تغيّر البِنية الثّقافيّة في إعادة إنتاج الرّؤية إلى الجمال؟
الجمال في الموروث الشّعريّ العربيّ
"الإستطيقا"، أو علم الجمال، مصطلحٌ يُستعمل في الفكر المعاصر للدّلالة على تخصّص من تخصّصات العلوم الإنسانيّة، الّتي تُعنى بدراسة "الجمال" من حيث هو "مفهوم" في الوجود، ومن حيث هو "تجربة" فنّيّة في الحياة الإنسانيّة. فـ"الإستطيقا" إذن هي علم يبحث في معنى "الجمال" من حيث مفهومه، وماهيّته، ومقاييسه، ومقاصده. و"الإستطيقا" في الشّيء تعني أنّ "الجمال" فيه حقيقةٌ جوهريّةٌ وغايةٌ قصديّةٌ، فما وُجِدَ إلّا ليكونَ جميلاً. وعلى هذا المعنى نشأتْ سائرُ "الفنون الجميلة" بشتّى أشكالها التّعبيريّة والتّشكيليّة" [1].
ننطلق من تعريف علم الجمال، لنلج إلى الرّؤية إلى الجمال في الشّعر العربيّ، هذا الجانب الّذي اتّخذَ حيّزاً كبيراً في حياة الشّعراء وقصائدهم، حتّى بلغَ مكانةً عظيمةً، ولعلّ السّبب في ذلك، ولا سيّما عند العربيّ القديم، يعود إلى أنّ العربيّ حسّاسٌ يأسره الجمال، "ذلك بأنّ الشّاعر العربيّ القديم كان شاعرَ طبيعة، يتأمّل فيها، ويبثّها آلامه، وينسى عندها أحزانه ويحبّها، ويُفتن بها، ويصوّرها كما امتثلتها نفسه، تثير الأطلال شجونه، وتملك عليه النّاقة والبعير والفرس فؤادَه، وتستهويه الصّحراء..."[2].
وكما نعرف عن الحياة البدويّة، فهي مليئة بالمغامرات وعدم الاستقرار، والأمر في ذلك يعود إلى الظّروف الّتي فرضت نفسها، وسبّبت لــ "الجاهليّ" القلق الدّائم، والخوفَ من الهلاك، فكانت المرأة عنده ملاذاً له، يواجه به الموت والفناء والعدم. هكذا ربط بينَها وبين الطّبيعة في الغزل والحبّ، فهي الوجه الآخر للطّبيعة، لكنّها الوجه الّذي يهزم الضّياع والتّشتّت، ويولّد السّكينة والأمان، ويبعث على الحياة والاستمراريّة، وفي هذا تغلغل أسطوريّ في ثنايا الرّوح الّتي باتت تلجأ إلى التّواصل مع جسد الآخر لغاية شبيهةٍ بغاية الفروسيّة. فقد حرصَ العرب قديماً على إتقانها، وتفاخروا بها، من هنا حفلت القصائد بالمقدّمات الطّلليّة الغزليّة، ثمّ فخر الشّاعر بما امتلك من براعةٍ في القتال وركوب الخيل، فكلا هذين الأمرين يسمح بالبقاء، من خلال الحفاظ على الحياة من جهة، والتّناسل من جهةٍ ثانيةٍ، خصوصاً أنّ "المرأة العربيّة كانت ذات جمال جسديّ وروحيّ، فلا جرم إذا كان جمالها ذا سلطانٍ على الرّجال، ولا جرم أن أحبّوها، وأكثروا الغزل فيها" [3].
الحياة البدويّة مليئةٌ بالمغامرات وعدم الاستقرار، والأمر في ذلك يعود إلى الظّروف الّتي فرضت نفسها، وسبّبت لــ"الجاهليّ" القلق الدّائم، والخوفَ من الهلاك، فكانت المرأة عنده ملاذاً له، يواجه به الموت والفناء والعدم.
وانتقالاً إلى النّظرة الجماليّة إلى المرأة، نلاحظُ أنّ الغزل الحسّيّ كان في الدّرجة الأولى، وبعده جاء الجمال الدّاخليّ الرّوحيّ، فقد "وصفوا المرأة وصفاً حسّيّاً، تناولوا فيه تقاطيعَ جسمها، فضلاً عن ثيابها وزينتها وحليّها"[4]، "فشعراء الحَضَر، وهم أصحاب الغزل الصّريح، كانوا يحبّون المرأة المهفهفة البيضاء وغير المفاضة" [5]، ومن ضمن الأخيرين امرؤ القيس الذي قال:
دخلتُ على بيضاءَ جُمٍّ عظامُها
تُعَفِّي بذيلِ الدّرعِ إذْ جئتُ مَودِقي
فهو يصفها باللّين والبضاضة، فكأنّ السّمنَ قد أخفى عظامها فهي جمّاء، وهذا دليل النّعمة والرّفاهية، وتعفّي بذيل الدّرع أي تسحب ذيل قميصها على أثري فتمحوه، والمودق أي أثر قدمي [6]، وكان للعين، والخدّ، والفم، والعنق، والقدّ، والصّدر، والشَّعر، حضورٌ وارفٌ في إبراز عناصر الجمال الأنثويّ، انطلاقاً من رؤية الرّجل الشّاعر إليها، إضافةً إلى الوسط والسّاق، فـ"العين هي النّافذة الّتي يطلّ منها الشّاعر على دِخلةِ محبوبته، وتطلّ منها عليه، هي منبع الجاذبيّة الّتي يستأسر لها الحبيب ويلتذّ الأسر، وشكل العين المناسب لأعضاء المرأة هو المتّسع، على أن تكون دعجاء كحلاء" [7]، يقول معن بن أوس:
سَبَتْني بعينيْ جُؤذُرٍ بخميلةٍ
وجيدٍ كجيدِ الرّئمِ زيّنَه النّظمُ [8]
أي ذهبت بعقله بعينيها الواسعتين، اللّتين تشبهان عينيْ ولد البقرة، وجيدها الطّويل كجيد ظبية.
وفي القدّ، قال كعب بن زهير:
هيفاءُ مقبلةً عجزاءُ مدبرةً
لا يُشتكى قصَرٌ منها ولا طولُ [9]
فقد أحبّوا المرأة الطّويلة، لأنّ "من شأن الطّول أن يبرز محاسنَ الصّدر والخصر والرّدفين، ومن شأنه أن يتناسب مع طول العنق وطول الشّعر وانسراح السّاعدين والسّاقين، ومن شأنه أن يساعد على مرونة الحركة والتّثنّي، فهو إذن صفةٌ لازمةٌ للاتّساق العامّ [10].
