ظاهرة "السلطة الأبوية" في المجتمعات العربية: قراءة في نظرية هشام شرابي
إن النظام الأبوي التقليدي، بوصفه بنية اجتماعية سابقة على مرحلة الرأسمالية، وُجد تاريخياً في أشكال متعددة في أوروبا وآسيا. ولكنه، في العالم العربي، اتخذ شكلاً متميزاً، لا هو بالأوروبي ولا هو بالآسيوي، بحيث يمكن تعريفه كنمط عربي.
تهدف هذه الدراسة إلى نقد "الحالة الأبوية" المسيطرة، سلطة وخطاباً ولغة، في معظم المجتمعات العربية- مشرقها ومغربها- وترتكز إلى عدد من الدراسات التي أعدّها عالم الإجتماع العربي هشام شرابي(توفي عام 2005)، في محاولة لبلورة تصوّر جديد لمجتمع تنتفي فيه كل أشكال السلطة الأبوية، فتستعيد الشعوب العربية إرادتها المنتقصة، وحرياتها المسلوبة.
أ- في المصطلح:
بداية، يميّز شرابي بين شكلين أو نمطين من النظام الأبوي: النظام الأبوي التقليدي أو القديم، والنظام الأبوي الحديث أو المستحدَث (neopatriarchy). الأول هو ذلك النظام الاجتماعي السياسي الذي عرفته المجتمعات السابقة لعصر الحداثة الأوروبية. وهو النظام الذي رافق المرحلة الإقطاعية في أوروبا وما يماثلها في آسيا وإفريقيا، وانتهى هناك بالثورة الصناعية وصعود الطبقة البرجوازية وقيام الدولة الليبرالية الديمقراطية.
أما الثاني فهو النظام الذي نشأ خارج أوروبا، وخصوصاً في العالم العربي، في مرحلة الاصطدام بالحداثة الأوروبية، منذ بدايات القرن التاسع عشر، وشكل صلة الوصل بين النظام الأبوي التقليدي السابق الذكر ونظام الحداثة الأوروبية الذي اجتاح، بأفكاره وقيمه ومظاهره، العالم بأسره. ونحن، اليوم، في العالم العربي، نعيش زمن هذا النظام، الذي يدعوه شرابي بالنظام الأبوي "المستحدث".
ب- الحداثة الأوروبية و" النهضة العربية":
وإذا كانت البرجوازية الأوروبية استطاعت بوسائلها الخاصة أن تتجاوز أنظمتها الأبوية الإقطاعية وأن تنتقل الى الحداثة، فإن حركة "النهضة العربية" التي قامت في إثر احتكاك العالم العربي بالحداثة الأوروبية، في منتصف القرن التاسع عشر، لم تتمكن من تجاوز النظام الأبوي العربي والدخول في الحداثة. ولذلك كان التحديث الذي عرفه هذا النظام مشوّهاً وناقصاً لأنه، من جهة، جرى في ظل هيمنة "البرجوازية الأوروبية" المنتصرة داخلياً في بلدانها والمندفعة خارجياً في اتجاه بلدان الغير لاستعمارها. كما جاء من جهة ثانية، في خضم ما عرف "بالطغيان الشرقي" المقاوم لكل تمدن.
ولذلك خرج المجتمع الأبوي من حادثة اصطدامه بالحداثة الأوروبية مجتمعاً محدّثاً لا حديثاً، يبطن تناقضاً عجبياً: المظهر الخارجي حديث، أما الداخل فغارق في أبوية مرهقة. وهكذا من الصعب، يقول الدكتور شرابي، أن نجد في هذا النظام المحدَث إنساناً "حديثاً" أو مؤسسة حديثة بالمعنى الحقيقي. كما أنه من الصعب العثور على إنسان "أصولي" أو مؤسسة أصولية بالمعنى الحقيقي.
وعليه، أنتجت البطركية(الأبوية) المشرقية بعد اصطدامها بالحداثة الأوروبية طبقة من المثقفين المزيّفين المتحدرين من أبناء العائلات والطبقات الاجتماعية العليا، والذين سيكونون أقوى حليف للنظام الأبوي المحدّث وألد أعداء الحداثة الحقيقية. وهكذا تصبح النزعة الحداثية لهؤلاء المثقفين وعياً منعكساً عن الخارج، لا وعياً منبثقاً عن الذات القومية، كما تعوز هذا الوعي الاستقلالية وروح النقد.
