"شيء من سالومي": قدرة إبداعية في وصف شخصيات الرواية
مخيّلة سهير مصادفة وثقافتها الواسعة، جعلت الرواية معبّرة بسرد متنوّع يتنقّل بطريقة غير مباشرة على لسان أبطال الرواية أنفسهم أو مباشرة بسرد الكاتبة.
"شيء من سالومي" أو شيء من فتاة اسمها آية أُجبرت ذات ليلة في نيويورك على النوم مع ملياردير أميركي، هو في الحقيقة زميلها السابق في كلية الهندسة في القاهرة. آية محمد الفيل هي الشخصية المحورية في رواية "شيء من سالومي" الصادرة عن "المؤسسة العربية للدراسات والنشر" في بيروت، للروائية المصرية سهير المصادفة.
والحقيقة أنّ قصة آية هي جزء متداخل من قصة ثانية وثالثة ولا نبالغ إن قلنا رابعة وخامسة، في قلب رواية واحدة. تؤدي فيها الشخصيات أدواراً متكاملة وترسم خطوط الأحداث طرقاً متعددة لتلتقي في أمر واحد ألا وهو العشق.
فحتى العشق الإلهي يأتي ليكمّل حبّ الشيخ صلاح (كمتصوّف مصري) لـ سالومي أو آية، وما استعانة الكاتبة لقصائد المتصوّفين الكبار التي زيّنت متن الرواية أمثال جلال الدين الرومي، عمر بن الفارض، الحلّاج وغيرهم إلا لتزيد الرواية جذباً وتشويقاً، فتُألّه الحبّ بين الرجل والمرأة، مهما تشوّه ماضي المرأة، أو مهما تعقّدت حياة الرجل كما في قصة عمرو (الملقب بعمرو المظاهرات)، فالحبّ يشفي الجروح، وبالحبّ تتحد الأرواح فتُسبّح الخالق.
رواية "شيء من سالومي" تذكّرنا بقصص شهرزاد التي كانت تروي حكايتها كل يوم لشهريار لتحمي نساء المملكة من الموت، ولتحصل في النهاية على الحبّ المطلق. بهذه الحكاية أحيت الكاتبة الحبّ نفسه من جديد في قلوب شخصيات الرواية.
الزمان: تنوّعت الأزمنة من قصة الجدّ محمد الفيل ومشبك "الشكمجية" وأماني الصياد الفقير وحكايته مع الباشا وملك شاه. إلى سبعينيات القرن الماضي وحكاية والد آية وفقره بعد الثراء، إلى القرن الحالي وعام 2014 تزامناً مع ثراء الحفيدة آية وبناء قصرها إلى جانب قصر الشيخ صلاح، مروراً طبعاً بمظاهرات 2005 التي مرّت بها مصر وما تلاها من أحداث.
المكان: تعددت الأمكنة من مصر إلى نيويورك، إنما الأساس يبقى رأس البرّ "بداية البداية" حيث تلتقي مياه نهر النيل بالمياه العذبة، "في المكان الذي يرمي فيه النيل جسده المرهق في البحر".
مما لا شك فيه أنّ مناخ الرواية مشبع بإبداع فنيّ وبحكايات الصيادين وأسرار البحر. وقد شكّل التقاطع والاندماج بين الواقع والخيال عامل جذب على تتبّع مسار الرواية أو الروايات ضمن الرواية الواحدة: من قصة محمد الفيل والباشا وملك شاه، وقصة سالومي مع آش موللر، وقصة المهندسة آية مع الشيخ صلاح، وقصة عمرو المظاهرات مع رضوى المترجمة... فكان هذا الدمج المبدع هو بطل الرواية.
فالمهندسة آية (أو سالومي) في رواية سهير المصادفة، تعيش واقعها لكنها لا تنتمي إليه، وهذا ما يذكّرنا برواية "الغريب" للفرنسي ألبير كامو، بحيث قد نجد إنساناً يعيش الواقع لكنه لا ينتمي إليه. أو كأنّ آية أو سالومي في الرواية مع ما تمثّله من تماهٍ مع شخصية ملك شاه في هروبها من واقعها إلى الفنّ فيتدخّل الخيال لينتج خيالاً فنيّاً وأدبياً. كما ويتمظهر هذا الإبداع الأدبي في صراع الإنسان مع نفسه وبين القوى الطبيعية كرغبة الشيخ صلاح في عشق آية، وهذا ما يذكّرنا في رائعة الكاتب أرنست همنغواي "الشيخ والبحر"، ليشكّل هذا الصراع دلالة للرؤية التي أرادت الكاتبة التعبير عنها، ألا وهي صراع الروح والجسد.
وقد اتخذت بالفعل سهير المصادفة في روايتها هنا من البحر فضاءً رئيسياً للبدء بسرد أحداث روايتها. ناهيك عمّا تمثّله شخصية محمد الفيل من تماهٍ مع شخصية سنتياغو، الصياد العجوز وحظه العاثر في الصيد حتى عثوره على "الشكمجية"، ومن تماهٍ مع شخصية الشيخ صلاح وحظه العاثر في الحبّ حتى لقائه مع آية.