أمّا بالنّسبة إلى الشّعر، فقد رأوا في الأسود الطّويل جمالاً لا حدود له، لأنّه متناسقٌ مع البشرة البيضاء والعين السّوداء، والقدّ الأهيف، وفي هذا قالَ المرقّش الأصغر:
ألا حبّذا وجهٌ ترينا بياضَهُ
ومنسدلاتٍ كالمثاني واحما [11]
غير أنّ تصويرَ الجمال لم يقتصر على ما هو خارجيّ فقط، بل كان للدّاخليّ منه حصّة في الوصف ولفت النّظر، لأنّ لجمال الرّوح تأثيره أيضاً في نفس الرّجل، وفي هذا الإطار يقول إميل لودفيغ إن: "الرّجل العاشق لا يرى الجمال بل يبصر السّحر وحده، والأختان إذا ما عرضتا على رجال الخيال فضّلوا أكثرها سحراً على أكثرها جمالاً، وفي الآداب لا يُسبَغُ الجمال الكامل على البطلة"[12]. والغزليّون العذريّون هم أكثر من اهتمّوا بهذا الجانب، لأنّ الحسّيّين "كانوا عاكفين على لذّاتهم، منصرفين إلى تصوير الجمال الجسديّ أوّلًا قبل كلّ شيء. وقد يشتركون مع العذريّين في الحديث عن الأخلاق والنّفسيّة حين يزهدون في اللّذّة والمتعة" [13].
تصويرَ الجمال لم يقتصر على ما هو خارجيّ فقط، بل كان للدّاخليّ منه حصّة في الوصف ولفت النّظر، لأنّ لجمال الرّوح تأثيره أيضاً في نفس الرّجل.
أمّا أهمّ ما كان التّركيز عليه في هذا الجانب، فهي جاذبيّة المرأة العامّة، ونظراتها، وصوتها وحديثها، وابتسامتها، وحياؤها، إذْ كانت المرأة العفيفة العسيرة المنال هي القدوة في أعين هؤلاء الرّجال، لذا يقول السُّلَيك بن السُّلَكَة:
من الخَفِرات لمْ تفضحْ أباها
ولم ترفعْ لإخوتها شنارا
يعافُ وصالَ ذاتِ البذلِ قلبي
وأتّبعُ الممنّعةَ النّوارا [14]
والنّابغة الذّبياني يصوّر الضّحكةَ شركاً قادراً على قنص الوعول، لأنّه جاذبٌ خالبٌ، فابتسامُها يغري السّحابَ على الإبراق:
وإنْ ضحكتْ للعُصْمِ ظلّتْ روانيا
إليها وإنْ تبسمْ إلى المُزْنِ تَبْرُقِ [15]
وفي هذا يقول عنترة، وهو المعروف بإخلاصه لحبيبة واحدة هي عبلة، إذْ يرى أنَّ المرأةَ روحٌ حيّةٌ تتمثّلُ مظاهر الجمال وتحمدها، في غلالة تفصح عن الأدب والعفّة والحياء قدرَ ما تفصح عن الجمال:
دارٌ لآنسةٍ غضيضٍ طرْفُها
طوعِ العناقِ لذيذةِ المُتَبَسَّمِ [16]
وتجدر الإشارة هنا إلى ما يقدّمه الرّثاء من مفاتن المرثيّ، فكما نعلم، يحاول الرّاثي أن يستجمع طاقتَه للإلمام بصفات الميت المميّزة، من أجل تقديمه بأبهى ما يمكن. لذا يمكننا النّظر إلى هذا النّوع من الشّعر على أنّه عاملٌ مهمٌّ من عوامل تقديم الفتنة الجماليّة في الأدب لأنّه الأصدق والأقرب إلى القلب، فهو نابع من النّفس المكلومة في أقسى لحظات الحياة وأصفاها وأنقاها، ولا صنعة فيه أو قصديّة مادّيّة تُرجى منه، "قيل لأعرابيٍّ: ما بال المراثي أجود أشعاركم؟ قال: لأنّا نقولها وقلوبنا تحترق" [17]، وأفضل من يمكن الاستشهاد بشعرها هي الخنساء في رثاء أخيها صخر. إذْ نقرأ مزاياه الجميلة الّتي فخر بها العرب قديماً، وهي الصّفات الجماليّة المطلوبة والمرغوب فيها عند المجتمع كاملاً، ولا سيّما عند الجنس الآخر، ففي هذا الرّثاء نجدُ الخصائص الّتي تميّز الشّابّ العربيّ في نظر المرأة "الجاهليّة"، وإن كان هنا نابعاً من لوعة أختٍ على أخيها، تقول:
وإنّ صخراً لَمِقْدامٌ إذا ركبوا
وإنَّ صخراً إذا جاعوا لعقّارُ
وإنّ صخراً لَتَأْتَمُّ الهُداةُ بهِ
كأنَّه عَلَمٌ في رأسِهِ نارُ
جَلْدٌ جميلُ المحيّا كاملٌ وَرِعٌ
وللحربِ غداةَ الرّوعِ مسعارُ
حمّالُ ألويةٍ هبّاطُ أوديةٍ
شهّادُ أنديةٍ للجيشِ جرّارُ [18]
يحاول الرّاثي أن يستجمع طاقتَه للإلمام بصفات الميت المميّزة، من أجل تقديمه بأبهى ما يمكن، لذا يمكننا النّظر إلى هذا النّوع من الشّعر على أنّه عاملٌ مهمٌّ من عوامل تقديم الفتنة الجماليّة في الأدب.
ومع دخول الإسلام، تبدّلت مقاييس الجمال ومفاهيمه نسبيّاً، على الأقلّ في المرحلة الأولى منه، "فالإسلام هذّب الغزل في هذا العصر، فقد وضع القرآن حدوداً أخلاقيّةً للشّعر والشّعراء، والعلاقات العامّة بين الرّجل والمرأة (...)، إذْ جعل العلاقة بينهما على أساس العفّة والمودّة والرّحمة" [19].
يقول كعب بن زهير:
عيناً كمرآةِ الصَّنَاعِ تديرُها
بأناملِ الكفّينِ كلَّ مدارِ
بجمالِ مَحْجَرِها وتعلمُ ما الّذي
تُبدي لنظرةِ زَوجِها وتواري
والمقصود هنا المرأة الّتي تعرف كيف تدير أمورها للحفاظ على جمالها، فهي تُكثر النّظر إلى مرآتها، وتتزيّن لزوجها، وتصلح ما يكرهه منها [20].