ويخلص شرابي في استنتاج عام الى القول: إذا كانت البطركية الأوروبية نظاماً فكرياً سياسياً واجتماعياً، أي منظومة مترابطة من العقائد والقيم والسلوك التي تشير الى مجتمع تقليدي سابق على المجتمع الصناعي الحديث، وترتبط بنظام اقتصادي وثقافة معينة، فإن المجتمع الأبوي، في العالم العربي، لم يرتبط، بمرحلة إقطاعية سابقة على الرأسمالية يسقط بسقوطها كما حصل في أوروبا. فالبلدان العربية لم تعرف النظام الإقطاعي، في شكله الأوروبي، وإن كانت قد شهدت حالات إقطاعية متفرقة في كثير من الأنحاء.
ج- العائلة في النظام الأبوي:
تشكل العائلة حجر الزاوية في النظام الأبوي، ويقدّم" الأب" النموذج الرمز للبنية الأبوية البطركية، في العائلة وفي المجتمع على السواء: فبوصفه سلطة بيولوجية داخل العائلة هو المحور الذي ينتظم حوله عقد العائلة الصغيرة، وبوصفه رمزاً للسلطة المطلقة في العائلة هو النموذج الذي تقتدي به كل السلطات القائمة في المجتمع. وهذه العلاقة بين الأب وأبنائه من جهة، وبين الحاكم والمحكومين من جهة ثانية، علاقة هرمية، تكون إرادة الأب، في كلا الإطارين، هي الإرادة المطلقة، ويتم التعبير عنها، في العائلة وفي المجتمع، بنوع من الإجماع القسري الصامت، المبني على الطاعة والقمع.
غير أنه من دواعي السرور والتفاؤل بالمستقبل، يقول شرابي، أن شكل العائلة الصغيرة (الأسرة) الذي ظهر حديثاً وانحصر، في معظم الحالات، بالطبقة العليا والمتوسطة في المدن، بدأ يشكل تحدياً للنظام الأبوي الحديث وينذر بنهايته حتماً. فبقدر ما تنمو الأسرة، تتقلص السلطة الأبوية. ويرد شرابي هذا التطور في العلاقة بين الأسرة والبنية البطركية الى ثلاثة عوامل:
- أولها العامل الإقتصادي. فالاستقلال الاقتصادي لأفراد الاسرة يقلل من اعتماد هؤلاء على آبائهم، لهذا يجد الأب نفسه مضطراً الى الدخول في علاقة جديدة مع كل فرد من أفراد أسرته.
- العامل الثاني ناتج عن الأول وهو ما يسمّيه شرابي بالعلاقة الديمقراطية التي يؤسس لها الاستقلال الاقتصادي.
- أما العامل الثالث والأخير فيدور حول تحرير المرأة. إن انحلال العائلة الكبرى وتغلب العائلة الصغرى (الأسرة) يؤديان تدريجياً الى تحرّر المرأة، وذلك أن النظام البطركي العائلي هو أساس لسيطرة الرجل على المرأة. إن حصول المرأة على التعليم والعمل يجعل تحررها، وبالتالي استقلالها الاقتصادي، ممكِنَين. إلا أن حريتها التامة تكمن في حريتها الجنسية، في المقام الأول، أي عندما تصبح مالكة بالفعل لجسدها بأن تحرره من سلطة الأب والأخ والزوج والعم والخال وأبناء العمومة والخؤولة.
د- خصوصية النظام الأبوي العربي:
نخلص من هذه القراءة السريعة لظاهرة الأبوية في العالم العربي كما عرضها شرابي إلى تسجيل الملاحظات التالية:
(1)- إن النظام الأبوي التقليدي، بوصفه بنية اجتماعية سابقة على مرحلة الرأسمالية، وُجد تاريخياً في أشكال متعددة في أوروبا وآسيا. ولكنه، في العالم العربي، اتخذ شكلاً متميزاً، لا هو بالأوروبي ولا هو بالآسيوي، بحيث يمكن تعريفه كنمط عربي (إسلامي).