في الأسلوب: تضمّن هذا العمل الأدبي العديد من الرموز والأبعاد الاجتماعية والفلسفية والدينية. نقتبس من الصفحة 108 مثالاً من الحوار بين محمد الفيل والباشا، ليقول الباشا لمحمد الفيل: -يا ولد، لماذا تبني كُتّاباً على أرضي من دون علمي؟
- هي أرضي يا باشا، بتنازلٍ موثّق في دائرة العزبة، وأزيدك من الشّعر بيتاً، كانت أرض جدودي منذ الأزل، وأنتم جئتم وأخذتموها.
- هل تسمّي حصولك على أرضي بخيطٍ حريريّ أملاكاً يا ولد؟ ثم لماذا تريد تعليم الفلاحين؟
- ولماذا لا يتعلّمون؟
- أيها المعتوه، إذا تعلّموا لن يزرعوا، ولن نجد ما نأكله.
- أنا تعلّمتُ يا باشا، صرتُ أقرأ وأكتب، وصرتُ من المُلّاكِ، ومع ذلك أخرج لأصطادَ كلّ فجر.
- الفلاحون مختلفون عن الصيادين أيها المغفل، إذا رفعوا وجوههم عن الأرض ستموتُ البذور، سيتطلّعون إلى الجدران العالية التي نسكنها، وقد يأخذون طمي الأرض نفسه ويبنون به بيوتاً مثل بيوتنا..."على أعينهم أيها الأرعن ألا ترى إلّا سواد الأرض".
لا شك بأنّ الرواية تميّزت بأسلوب سلس وشيّق في سرد الأحداث والتوقّف عن الكلام المباح في مواقف معينة، فالصمت كان يُقرأ ما بين السطور، خصوصاً في لغة العيون أو لغة الحبّ غير المعلنة بين آية والشيخ صلاح من خلال الوصف الرائع والدقيق للكاتبة. نقتبس مثالاً على ذلك من الصفحة 132 من الرواية: "وضع يده على صدره لتهدأ دقّاته، وهو يتساءل، ماذا تفعل به هذه المرأة الفاتنة؟ إنها دون أن تدري تعيد تشكيله ووسمه عاشقاً. كلُّ حصونه تنهار أمامها يوماً بعد يوم.
ردّد لنفسه مراراً أنّه بالفعل يريد أن ينسحب من أمامها هارباً من عينيها الآسرتين، من كتفيها المدوّرتين اللتين تهزهما من دون مبالاة من حين لآخر، من شفتيها اللتين تكوّرهما مثل طفلة صغيرة حين تُدهش أو تغضب أو يجبرها أحدهم على السكوت، من أنفها الذي "تكرمشه" بفتنة طاغية تكاد تصرعه حين ترضى، من ذقنها الصغير عندما يرتعشُ جلده ويزداد احمراراً حين تتهيّأ للبكاء، لم يرها تبكي بعدُ. يريد أن يهرب بالفعل، ولكنّه يظل دائماً متسمّراً مكانه أمامها، ويده اليسرى على قلبه. لا يشبع من صوتها الحلو بوقفاته الفجائية غير المتوقّعة، وكأنه يرتشف مشروباً سماوياً مسكراً.
ربّ قائل إنّ علم النفس صنّف شخصية الإنسان إلى 18 نوعاً من الشخصيات، لنكتشف أثناء القراءة بأنّ تداخل الشخصيات وتنوّعها، وقد بلغ عدد الشخصيات الرئيسية ثمانية عشر، ربما يعكس تعدّد أطباع المصريين، لا بل الناس أجمعين، من خلال الوصف الدقيق والمتناهي الذي رسمته الروائية لشخصيات الرواية.
لقد دخلت سهير المصادفة إلى أطباع كلّ شخصية عاشت فيها وأظهرتها للقارئ بكل تفاصيلها. نسجت أمزجة النساء والرجال، وإن أخذت طرفاً لناحية المرأة إنما بحكمة ومنطق. خيّطت ملامح أبطالها وقدّمتها على الورق بمشهد سينمائي. كل ذلك عبر وصف إبداعي مستعملة أدوات التشابيه والاستعارة بكثرة إنما بسلاسة ودهشة. وقد لا تخلو صفحة (من 286 عدد صفحات الرواية) إلّا ونعثر فيها على تشبيه أو استعارة، ناهيك عن وصف حالات الخوف والحبّ والغضب والصلاة، وغيرها الكثير من الانفعالات النفسية، بطريقة معبّرة وبسرد متنوّع يتنقّل بطريقة غير مباشرة على لسان أبطال الرواية أنفسهم أو مباشرة بسرد الكاتبة.
هي القدرة الفطرية الخلّاقة لعقل الكاتبة سهير المصادفة على تركيب الأحداث وإبداع الأفكار وتصوّر الشخصيات المدركة، والكائنات غير المدركة وتلطيف المحسوس وتجريد غير المحسوس من أفكار، والتقاط الأحداث وجمع الأشياء التي لا تجتمع من نيويورك إلى الشرق الأوسط، ومن مظاهرات المصريين في العام 2005 إلى حكايات الجن والأنس. فربطت عالم الواقع بعالم الخيال عبر أدواتها الكتابية الإبداعية. جاء كل ذلك نتيجة مخيّلة الكاتبة الخلّاقة وثقافتها الواسعة، لتغني المعاني في مشاهد الرواية المتعددة فيشكّل الحبّ الجسر ما بين الحياة والموت.