بينما اختلف الأمر في العصر الأمويّ، نتيجة حال التّرف الكبير الّتي انتشرت، وانصراف الشّعراء عن شؤون السّياسة إلى اللّهو والمرح والبذخ، والتّمتّع بمباهج الحياة من مالٍ ونساءٍ وموسيقى، لكنّ ذلك لمْ يلغِ وجودَ فئةٍ منهم حافظت على نظرتها الجماليّة، لأنّها كانت من أنصار الحبّ الأفلاطونيّ المقدّس أمثال جميل بن معمّر، وقيس بن ذريح. بينما كان عمر بن أبي ربيعة زعيم الغزليّين، الّذينَ جسّدوا طغيان الرّؤية المادّيّة إلى جمال المرأة، وفي الوقت نفسه تميّز شعره بغزله بنفسه على لسان الحبيبات الكثيرات اللّواتي لا حصرَ لهنّ. وقد تزامن ذلك مع تحرّر المرأة الّتي بدأت تعبّر عن مشاعرها أيضاً. يقول شوقي ضيف "يُرَدُّ ذلك إلى نعومة العيش وما كان به سكّان المدن من ثراء عريض (...) غير أنّنا لا نكرّر أيضاً أثر نظام الحياة الاقتصاديّ، ومدى عمله في النّفوس" [21].
اختلفت النظرة إلى الجمال في العصر الأمويّ، نتيجة حال التّرف الكبير الّتي انتشرت، وانصراف الشّعراء عن شؤون السّياسة إلى اللّهو والمرح والبذخ، والتّمتّع بمباهج الحياة من مالٍ ونساءٍ وموسيقى، لكنّ ذلك لمْ يلغِ وجودَ فئةٍ منهم حافظت على نظرتها الجماليّة، لأنّها كانت من أنصار الحبّ الأفلاطونيّ المقدّس.
فما يميّز كلّ عمل أدبيّ فرديّ هو طبيعته الاجتماعيّة، وحسب رأي غولدمان "إنّ الجوهريّ هو العلاقة بين العمل الأدبيّ وبين الرّؤيات إلى العالم، الّتي تقابل بعض الطّبقات الاجتماعيّة" [22]. ونفهم من هذا الكلام، تأثير البيئة الأمويّة في تحديد الرّؤية الشّعريّة عموماً، والجماليّة خصوصاً، فـ"تلك الصّورة النّمطيّة التّقليديّة الّتي تشكّلت بفعل البنية الثّقافيّة المحيطة، والّتي فرضت نفسها على الشّاعر العربيّ منذ العصر الجاهليّ، هي نفسها الّتي نراها في نصوص الغزل الحضريّ، وإن كان الشّاعر الحجازيّ قد نجح في إضافة معانٍ جديدة، نجمت من تغيّر طارئٍ على البنية الثّقافيّة الحضريّة، فتغيّر المفاهيم والآراء دائماً ما يؤدّي إلى نشوء تصوّرات، وبنى ذهنيّة تعبّر عن التّطلّعات الجديدة إلى عالم مختلفٍ" [23].
سنكتفي هنا بنموذجين لابن أبي ربيعة، نظراً إلى مكانته في هذا المجال حيث يقول:
مُبَتَّلَةٌ صَفراءُ مهضومةُ الحَشا
غذاها سرورٌ دائمٌ ونَعيمُ
مُنَعَّمةٌ أَهدى لها الجِيدَ شادِنٌ
وَأَهْدَتْ لها العينَ القتولَ بَغومُ [24]
أي أنّها امرأةٌ تامّةُ الخَلقِ بيضاءُ ضامرةُ البطنِ، وهي شبيهةٌ بالغزالِ في الجيدِ والعينِ.
وفي قصيدةٍ أخرى، يصوّرُ نفسَه المتغزَّلَ به، بعد أن ذابت به الفتاةُ هِياماً وإعجاباً، وما هذا إلّا تأكيدٌ على تغيّر المنظومة الفكريّة والاجتماعيّة في البيئة العربيّة، وإنْ ظلّت ضمن نطاق الحشمة إلى حدٍّ ما، لكنّ هذا لا يلغي التّغييرات الحاصلة، ففي نصّ "وهل يخفى القمر"، يقول بلسان الحبيبة العاشقة:
ذا حبيبٌ لم يعَرِّجْ دوننا
ساقَه الحَيْنُ إلينا والقدَرْ
ورُضابُ المسكِ من أثوابِهِ
مَرْمَرَ الماء عليهِ فنضَرْ [25]
وهنا يذهب عمر إلى "تركيب بنية جديدة تختلف عن البنية السّابقة الّتي كانت سائدة فيما قبل" [26].
ولو نظرنا في العصر العبّاسيّ لاحقاً، لوجدنا أيضاً أنّ الهاجس الجماليّ نفسه لازم الشّعراء في محاولة إبراز مفاتن المحبوب. فأبو نوّاس يصف حبيبته جنان، الّتي لم تسعفه الظّروف لتكون من نصيبه، قائلاً:
وذاتِ خدٍّ مورّدْ
فتّانةِ المتجرّدْ
تأمّلَ النّاسُ فيها
محاسناً ليسَ تنفدْ
الحسنُ في كلِّ جزءٍ
منها معادٌ مردّدْ [27]
وكما حضرت فتنة الجمال في الشّعر الذّكوريّ، حضرت أيضاً، وإن كانت أقلَّ، في الشّعر النّسويّ. فللمرأة رؤيتها إلى الرّجل، ولها وجهة نظرها في هذا السّياق، فقد فُتِنَت بالفارس الشّجاع المقدام السّخي، وليلى الأخيليّة جسّدت هذه الرّؤية حين وصفت حبيبها توبة بن الحميّر قائلةً:
عفيفاً بعيدَ الهمّ صلباً قنانُهُ
جميلاً محيّاهُ قليلًا غوائلُهْ
وكانَ كَلَيْثِ الغابِ يحمي عرينَهُ
وترضى بهِ أشبالُهُ وحلائلُهْ
غَضوبٌ حليمٌ حينَ يُطْلَبُ حلمُهُ
وسُمٌّ زُعافٌ لا تُصابُ مقاتلُهْ [28]
بينما كانت وجهة نظر حفصة بنت الحاج مختلفةً، فحين تصف حبيبها تركّزُ على جوانب مختلفة عن تلك الّتي تناولتها الأخيليّة، إذْ تصف الجيد، والإطلالة، واللّحاظ، والرّضاب، والخدّ، والثّغر، وكلّها علامات سيميائيّة دالّة تحيلنا إلى واقع البيئة الأندلسيّة، الّتي فتحت الأبواب على مصراعيها أمام دخول الشّاعرات مسرح الشّعر بثقةٍ عاليّة، وحرّيّة تتناسبُ والطّابعَ العامّ، وهذا يدعم ما ذهب إليه غولدمان وذكرته سابقًا في هذا البحث، تقول:
زائرٌ قد أتى بجيدِ الغزالِ
مطلعٌ تحتَ جُنحةٍ للهلالِ
بلِحاظٍ من سحرِ بابل صيغَتْ