(2)- إن التحول الكبير الذي حصل في أوروبا بعامل الثورة الصناعية في أواخر العهد الإقطاعي كان تحولاً جذرياً. أما في المناطق الأخرى من العالم – باستثناء اليابان – فقد تمّت عملية التحديث في ظروف التبعية الكاملة للغرب وأدّت الى حداثة مشوّهة، ناقصة وغير أصلية.
(3)- إن ما عُرف "بالنهضة العربية" التي شهدتها بلدان المشرق العربي ابتداءً من أواسط القرن التاسع عشر، لم تشكل انقطاعاً عن الماضي المتخلف، على شاكلة النهضة الأوروبية. ولذلك لم يكن باستطاعتها أن تنتج إلا هذا المجتمع البطركي المحدَث.
(4)- إن النظام الأبوي المستحدَث الذي نشأ خلال المرحلة الانتقالية التي عبرتها البلاد العربية من العهد العثماني الى العهد الأوروبي ومن ثم إلى عهد الاستقلالات الممنوحة والكيانات السياسية المصطنعة، ليس نظاماً تقليدياً محافظاً بالمعنى التراثي، كما أنه ليس نظاماً دينامياً معاصراً بالمعنى الحداثوي، بل هو خليط غير متجانس من القديم والحديث، والتراثي والمعاصر. إنه نظام يدّعي الأصالة والمعاصرة معاً، في حين أنه يبتعد عن الحداثة الصحيحة بعده عن الأصالة الحقيقية.
(5)- إن الأصولية الإسلامية هي الوريث الشرعي للنظام الأبوي المستحدث، لاعتقادها أنها الحركة الوحيدة المؤهلة، اليوم، لاحتواء مظاهر الخلخلة في هذا النظام غير المتجانس، ولكنها، مع ذلك، غير قادرة في المدى البعيد، على توفير علاج ناجح للفوضى التي تتحكم ببنى ذلك النظام.
ه- نظرية "النقد الحضاري":
بعد تناوله بالتحليل المجتمع الأبوي في العالم العربي، وبيان نسبته الى المجتمعات الأبوية الأخرى في العالم وبالتالي "فرادته" بينها، يعرض الدكتور شرابي نظريته النقدية لهذا المجتمع والتي أسماها "النقد الحضاري" ووضع كتاباً، بهذا الإسم، خاصاً بها، شرح فيه مفهومه للنقد، وحدّد بالتالي منهجه وتقنياته.
وإذا كان "المجتمع الأبوي" هو الإشكالية الكبرى التي يتصدى لتحليلها "النقد الحضاري"، فإن التغيير الاجتماعي هو الهدف الذي تنشده عملية النقد هذه على صعيد السياسة، كما على صعيد الفكر، وعلى صعيد الاقتصاد، كما على صعيد المجتمع ككل. إنها، بلا شك، عملية غاية في التعقيد، لأنها تختلف عن عمليات النقد الأخرى في الأدب أو الفن أو الفكر، بشكل عام.
1- في نقد اللغة الفصحى:
في كتاب "النقد الحضاري"، في الفصل الأول منه المعنون "لغة النقد الحضاري"، يتحدث شرابي عما يسمّيه "التصنّع" و"التكلّف" على صعيد النص والروح والأسلوب في الإنتاج الفكري الصادر باللغة العربية- أو في معظمه على الأقل- واصفاً الحال بهذه العبارات: "كلمات فصحى لا حياة فيها، صور فاهية ومبتذلة، ناقلة في أغلب الأحيان مشاعر وأحاسيس سطحية لا تحتاج الى فكر أو تحليل أو إعادة نظر". ويسخر شرابي من تلك "الجدية السخيفة" وتلك "المعرفة المتعالية" التي تجابهك وأنت تقرأ لهذا الكاتب أو ذاك، كأن ما يقوله هو "أهم ما يمكن للعصر الحديث أن يسمعه أو كأن الحقيقة الساطعة ترفرف فوق كل كلمة يخطها أو يقولها".
وهنا يتساءل شرابي عن السبب: هل هو هذه اللغة الفصحى المتحجرة التي لا تكاد تمّت بصلة الى لغة الحياة اليومية في البيت والشارع؟ أم هو الفكر الجامد الذي تحمله العقول الأبوية المتحجرة؟
2- بين الفصحى والعامية:
هنا، يقارن شرابي بين الفصحى والعامية، فيعتبر الأولى لغة علوية يتقنها الخاصة وذوو السلطة، وهي لذلك لغة مهيمنة وتمثل القيم العليا والحقائق السامية. أما العامية فهي لغة الحياة اليومية، لغة الأطفال والنساء والفقراء وعامة الناس.
