على مسرح بغداد

لا تملك أن تتمنى لدمشق سوى ما تمنيته سابقاً لبغداد، أن تطوي سريعاً صفحة المرحلة الانتقالية وبأقل الخسائر الممكنة، وتنتقل إلى عصر جديد يليق بها وبأبنائها أجمعين بلا تفرقة أو تمييز.

بينما تطوي دمشق صفحة بكل ما لها وعليها، وتفتح صفحة مشوبة بالأمل والترقب، كنت في طريقي إلى بغداد التي ذاقت الأمرّين من الظلم والاستعباد ومن الاستعمار والوصاية والإرهاب، وظلّت تقاوم لأجل استعادة الحياة الحرة الكريمة من دون أن تغفل عمّا يدور من حولها، خصوصاً في بيروت ودمشق حيث الترابط التاريخيّ بين بلاد الرافدين وبلاد الشام، وحيث ما يحدث هنا يتردد صداه هناك.

لا تملك أن تتمنى لدمشق سوى ما تمنيته سابقاً لبغداد، أن تطوي سريعاً صفحة المرحلة الانتقالية وبأقل الخسائر الممكنة، وتنتقل إلى عصر جديد يليق بها وبأبنائها أجمعين بلا تفرقة أو تمييز. فحال دمشق من حال بيروت والعكس صحيح، لأن حبل السرّة بين البلدين الشقيقين لم ينقطع يوماً، رغم كل ما اعتراه من شدٍّ ورخي، وما اعترى العلاقة من أخطاء وخطايا.

إلى بغداد بدعوة من "نقابة الفنانين العراقيين"، والنقيب الفنان، جبار جودي، ضيفاً على "مهرجان بغداد الدولي للمسرح" في دورته الخامسة، الذي استقطب أكثر من 200 ضيف من البلدان العربية وإيران وإيطاليا، وقُدِّمت خلاله مجموعة من العروض المسرحية المختلفة، بينها ما يحمل تواقيع مسرحيين كبار مثل العراقي جواد الأسدي، والتونسي فاضل الجعايبي. 

اللافت في المهرجان الإقبال الشبابي الكبير على مشاهدة العروض المسرحية، ما يشي بأن "أبا الفنون" لا يزال قادراً على الجذب والاستقطاب، مثلما يشي بأن الشعب العراقي، رغم كل ما أصابه ومرّ عليه من نوائب ومحن، لا يزال قادراً على خلق حيوية ثقافية عالية وفعّالة متكئة على موروث إبداعي زاخر منذ سومر وبابل إلى بغداد والبصرة والموصل، ومنذ جلجامش وأنكيدو إلى آخر باحث عن عشبة الخلود عبر شعاب الفنّ والأدب.

المهرجان فرصة لمشاهدة عروض مسرحية متنوعة، مثلما هو فرصة للقاء مبدعين من بلدان مختلفة ومشارب متنوعة، والتعرّف إلى تجارب جديدة تمثّل عيّنة مما يقدّم حالياً على خشبات المسرح العربي الذي أعطانا على مرّ العقود قامات إبداعية وشاهقة. 

وأهمية المدينة، كل مدينة، تتضاعف وتتوهج إذا كانت حركتها المسرحية زاخرة وعامرة. فالمسرح جزء لا يتجزأ من الحياة المدينية بكل تلاوينها وتنوعاتها. المسرح ثقافة وسياسة واجتماع، فن وعلم ومعرفة، متعة وتسلية وحثّ على التفكير والتنوير والتدبير، وما أحوجنا اليوم إلى التفكير والتنوير والتدبير كي تنجو بلادنا من الأفخاخ التي تُنصَب لها.

في بغداد أكثر من صالة مسرحية، مسارح عريقة وقف على خشباتها فنانون كبار لا تزال أطيافهم حاضرة في المكان. وكلما كثر المسرح ازدادت المدينة مدينية ومدنيةً.

مصادفة جميلة أن يتزامن "مهرجان بغداد الدولي للمسرح" مع "معرض العراق الدولي للكتاب"، الذي كان عنوانه العريض هذا العام تحية إلى لبنان "من قلبي حروف لبيروت". على مداخل المعرض وفي ساحات بغداد وشوارعها ملصقات ضخمة تحمل صور مبدعين لبنانيين في مجالات شتى، تجول فيه وترى رسومات تمثّل مي زيادة وجبران خليل جبران وفيروز وصباح ووديع الصافي وحسن علاء الدين (شوشو) وطلال سلمان وغسان تويني وحسين مروة وسواهم من أعلام الفكر والأدب والفن، فيزداد شعورك بالألفة والحميمية مع المكان يضاعفها الترحاب العراقي الذي لا مثيل له في أي مكان.

الوقوف على منبر معرض الكتاب في بغداد لقراءة الشعر ثقلٌ على الكتفين، فهذي البلاد موطن الشعر والشعراء، وهبتنا على مرّ العصور والعهود قامات شعرية شاهقة، ورغم كل ما اختبرته من مصائب ونكبات ما تزال تجيد الاحتفاء بالشعر والشعراء، مثلما تحتفي بالمسرح والمسرحيين وكل أشكال الإبداع.

في كل زيارة إلى بغداد تجد أنها تتعافى أكثر، وتستعيد حضورها كعاصمة فكر وأدب وفن، مثلما تعيد إعمار بناها التحتية التي تقادمت وتدمرت بفعل الحروب والحصارات، حتى استحقت أن تكون العام المقبل عاصمة للسياحة العربية.

الصقيع في بغداد قارس ينخر العظام، لكن ما يخفف وطأته دفء الأصدقاء والأحبة والترحاب الذي يكاد يكون جزءاً عضوياً من الجينات العراقية.

***

بغداد (*)

بين النهرين كتبها الله قصيدة

بين الشفتين تعويذةٌ عذراء

بين العينين خرزة زرقاء

بين الضلعين صلاةُ أُمٍّ سجدت شاكرةً

وقامت شهيدة.

 

بغداد،

بين الجسرين مقلة ورمش عين

بين السطرين حكايةُ الشعراء

سيفٌ وعزٌّ وهممٌ سمراء

آه بغداد،

من كل جرحٍ نهضت هازِمَةً غراب البين.

 

بغداد، 

يا ليل يا عين

‏يا حبة قلب 

يا عروس الزين

يا آه ويا أووف 

‏يا كحلة شمس 

يا هوسة عرس

يا نور العين.

 

بغداد،

بين الجرحين بسملةٌ ورجاء

في الصدر أيقونةُ عشقٍ

وفي الروح صِلَةُ وَصْلِ 

الأرضِ بالسماء.

(*) قصيدة بغداد من كتاب الشاعر "ليل يديها" لحّنها الموسيقار المصري، حازم شاهين، وغنّتها الفنانة السورية، فايا يونان.