ورِضابٍ يفوقُ بنتَ الدّوالي
يفضحُ الوَردُ ما حوى منهُ خدٌّ
وكذا الثّغرُ فاضحٌ للّآلي [29]
إنّ المتأمّلَ حركةَ الشّعرِ في العصور المتلاحقة، بدءاً من العصر "الجاهلي"، وصولاً إلى ما بعد الإسلام، يجدُ أنّ الجمال قد نالَ مكانةً مرموقةً في عالم الشّعر العربيّ، خصوصاً أنّه مرتبطٌ بالطّبيعة الإنسانيّة والغريزة البشريّة، الّتي تدفع الإنسان إلى البحث عن نصفه الآخر، متتبّعاً في ذلك عاطفته من جهة، وعقلَه من جهةٍ أخرى. إذْ يسعى إلى إيجاد من يكمّله نفسيّاً وجسديّاً وعاطفيّاً. وقد تعدّدت الأذواق في ذلك، لكنّ ما يلفت النّظر هو التّشابه الكبير في معطيات الجمال السّائدة، حتّى عند العذريّين الّذين ركّزوا على الجانب الدّاخليّ الخلقيّ، فالمطلوب امرأةٌ ممشوقةٌ طويلةٌ، بيضاء شعرها أسود، وذات عينين واسعتين، وهذا يعني أنّ المرأة المثاليّة واحدةٌ في نظر الأغلبيّة، وفي هذا دلالةٌ على استمراريّة تأثير المنظومة "الجاهليّة" إلى حدٍّ كبيرٍ في فكر الشّعراء بالنّسبة إلى موضوعنا، فيما اختلفت وجهة النّظر عند الشّاعرات أكثر باختلاف الزّمان والمكان، كما لاحظنا عند الشّاعرتين الأنموذجين بين "الجاهليّة" والعصر الأندلسيّ، وهذا يعود إلى أنّ المرأةَ كانت أكثرَ عرضةً للقيود نظراً إلى العقليّة العربيّة المتمسّكة بعاداتها وتقاليدها، فهي عنوان الشّرف والكرامة.
المتأمّلَ حركةَ الشّعرِ في العصور المتلاحقة، بدءاً من العصر "الجاهلي"، وصولاً إلى ما بعد الإسلام، يجدُ أنّ الجمال قد نالَ مكانةً مرموقةً في عالم الشّعر العربيّ.
وبدا لنا أمرٌ يثيرُ التساؤل وهو: هل جميع الحبيبات أو العشيقات كنَّ هكذا فعلاً؟ أمْ أنّ الشّاعر رسمَ في ذهنه صورةً ما شائعةً عند الجميع، ونظمَ على أساسها قصائده؟ أم أنّه كتب بعين القلب والأمنية، فكان شعره وليدَ اللّاوعي فيه؟
الجمال في الشّعر العربيّ المعاصر في ظلّ الفضاء الرّقميّ
يرى جان بودريّار أنّ العصر التّكنولوجيّ يحمل نشوته الخاصّة في العلاقة الجديدة بين الإنسان والآلة، وهي علاقة دخلَ فيها الإنسانُ إلى عالم الأسرار الكبرى، واتّصل مع الأحداث وقت حصولها، وهذا ما يعني أنّنا لسنا في عصرٍ تكنولوجيٍّ جديدٍ فحسب، ولكنّنا أيضاً في عصرٍ ثقافيٍّ جديدٍ، نحتاج معه إلى كشف الخطاب المعبّر عن حال هذه المرحلة، وشرطها الإنسانيّ/التّكنولوجيّ المزدوج [30].
نستطيع من هذا المنطلق الولوجَ إلى الرّؤية الجماليّة في العصر الحديث، لأنّ التكّنولوجيا بأبعادها المختلفة منحت الثّقافة العربيّة إجمالاً سمةً مختلفةً عمّا كانت عليه سابقاً، لما للنّسق الثّقافيّ من تأثيرٍ في إعادة بناء الرّؤية الثّقافيّة إلى الأمور، خصوصاً في ظلّ هيمنة العالم الرّقميّ الّذي أتاح للعالم أن يكونَ قريةً كونيّةً صغيرةً، تتلاقحُ فيها الثّقافات المتعدّدة، لتنتجَ رؤى متشابهةً إلى العالم وإن بنسبةٍ معيّنةٍ، ولا سيّما في ما يتعلّقُ بالجمال، فـ"دراسة التّجربة الشّعريّة الجديدة يجب أن تبدأ من الأزمة. أزمة الثّقافة العربيّة الّتي يشكّل الشّعر، تاريخيّاً، إطارَها المرجعيَّ الأساسيَّ. أزمة البحث عن لغةٍ جديدةٍ" [31].
منحت التكّنولوجيا بأبعادها المختلفة الثّقافة العربيّة إجمالاً سمةً مختلفةً عمّا كانت عليه سابقاً، لما للنّسق الثّقافيّ من تأثيرٍ في إعادة بناء الرّؤية الثّقافيّة إلى الأمور.
ومن خلال بعض النّماذج الشّعريّة لبعض شعراء الحداثة والشّعر المعاصر، سنلاحظ تشكّل اللّغة الجديدة في التّعبير عن النّظرة إلى الجمال، وإنْ كانت الأفكار تلتقي في مواقع كثيرة، لأنّ الشّاعر رجلٌ لا يزال ينظر إلى المرأة الحبيبة، ويصفها في الدّرجة الأولى انطلاقاً من غريزة الذّكورة، لكنّ جوانب عديدة ظهرت في الشّعر الحديث، فأبو القاسم الشّابي يقول:
عذبةٌ أنتِ كالطّفولة، كالأحلام
كاللّحنِ، كالصّباحِ الجديدِ
كالسّماء الضّحوكِ كاللّيلة القمراء
كالوردِ، كابتسام الوليدِ
يا لها من طهارةٍ، تبعثُ التّقدي
سَ في مهجة الشّقيّ العنيدِ [32]
وفي قصيدة أخرى يقول:
أنتِ كالزّهرة الجميلةِ في الغابِ،
ولكن ما بينَ شوكٍ، ودودِ
أنتِ تحتَ السّماءِ روحٌ جميلٌ
صاغَهُ اللهُ من عبيرِ الورودِ [33]
من هذين النّموذجين للشّابي، نقرأ المكانةَ الّتي منحها المرأةَ في ذاته، فلم تكنْ نظرته مبنيّةً على الحسّيّة، بل وجدَ فيها روحاً من الله، ورآها مقدّسة، حتّى حين شبّهها بأمورٍ محسوسةٍ، فقد اختارَ أكثرَ العناصرِ رقّةً وسموّاً، وهذا يشيرُ إلى أنّ الجمال لم يكنْ عندَه غرائزيّاً، إنّما نابعاً من حقيقةِ الوجود والكون، كونَها كائناً مختلفاً يجسّدُ روح الحياة والسّعادة، بما تضفيه من وداعةٍ وهدوء في ظلّ الصّخب الذّكوريّ وقسوة العالم.