3- في نقد النصّ النقدي الحديث:
لا يكتفِ شرابي بفضح اللغة التقليدية، لغة النظام الأبوي السائد، مبيّناً عجزها وقصورها عن التعامل الهادئ مع قضايا الحياة اليومية، بل ينتقد أيضاً النص النقدي المكتوب بهذه اللغة وهو النموذج النصيّ المسيطر اليوم في الكتابات النقدية العربية الحديثة ويصفه بالكتابة "العالية"، تمييزاً له عن الكتابة "العامة" في الصحف والمجلات. ولا يستثني شرابي نفسه من بين ممثلي هذا النموذج! ويرى الى هذا النص نصاً قاطعاً لا أثر فيه لروح الحوار أو التساؤل. ثم إن هذا النص يجد جذوره في عالم فكري غريب عن عالمنا هو العالم الغربي، وفي تجارب حياتية خارج عالمنا أيضاً. أضف إلى ذلك، أن انهماكات هذا النص وموضوعاته تعكس قضايا المجتمعات الغربية في مرحلتها المتطورة أكثر مما تعكس قضايا وانهماكات المجتمعات العربية المتخلفة في مرحلة البطركية الأبوية.
وعليه، فان المجابهة المجدية للواقع العربي لا تكون بنقل الأفكار والموضوعات والمناهج الغربية الغريبة عن هذا الواقع، وإسقاطها عليه، وكأنها أفكاره وموضوعاته، بل تكون بمجابهة هذا الواقع في حقيقته، وذلك بتحديد الإشكاليات الحقيقية الواقعية المنبثقة منه، ومعالجتها بالأساليب الملائمة لها.
ه ـ صعود الحركات الأصولية:
ما هو النقد الحضاري، إذن؟ ما الغرض منه؟ والى ماذا يهدف الدكتور شرابي من دعوته الى إطلاق حركة نقدية واسعة، على كل المستويات؟
يجد شرابي في فشل "النهضة العربية" في تحقيق المجتمع الحديث(الديمقراطي والعلماني) وفي تعثر الحركة القومية في تحقيق أهدافها بعد أن تصدرت لاحقاً العمل الثوري، سبباً للحركات الدينية كي تمسك هي بزمام الأمور وتتحكم بمجرياتها، ومبرراً لدعوته الجديدة الى النقد الحضاري الذي يهدف إلى توفير المنهجية والأسلوب والأدوات الضرورية للمعنيين بهذه القضية حتى يصبحوا متمكنين، بما يوفر لهم هذا المنهج من مستلزمات وتقنيات، من الإنطلاق في حركة النقد الحضاري التي تتطلّع إلى الإطاحة بالخطاب الأبوي السائد نصاً ولغة ومعايير، وإحداث التغيير الجذري على مستوى الخطاب والوعي والفكر.
إن النقد الحضاري، بحسب شرابي، يشكّل الخطوة الأولى لأية حركة إجتماعية حيوية ترمي الى استئصال الأبوية من مجتمعاتنا والى السير بها نحو مستقبل آخر يقرره أبناؤها لا المتسلطون عليهم. وهذا يعني أن هدف النقد الحضاري هو خلق وعي ذاتي (قومي) مستقل نابع من صميم التجارب الخاصة بنا كشعوب ذات خصوصيات قومية. وهذه العملية النقدية لن يمكن تحقيقها –برأيه - إلا من خلال التفاعل الحرّ والنقاش المستمر بين جميع الفئات والأحزاب ومختلف مؤسسات المجتمع المدني.
و- بين "الحداثة " و"التغيير الاجتماعي":
تبقى الحداثة، إذاً، غرضاً من أغراض النقد الحضاري الذي يهدف في الأخير الى الانتقال بالمجتمعات العربية من الحالة الأبوية الى الحداثة. ولكن مصطلح "الحداثة" يثير ما أثاره مصطلح "العلمانية" من تأويلات. فالمصطلحان يرمزان، في الأوساط الفكرية والدينية المحافظة، الى الغرب ويُقابلان من هذه الأوساط بالرفض، كأنهما مصطلحان وافدان، مع أن جذريهما عربيان، وطريقة اشتقاقهما هي نفسها طريقة الاشتقاق في اللغة العربية.