ونزار قبّاني الّذي صوّرَ جسدَ المرأة بكلّ تفاصيله في قصائده، رأى جمالَها في انطلاقتها وحرّيّتها، المصحوبين بالهدوء والصّفاء، لتظهر بكامل أنوثتها:
أريدكِ وادعةً كالحمامةْ
وصافيةً كمياهِ الغمامةْ
وشاردةً كالغزالةْ [34]
وبدر شاكر السّيّاب وجدَ في المرأة الضّوءَ الّذي يشرق في حياته، وهو المنكوب بفقدان أمّه وبعدِهِ من مسقط رأسه جيكور، فقد رأى فيها العاطفة والحبَّ والسّحرَ الأخّاذ. والسّحر لديه ليس مجرّدَ عينين وشفتين وقامة ممشوقة، أو حتّى لذّة جسديّة، بل ذهب إلى أبعد من ذلك بكثير، ليصبح جمالها نابعاً من احتوائها إيّاه، وتعويضه عن الحرمان الّذي عايشه وأرّقه وملأ قلبَه حزناً ووحدةً وظلاماً، وهذا يعود إلى تأثير الواقع في كيفيّة النّظرة إلى الأمور، ويعكس روحَ الشّاعر وثقافته وظروفه:
إذا ما كان عطفٌ منه، لا الحبّ، الّذي خلّاه يسقيني
كؤوساً من نعيمٍ
آهٍ، هاتي الحبَّ، روّيني
به نامي على صدري، أنيميني
على نهديكِ، أوّاها
من الحرقِ الّتي رضعَتْ فؤادي ثمّةَ افترستْ شراييني [35]
لذا كثيراً ما نجده يخلط بين الحبيبة المُتَغَزَّل فيها والأرض، فكانتا واحدةً في أحيانٍ كثيرة:
عيناك غابتا نخيلٍ ساعةَ السّحرْ
أو شرفتان راح ينأى عنهما القمرْ
عيناك حينَ تبسمانِ تورقُ الكرومْ
وترقصُ الأضواءُ كالأقمارِ في نهَرْ [36]
وتميّز محمود درويش أيضاً بالرّبط بين الحبيبة والوطن، لكنّي هنا اخترتُ نموذجاً آخر، من قصيدة "يطير الحمامُ":
أراكِ، فأنجو من الموت. جسمُكِ مرفأْ
بعشرِ زنابقَ بيضاء، عشر أناملَ تمضي السّماءُ
إلى أزرقٍ ضاعَ منها
وأمسكُ هذا البهاءَ الرّخاميَّ، أمسكُ رائحة للحليبِ المخَبَّأْ
في خوختينِ على مرمر، ثمَّ أعبدُ منْ يمنحُ البرَّ والبحرَ ملجأ [37]
حتّى حين أراد الإشارةَ إلى الجمال الجسديّ استخدمَ لغةً راقيةً رقيقةً، فهي الّتي تمنحه الحياة، وتجعله يشعرُ بوجوده، لنجد أنّه وشعراء الحداثة قد أخرجوا المرأة من النّطاق الضّيّق، ومنحوها بعداً جماليّاً مختلفاً، إذْ رأوا فيها النّجاةَ والسّكينةَ والهدوءَ، فقد اختزلت معاني السّموّ، إنّها تلك الرّوح العظيمة ومنحة السّماء كما عند أبي القاسم الشّابي، ورمز الانطلاق والتّحرّر من قيود التّبعيّة والعادات والتّقاليد كما عند نزار قبّاني، ومانحة الوجود الحقيقيّ كما عند درويش. لقد أضحى الجمال في الرّؤية الجديدة يحمل آفاقاً ودلالاتٍ أوسعَ وأعمقَ، خصوصاً أنّ المرأة بعد الثّورة الفرنسيّة، الّتي تغلغلت آثارها في أنحاء العالم أجمع، بدأت تنفض عن كاهلها الجحود والإجحافَ اللّذينِ طالاها، وشاركت في بناء المجتمع بناءً فعليّاً.
أخرج شعراء الحداثة المرأة من النّطاق الضّيّق، ومنحوها بعداً جماليّاً مختلفاً، إذْ رأوا فيها النّجاةَ والسّكينةَ والهدوءَ، فقد اختزلت معاني السّموّ، إنّها تلك الرّوح العظيمة ومنحة السّماء.
أمّا بالنّسبة إلى المرحلة الحاليّة، هذه المرحلة المرهونة للعالم الرّقميّ الّذي غزا الكون، فقد أردنا أن نقدّمَ نماذجَ حيّةً لشعراءَ وشاعراتٍ شباب لهم حضورهم في مواقع التّواصل الاجتماعيّ، وفاعليّتهم في المسار الشّعريّ، فقد تكسّرت تلك الحواجز الفاصلة بين الشّاعر والمتلقّي، إذْ أصبحَ الأخيرُ قادراً على تتبّع الحركة الشعريّة لحظةً لحظةً، وإصدار الأحكام مباشرةً، هذا التّكسّر جعلَ الانخراطَ أكبرَ وأسرعَ، وترك بصمته في الحركة الثّقافيّة عامّةً، الّتي يندرج الشّعر في سياقها. يقول حسن المقداد:
أنفاسُك الرّيحُ حينَ اللّيلُ ينشرُها
على ارتعاشي يضجُّ القلبُ مشتاقا
ووجهُكِ الأفْقُ حينَ الغيمُ يملأُهُ
يزيدُ بالغيمِ فوقَ الغيمِ إشراقا [38]
فيفتح آفاق المعنى إلى أبعد مدى، إذْ يشبّهها بعناصر الطّبيعة الطّلقة (الرّيح، والأفق، والغيم)، كأنّه بذلك يفتح باب الجمال على مصراعيه ليتجاوز المحسوسات البسيطة، ويحلّق بها في مجالات لا حدود لها.
والأمر نفسه نجده عند محمّد العثمان، حين يقول:
يا كمالي
تعالَي لأرسمَ من هامةِ الضّوءِ حولَكِ أجنحةَ الفجر..
مرّي لأسكبَ مائي..
أنا طاعنٌ بالفراغِ.. وليلي غريبْ [39]
فجمال الحبيبة عنده يكمن في أنّها تحقّق اكتماله وإشراقة حياته. أمّا فرقان كاظم فيرى الجمال في حزنها الهادئ وابتسامتها الخجول:
الفراتُ ينبعُ من هدأةِ حزنِكِ
وابتسامتِكِ الممزوجةِ بخَفَرٍ... [40]
وعبد الكريم أبو الشّيح يرى الجمال خيمةَ حبٍّ، تمنحه الحياة بكلّ تجلّياتها:
هي خيمةُ حبٍّ
تتأثّثُ بالنّور وماءِ الوقتِ
على مهَلٍ
وتهيّئُ سندسَها
سُرَراً
وأرائكَ من
أنداء البوحِ اليُنذِرُ لي... [41]
وفي الشّعر الأنثويّ، ترى هندة محمّد جمال الحبيب في ابتكاره الضّوء واقترافه العشق، وكأنّ الحبّ خطيئةٌ تريد بها أن تتمرّد على المعطيات السّائدة، لتنتصر بها ومعه على كلّ الهزائم:
أحبُّ العناقيدَ في كفّكَ الجرفِ
حينَ تحطُّ على الرّوحِ ضوءاً حبيباً
أحبُّ اقترافَكَ للعشقِ والشّعرِ رغمَ انكسارِ الجهاتِ... [42]
وحنان فرفور تجده تمرّداً وثورةً:
إنّي أحبُّكَ،
خارجاً عن نصّهم
معنى بدائيّاً.. بنا يتمرّدُ!
إنّي أحبُّكَ، ثائراً في سَكْتِهِمْ
حرفاً يكسّرُ قوسَه، يتجدّدُ [43]
وسارة الزّين تجده في أنّ الحبيب يشكّل اكتمالها، والوحي الّذي يحرّضها على الإبداع:
أريدكَ لونَ أغنيتي وظلّي
وكلّي..! إنْ أعدْتَ إليَّ كلّي..!!
أريدُكَ غيمةً حُبلى بوحيٍ
تبلّلُ رقصةَ القلمِ المقلِّ [44]
الشّاعرات إذاً يعكسن واقعهنَّ، فلم يعد الجمالُ فروسيّةً، ولا يقتصرُ على الكرم والجود والشّجاعة في الحرب، فالحروب الّتي تُخاضُ حديثاً باتت من نوعٍ آخرَ مختلفٍ، واحتياجات المرأةِ المفروضة من الواقع الجديد تغيّرت، فقد دخلت الحياةَ من بابها الواسع، وتحمّلت المسؤوليّة، وامتلكت القوّة والثّقافة والمعرفة، ونشطت في ميادين العمل، وصارت تنظر بعينِ المسؤولة القويّةِ المدركة الواعية الّتي تعرف ماذا تريد، وتعرف قيمةَ نفسها جيّداً، مستندةً إلى منظومةٍ فكريّةٍ مغايرة، ونسقٍ ثقافيٍّ جديدٍ، إنّها تدعو الحبيبَ إلى التّمرّد والثّورة الّتي امتلكت هي أيضاً أدواتِها، لتقفَ إلى جانبِ نزار قبّاني وهو يدعوها إلى التّمرّد، ويثور من أجلها، فها هي تستجيب اليوم، بل وتسبق الرّجلَ إلى هذا الفعل، وما كانت المرأة الشّاعرةُ لتصلَ إلى هنا إلّا بعد المخاضات الفكريّة الّتي خرجت منا بحلّةٍ ورؤًى جديدةٍ، حيث الحدود في طريقها إلى التّلاشي.
لم يعد الجمالُ فروسيّةً، ولا يقتصرُ على الكرم والجود والشّجاعة في الحرب، فالحروب الّتي تُخاضُ حديثاً باتت من نوعٍ آخرَ مختلفٍ، واحتياجات المرأةِ المفروضة من الواقع الجديد تغيّرت، مما دفعها إلى دخول الحياة من بابها الواسع.
خلاصةُ القول، إنّ الشّعر العربيّ قطع مراحلَ كثيرةً، وحين طرقت الحداثةُ بابَه، استطاعَ أن يتجلّى بأبهى صوره قلباً وقالباً. ولا نستطيعُ الجزمَ هنا في انقطاعِه الكلّيّ عن الموروث، لأنّ القصيدةَ العموديّة ما زالت حاضرةً بقوّة، وما زالت بعض الموضوعات "الجاهليّة" مطروحة، لأنّها إنسانيّة محضة لا يمكن للإنسان أن يتجرّدَ منها. لكنّنا نستطيع القول إنّ الشّعراء ابتكروا أدواتٍ حديثةً بفعل الانفتاح على الآخر الغربيّ، فـ"الحداثةُ ليست قطيعةً دائمةً، إنّها هي مرتبطةٌ بتراكمٍ ونموٍّ معرفيٍّ قوامُه الإبداع والتّغيير والتّجدّد، واللّغة الجديدةُ المعبّرةُ عن الإنسان الجديد لن تسمحَ للشّعرِ بأداءِ وظائفِهِ التّقليديّة القديمة" [45].
من هنا وجدنا تجاوزاً للأنساق الثّقافيّة القديمة، حين استخدم الشّعراءُ لغةً تتلاءمُ والمعطيات الجديدة فكريّاً وثقافيّاً واجتماعيّاً، وحينَ اختلفت معاييرُ الرّؤيةِ إلى الجمال، لتصلَ إلى أبعادٍ وجوديّةٍ عميقةٍ، فالمفاهيم المتوارثة ليست في الوضع الّذي كانت عليه سابقاً.
قائمة المصادر والمراجع
أوّلاً: المصادر:
1- الأخيليّة، ليلى، ديوان ليلى الأخيليّة، جم. وتح. خليل إبراهيم العطيّة، وجليل العطيّة، دار الجمهوريّة، بغداد، لا. ط، 1967م.
2- ابن أبي ربيعة، عمر، ديوان عمر بن أبي ربيعة، تق. أحمد أكرم الطّبّاع، دار القلم، بيروت، لا. ط، لا. ت.
3- ابن زهير، كعب، شرح ديوان كعب بن زهير، تح. وشر. علي فاعور، دار الكتب العلميّة، بيروت، لا. ط، 1997م.
4- ابن السُلَكَة، السُّليك، السّليك بن السّلكة: أخباره وأشعاره، در. وجم. وتح. حميد آدم ثويني، وكامل سعيد عوّاد، ورافع محمّد أحمد شهاب، مطبعة العاني، بغداد، ط1، 1984م.
5- ابن شدّاد، عنترة، ديوان عنترة، تح. ودر. محمّد سعيد مولويّ، كلّيّة الآداب، جامعة القاهرة، 1970م.
6- أبو الشّيح، عبد الكريم، دوائر الجنون، وزارة الثّقافة، إربد، ط1، 2007م.
7- امرؤ القيس، شرح ديوان امرئ القيس، جم. وتق. وتح. حسن السّنوبي، مر. وشر. أسامة صلاح الدّين المنيمنة، دار إحياء العلوم، بيروت، ط1، 1990م.