وكما استعاض بعضهم سابقاً، بمبدأ فصل الدين عن الدولة بدلاً من العلمانية، تجنباً للإشكاليات التي قد يثيرها مفهوم العلمانية في الأوساط المحافظة، استعاض شرابي بما أسماه "التغيير الاجتماعي" ليشير فيه، أيضاً، الى مضمون الحداثة. لذلك فالمصطلحان، عنده، يرمزان الى معنى واحد.
إن التغيير الاجتماعي في كتابات هشام شرابي هو، أولاً، قطيعة مع الماضي المتخلف والجامد. ولكن مفهوم القطيعة، هنا، لا يعني بالضرورة الماضي كلّه بما هو ذاكرة الشعب – إذ لا شعب من دون ذاكرة، كما أنه لا يتنكر لكل التراث الفكري والثقافي والفلسفي والديني. إنه يعني القطيعة مع ذلك "الجزء" من الماضي العاصي على كل تطور جديد في المعرفة والتقدم الإنسانيين.
والتغيير الاجتماعي، ثانياً، هو تحقيق ذاتي، أي أنه "سيرورة داخلية" تنبع من داخل المجتمع المعني، ومن صميم ظروفه، وتجربته التاريخية. وهو ما يشير الى أن الحداثة أو التغيير الاجتماعي ليس هدية أو منّة من السماء، أو حلاً سحرياً، أو فعلاً يُفرض فرضاً من الخارج. فالسماء، هنا، لا تتدخل، وكل الحلول التي يتم استيرادها، من الخارج، لا تؤتي ثمارها لأنها حلول جاهزة، معلّبة، لا تراعي طبيعة المشكلات الحقيقة للمجتمع المعني. ولذلك فهي لا تحرك العوامل النفسية الداخلية، وتبقى حلولاً برّانية، شكلية، أكثر منها جوهرية أو عملية.
من هنا، فإن " قضية" المرأة التي هي قضية مركزية في المجتمعات العربية الأبوية، هي ليست كذلك، الآن، في المجتمعات الغربية. فهناك قضايا اخرى، أكثر اهمية، تشغل اهتمامات المسؤولين والمنظمات المدنية في أوروبا، ربما كانت شؤون البيئة في طليعتها.
(1)- طلائع الحركة التغييرية:
يبقى السؤال الأخير: من يُحدث التغيير الاجتماعي؟ ومن هي القوى التي تنخرط في هذه العلمية؟
يرى شرابي أن المجتمع كلّه معني بمستقبله ومصيره. من هنا فإن تحقيق التغيير الشامل بالقضاء على الأبوية وبناء المجتمع المدني الديمقراطي والعلماني، مسؤولية المجتمع كلّه، لا فئة معينة من فئاته. ولذلك فإن منظمات المجتمع المدني، ولا سيما الحركات الشبابية والنسائية والنقابية وجماعات المهمشّين، مدعوة أكثر من غيرها، الى الإنخراط في حركة التغيير الاجتماعي.
لكن الدكتور شرابي يميّز المثقفين من بين هذه القوى ويلقي عليهم مسؤوليات خطيرة في هذه العملية. ويقصد بالمثقفين، هنا، المثقفين الملتزمين لا المثقفين الحرفيين الذي يمتهنون العمل الثقافي والأكاديمي، كأية حرفة.
أما دورهم فيحدّده كما يلي:
1- على صعيد السلطة السياسية، برفع الحقيقة في وجه هذه السلطة وكل سلطة، وعدم مهادنة الحاكم، لأي سبب كان ومهما كانت الظروف.
2- على الصعيد المعرفي، برسم طريق الخروج من الحاضر الكئيب المظلم الى المستقبل المشرق المتفائل.
3- وأهم من هذا وذاك، هو تغيير الوعي الاجتماعي لأن الوعي هو حجر الزاوية في عملية التغيير. غير أن هذه العملية لا يمكن أن تتم دفعة واحدة، أو بين ليلة وضحاها، كما كان الأمر يحصل في الفترات السابقة، إبان حروب الاستقلال وحركات التحرير والثورات والانقلابات العسكرية. بل ستكون عملية التغيير ثمرة نشاطات سياسية تراكمية تحققها الحركات الاجتماعية من خلال صراعات تعيد للمجتمع صفته المدنية ولأفراده حقوقهم السياسية.