8- الجاحظ، أبو عثمان، البيان والتّبيين، تح. وشر. عبد السّلام محمّد هارون، مكتبة الخانجيّ، القاهرة، ط2، ج2، 1998.
9- الخنساء، ديوان الخنساء، شر. حمدو طمّاس، دار المعرفة، بيروت، ط2، 2004م.
10- درويش، محمود، الأعمال الأولى2، رياض الرّيّس للكتب والنّشر، بيروت، ط1، 2005.
11- الذّبياني، النّابغة، ديوان النّابغة الذّبيانيّ، تح. محمّد أبو الفضل إبراهيم، دار المعارف، القاهرة، ط2، لا. ت.
12- الزّين، سارة، حتّى مطلع الشّعر، دار مدارك للنّشر، الرّياض، ط1، 2020.
13- السّيّاب، بدر شاكر، الدّيوان، مج. 2، دار العودة، بيروت، لا. ط، 2005.
14- الشّابي، أبو القاسم، الأعمال الشّعريّة الكاملة، دار العودة، بيروت، ط1، 2006.
15- العثمان، محمّد طه، على إيقاع قامتها، دار موزاييك للدّراسات والنّشر، اسطنبول، ط1، 2022.
16- فرفور، حنان، ولا الضّالّين، دار موزاييك للدّراسات والنّشر، اسطنبول، ط1، 2022.
17- قبّاني، نزار، أريدك أنثى، موقع القصّة السّوريّ، ط5، 1989.
18- كاظم، فرقان، مدوّنة نبيّ أعزل، منشورات الاتّحاد العامّ للأدباء والكتّاب في العراق، بغداد، ط1، 2018.
19- محمّد، هندة، ظلالٌ لامرأةٍ واحدة، دار موزاييك للدّراسات والنّشر، اسطنبول، ط1، 2019.
20- المرقّش الأصغر، ديوان المرقّش، تح. كارين صادر، دار صادر، بيروت، ط1، 1998.
21- المزنيّ، معن بن أوس، صن. نوري حمّودي القيسيّ، حاتم صالح الضّامن، مطبعة دار الجاحظ، بغداد، 1977.
22- المقداد، حسن، المغنّي، دار الولاء، بيروت، ط1، 2018.
ثانياً: المراجع العربيّة والمعرّبة:
1- أبو زيد، سامي يوسف، وذيب، كفافي منذر، في الأدب الجاهليّ، دار الميسرة للنّشر والطّباعة، لا. م، ط1، 2011م.
2- الحوفيّ، أحمد محمّد، الغزل في العصر الجاهليّ، مكتبة نهضة مصر بالفجالة، ط1، لا. ت.
3- خوري، الياس، دراسات في نقد الشّعر، مؤسّسة الأبحاث العربية، بيروت، ط3، 1986.
4- شحيّد، جمال، في البنيويّة التّركيبيّة: دراسة في منهج لوسيان غولدمان، دار ابن رشيد للطّباعة والنّشر، بيروت، ط1، 1982م.
5- شلق، علي، غزل أبي نوّاس، دار بيروت للطّباعة والنّشر، بيروت، لا. ط، 1954.
6- ضيف، شوقي، تاريخ الأدب العربيّ في العصر الإسلاميّ، دار المعارف، القاهرة، لا. ط، 1963.
7- الطّريفيّ، يوسف عطا، شعراء العرب في العصر الجاهليّ، الأهليّة للنّشر والتّوزيع، لا. م، ط1، 2006م.
8- الغذّامي، عبد الله، النّقد الثّقافيّ العربيّ، بيروت، ط3، 2005.
9- غولدمان، لوسيان، البنيويّة التّكوينيّة والنّقد الأدبيّ: مقالة المادّيّة الجدليّة وتاريخ الأدب، تر. محمّد برادة، مؤسّسة الأبحاث العربيّة، بيروت، ط2، 1984.
10- لودفيغ، إميل، الحياة والحبّ، تر. عادل زعيتر، دار المعارف، مصر، 1950.
11- نوفل، السّيّد محمّد علي، شعر الطّبيعة في الأدب العربيّ، مطبعة مصر، القاهرة، 1945.
12- هويسمان، دنيس، علم الجمال (الإستطيقا)، تر. أميرة حلمي مطر، مر. أحمد فؤاد الأهوانيّ، تق. رمضان بسطاويسي محمّد، المركز القوميّ للتّرجمة، القاهرة، 2015.
ثالثاً: المراجع الأجنبيّة:
1- Killer, D: Media Culture Routledge, London and New York, 1995.
رابعاً: الأبحاث والدّراسات:
1- إقبالي، عبّاس، الغزل عند الشّاعرات الأندلسيّات في ضوء النّقد النّفسيّ الحديث، مقال في مجلّة إضاءات نقديّة الفصليّة المحكّمة، السّنة الخامسة، العدد العشرون، 2015.
2- زدادقة، سفيان، الحداثة وما بعد الحداثة وسؤال الهويّة، جامعة محمّد لمين دباغين، سطيف 2.
3- الشّمريّ، فاطمة بنت عبد الله، الغزل الحجازيّ الحضريّ في العصر الأمويّ، كلّيّة اللّغة العربيّة والدّراسات الاجتماعيّة، رسالة ماجستير، 2010.
4- عبابسة، سارة، نجعوم، يوسف، بيئات الغزل في العصر الأمويّ بين القصيدة العموديّة والقصيدة الحضريّة، رسالة ماجستير، كلّيّة الآداب واللّغات، الجزائر، 2014 – 2015.
[1] دنيس هويسمان، علم الجمال (الإستطيقا)، تر. أميرة حلمي مطر، مر. أحمد فؤاد الأهوانى، تق. رمضان بسطاويسي محمّد، المركز القوميّ للتّرجمة، القاهرة، 2015، ص 8- 9.
[2] السّيّد محمّد علي نوفل، شعر الطّبيعة في الأدب العربيّ، مطبعة مصر، القاهرة، 1945، ص 12.
[3] أحمد محمّد الحوفي، الغزل في العصر الجاهليّ، مكتبة نهضة مصر بالفجالة، ص 129، ط1، لا. ت، ص 129.
[4] سامي يوسف أبو زيد، كفافي منذر ذيب، في الأدب الجاهليّ، دار الميسرة للنّشر والطّباعة، لا. م، ط1، 2011م، ص 98- 102.
[5] يوسف عطا الطّريفيّ، شعراء العرب في العصر الجاهليّ، الأهليّة للنّشر والتّوزيع، لا. م، ط1، 2006م، ص21 – 22.