(2)- ملاحظات ختامية:
بعد هذا العرض لظاهرة "المجتمع الأبوي" ونظرية "النقد الحضاري" كما وردتا في كتابات الدكتور هشام شرابي، تبقى كلمة أخيرة في المنهج الذي اتبعه في تفسير الظاهرة وفي الحلول التي اقترحها.
صحيح أن شرابي انتقد، في كتابه "النقد الحضاري"، المثقفين العرب المحترفين الذين يعتبرون الكتابة حرفة، كأية حرفة أخرى، وعاب عليهم أنهم يقاربون، في كتاباتهم، قضايا وإشكاليات مجتمعاتهم كما لو أنها تشترك في نفس القضايا مع المجتمعات الأخرى، وهو ما لا يمنعهم من تبني قضايا وإشكاليات تلك المجتمعات، كما لو أنها قضايا ومشكلات مجتمعاتهم، غير مكتفين باقتباس مناهج الآخرين، مع ما يعني هذا الاقتباس للقضايا والمناهج من زيادة الطين بلة، فتختلط القضايا اختلاطاً لا يعود من السهل التمييز بين ما هو قومي وما هو عالمي منها.
على الرغم من هذا كلّه، فإن شرابي نفسه وقع أحياناً في هذا الفخ، وخبط في فوضى المفاهيم والقضايا والمناهج، وقد أشار هو شخصياً الى هذه الإشكالية من دون أن يتمكن من الخروج منها تماماً. ففي تحليله للمجتمع الأبوي في العالم العربي انطلق من حدث عظيم شهدته أوروبا ألا وهو "الحداثة". فالحداثة الأوروبية، وليس أي حدث آخر عربي أو إسلامي، اتخذها دليلاً وهو يدرس ظاهرة المجتمع الأبوي. لقد انطلق من حدث أوروبي لكي يفسّر ظاهرة وقعت في مكان بعيد من أوروبا، هو العالم العربي. وهذه نقطة تحتاج الى مراجعة وتقييم.
قضية أخرى تحتاج إلى إعادة فحص هي قضية الأساليب والأدوات التي يقترحها شرابي في عملية التغيير الاجتماعي الذي يصفه بـ"الجذري" والشامل. فهو يعتبر أن جمعيات المجتمع المدني، من نقابات وتجمعات نسائية وشبابية ومن مهمشين وفقراء، هي عماد حركة التغيير، دون أن ينسى دور المثقفين في هذه العملية.
السؤال الذي يطرح نفسه بإلحاح هو: ما هو واقع المجتمع المدني في العالم العربي؟ وبالتالي ما هو واقع التنظيمات الشبابية والنسائية والنقابية؟
وإذ نسجل هذه الملاحظات بهدف إعادة النظر في طريقة مقاربة مشكلات المجتمعات العربية، نؤكد على مقولة شرابي من أن قضايا وانهماكات المجتمعات العربية تختلف كلياً عن قضايا وانهماكات المجتمعات الغربية. ولذلك فإن ما يصح من مناهج وأدوات لحلّ تلك المشكلات لا يصح بالضرورة في حلّ هذه المشكلات، لأن المشكلات ليست واحدة في العالم مهما بدت من الخارج متشابهة!.
مراجع البحث
1-هشام شرابي- البنية البطركية، دار الطليعة، الطبعة الأولى، بيروت 1987.
2-هشام شرابي - النظام الأبوي، ترجمة محمود شريح، الطبعة الرابعة، بيروت 2000.
3- هشام شرابي - مقدّمات لدراسة المجتمع العربي، دار نلسن، بيروت 1999.
4- هشام شرابي - الجمر والرماد، ذكريات مثقف عربي، طبعة جديدة، دار نلسن، بيروت 1988.
5- هشام شرابي - صور الماضي، سيرة ذاتية، الطبعة الثالثة، دار نلسن، بيروت 1998.
6- هشام شرابي - النقد الحضاري، الطبعة الثالثة، دار نلسن، بيروت 2000.
7- هشام شرابي - أزمة المثقفين العرب، الطبعة الأولى، بيروت 2002.