[6] امرؤ القيس، شرح ديوان امرئ القيس، جم. وتق. وتح. حسن السّندوبي، مر. وشر. أسامة صلاح الدّين منيمنة، دار إحياء العلوم، بيروت، ط1، 1990م، ص 157.
[7] أحمد محمّد الحوفيّ، الغزل في العصر الجاهليّ، ص 40.
[8] معن بن أوس المزني، صن. نوري حمودي القيسي، وحاتم صالح الضّامن، مطبعة دار الجاحظ، بغداد، 1977، ص 37.
[9] كعب بن زهير، ديوان كعب بن زهير، تح. وشر. على فاعور، دار الكتب العلميّة، بيروت، لا. ط، 1997م، ص 61.
[10] أحمد محمّد الحوفيّ، م.س، ص 34.
[11] المرقّش الأصغر، ديوان المرقّشين، تح. كارين صادر، دار صادر، بيروت، ط1، 1998، ص 99.
[12] إميل لودفيغ، الحياة والحبّ، تر. عادل زعيتر، دار المعارف، مصر، 1950، ص 50.
[13] أحمد محمّد الحوفيّ، الغزل في العصر الجاهليّ، ص 56.
[14] السّلَيك بن السّلكة، السّليك بن السّلكة: أخباره وشعره، در. وجم. وتح. حميد آدم ثويني، وكامل سعيد عوّاد، رفع محمّد أحمد شهاب، مطبعة العاني، بغداد، ط1، 1984م، ص 29.
[15] النّابغة الذّبيانيّ، ديوان النّابغة الذّبيانيّ، تح. محمّد أبو الفضل إبراهيم، دار المعارف، القاهرة، ط2، لا. ت، ص 181.
[16] عنترة بن شدّاد، ديوان عنترة، تح. ودر. محمّد سعيد مولويّ، رسالة ماجستير، كلّيّة الآداب، جامعة القاهرة، 1970، ص 97.
[17] أبو عثمان الجاحظ، البيان والتّبيين، تح. وشر. عبد السّلام محمّد هارون، مكتبة الخانجيّ، القاهرة، ط2، ج2، 1998، ص 32.
[18] الخنساء، ديوان الخنساء، شر. حمدو طمّاس، دار المعرفة، بيروت، ط2، 2004م، ص 46.
[19] سارة عبابسة، يوسف نجعوم، بيئات الغزل في العصر الأمويّ بين القصيدة العموديّة والقصيدة الحضريّة، رسالة ماجستير، كلّيّة الآداب واللّغات، الجزائر، 2014 – 2015، ص 46.
[20] كعب بن زهير، ديوان كعب بن زهير، ص 22 – 23.
[21] شوقي ضيف، تاريخ الأدب العربيّ في العصر الإسلاميّ، دار المعارف، القاهرة، لا. ط، 1963، ص 208.
[22] لوسيان غولدمان، البنيويّة التّكوينيّة والنّقد الأدبيّ، مقالة المادّيّة الجدليّة وتاريخ الأدب، تر. محمّد برادة، مؤسّسة الأبحاث العربيّة، بيروت، ط2، 1984، ص 16.
[23] فاطمة بنت عبد الله الشّمريّ، الغزل الحجازيّ الحضريّ في العصر الأمويّ، كلّيّة اللّغة العربيّة والدّراسات الاجتماعيّة، رسالة ماجستير، 2010م، ص 50.
[24] عمر بن أبي ربيعة، ديوان عمر بن أبي ربيعة، تق. أحمد أكرم الطّبّاع، دار القلم، بيروت، لا. ط، لا. ت، ص 187.
[25] عمر بن أبي ربيعة، الدّيوان، ص 90.
[26] جمال شحيد، في البنيويّة التّركيبيّة: دراسة في منهج لوسيان غولدمان، دار ابن رشد للطّباعة والنّشر، بيروت، ط1، 1982م، ص 86.
[27] علي شلق، غزل أبي نوّاس، دار بيروت للطّباعة والنّشر، بيروت، لا. ط، 1954، ص 26.
[28] ليلى الأخيليّة، ديوان ليلى الأخيليّة، جم. وتح. خليل إبراهيم العطيّة، وجليل العطيّة، دار الجمهوريّة، بغداد، لا. ط، 1967م، ص 97 – 98.
[29] عبّاس إقبالي، ميزات الغزل عند الشّاعرات الأندلسيّات في ضوء النّقد النّفسيّ الحديث، مقال في مجلّة إضاءات نقديّة الفصليّة المحكّمة، السّنة الخامسة، العدد العشرون، 2015م، ص 28.
[30] Killner, D: Media Culture Routledge, London and New York, P 316-317-302, 1995. نقلًا عن عبد الله الغذّاميّ، النّقد الثّقافيّ، المركز الثّقافيّ العربيّ، بيروت، ط3، 2005، ص 35 – 36.
[31] الياس خوري، دراسات في نقد الشّعر، مؤسّسة الأبحاث العربيّة، بيروت، ط3، 1986، ص 201.
[32] أبو القاسم الشّابي، الأعمال الشعريّة الكاملة، دار العودة، بيروت، ط1، 2006، ص 272.
[33] م.ن، ص 311.
[34] نزار قبّاني، أريدك أنثى، موقع القصّة السّوريّ، ط5، 1989، ص 7.
[35] بدر شاكر السّيّاب، الدّيوان، مج. 2، دار العودة، بيروت، لا.ط، 2005، ص 380.
[36] م.ن، ص 119.
[37] محمود درويش، الأعمال الأولى 2، رياض الرّيّس للكتب والنّشر، بيروت، ط1، 2005، ص 486.
[38] حسن المقداد، المغنّي، دار الولاء، بيروت، ط1، 2018، ص 15.
[39] محمّد طه العثمان، على إيقاع قامتها، دار موزاييك للدّراسات والنّشر، اسطنبول، ط1، 2022، ص 24.
[40] فرقان كاظم، مدوّنة نبيٍّ أعزل، منشورات الاتّحاد العامّ للأدباء والكتّاب في العراق، بغداد، ط1، 2018، ص 101.
[41] عبد الكريم أبو الشّيح، دوائر الجنون، وزارة الثّقافة، إربد، ط1، 2007، ص 37.
[42] هندة محمّد، ظلالٌ لامرأةٍ واحدة، موزاييك للدّراسات والنّشر، اسطنبول، ط1، 2019، ص 47..
[43] حنان فرفور، ولا الضّالّين، موزاييك للدّراسات والنّشر، اسطنبول، ط1، 2022، ص 32.
[44] سارة الزّين، حتّى مطلع الشّعر، دار مدارك، الرّياض، ط1، 2020، ص 60.
[45] سفيان زدادقة، الحداثة وما بعد الحداثة وسؤال الهُويّة، جامعة محمّد لمين دباغين، سطيف 2، ص 6.