"دولمة" و"محيبس" و"الماجينة".. كيف يُحيي العراقيون شهر رمضان؟
يشغل شهر رمضان المبارك مكانة فريدة في حياة العراقيين ويومياتهم.. فما هي أبرز العادات العراقية المرتبطة بالشهر الفضيل؟
يغيّرُ شهر رمضان حياة العراقيين قبل قدومه بفترة، إذ تبدأ الاستعدادات له، فتدخل السوق في حركة جلية، وتكون لبعض الأطعمة الزعامة على سواها من الأطباق، مثل الطرشي (المخلل، الكبيس) سيّد المقبّلات، وخصوصاً طرشي النجف الشهير. ولعلّ السر في تميّز طرشي النجف يكمن في مدة الإعداد، وخصوصاً صناعة الخل، وهو المادة الأساس في الطرشي، والتي تحضَّر في النجف عادة من تخمير عصير التمر لمدة طويلة تصل إلى أكثر من 40 يوماً، والتي تعطي الطعم المميز للمخلل عن سواه.
إقرأ أيضاً: فوائد التمر يُحكى عنها منذ آلاف السنين.. فما هي أبرزها؟
كذلك، يُقْبِل العراقيون على مواد تموينية معينة، مثل العدس والماش والحبيِّة، ونومي بصرة وقمر الدين، والطرشانة، والحمص، بالإضافة إلى شراء اللحوم، في مختلف أنواعها.
ولا تقوم مائدة إفطار في العراق إن لم يوجد فيها عصير النومي وشوربة العدس، الأمر الذي دفع الحكومات العراقية إلى توزيع كمية من العدس في رمضان.
موائد العائلات العراقية لها طعم خاص يرتبط بأهمية الشهر الفضيل، بحيث يشترك جميع أفراد العائلة في إعداد عدد من الأطباق، الأمر الذي يُضفي عليها طعماً لذيذاً وفريداً، ومنها طبق الدولمة، وكذلك الكبة - ولها أصل بابلي - في مختلف أنواعها، مثل كبة حلب وكبة البرغل وكبة حامض الشلغم، وهي طبق عراقي مشهور، بحيث تُطبَخ الكبة مع حساء يتكون من الشلغم والسلق والأرز، وتقدم مع حسائها كأحد أهم الأطعمة العراقية التي يحبها معظم أفراد الأسرة.
أمّا الحلويات فتحرص النساء العراقيات على إعدادها يومياً في شهر رمضان، لتقديمها بعد العشاء غالباً، فهناك حلاوة الكاسترد وحلاوة النشا التي تلائم الصائم لأنها خفيفة على المعدة، أو حلاوة الشعيرية، التي تُحشى بالجبن، أو المحلبي، بالإضافة إلى حلاوة الجزر، مع تقديم أنواع متعددة من العصائر، مثل عصير قمر الدين أو الزبيب أو التمر الهندي أو البرتقال.
إقرأ أيضاً: ما هي أبرز فوائد الزبيب التي ستجعلك تتناوله بانتظام؟
ومن التقاليد العراقية الجميلة في هذا الشهر، أن مجموعة من العوائل العراقية تقوم بإرسال طعام الى العوائل المجاورة، في مشهد يرسّخ أسس المحبة والتعاون، اللذين يجسّدان مقولة النبي محمد: "ما آمن بي مَن بات شبعانَ وجاره جائع". وهناك مشهد آخر، بحيث يترقب الأطفال سماع إطلاق مدفع الإفطار عبر الإذاعة سابقاً، ومن خلال الشاشة، من أجل بدء تناول التمر وشرب قدح من اللبن، ثم الصلاة وبعدها العشاء. ويسمي العراقيون القدامى المدفع بــ"الطُّوب"، ويوجد نموذج له اليوم قرب منطقة الباب المُعظّم في بغداد، واتخذ أحد أبواب مدينة الموصل اسمه، فبات يُعرف بــ "باب الطُّوب".
إقرأ أيضاً: كيكة التمر الهشة: طرق متعددة للاحتفال بخطوات بسيطة
وتعود حكاية الطوب أو المدفع، كإشارة إلى موعد الإفطار، إلى أحد الباشوات الأتراك أيام الاحتلال العثماني للعراق، بحيث كان جالساً في انتظار أذان المغرب، فسمع صوت المدفع ممتزجاً بصوت المؤذّن، وتساءل عمّا حدث، فأُخبِرَ بأنّ بعض الجنود في المُعسكر القريب من داره كان يُصلح مدفعاً مُعطَّلاً، وأراد أن يجرّبه فأطلق قنبلة لاختبار مدى صلاحيته للعمل. استحسن الباشا الفكرة، وأمر بأنْ يستمروا في إطلاق المدفع عند موعد أذان المغرب في كل أيام رمضان.
ليالي البهجة
بعد العشاء، تبدأ بعض العوائل العراقية مشاهدة المسلسلات العربية أو العراقية، وتعمد عائلات أخرى إلى الخروج إلى المقاهي من أجل السَّمَر أو تزجية الوقت حتى وقت السحور. وهناك لعبة عريقة تعود بدايتها إلى العصر العباسي، وهي "المحيبس"، التي تشتهر في أغلب المدن والمحافظات. والمحيبس هو تصغير المحبس، أي خاتم اليد. ومن قواعدها أن اللاعبين الذين يشكّلون، فيما بينهم، فريقاً يُعرف باسم المنطقة التي يسكنونها، يتبارون مع فريق آخر. وتقدم إلى أفراد الفريق المنافس الحلويات – البقلاوة والزلابية - ويستقبلهم الفريق الضيف بكل حفاوة. وبانتهاء اللعبة، تقدَّم إلى أفراد الفريق المنافس الحلويات، ويودّعهم الفريق المضيف بالاحتفاء نفسه الذي استقبلهم به·
إقرأ أيضاً: تحضير بان كيك: وصفات عديدة بطرق سريعة
تقوم اللعبة على فريقين، يتكوّن الواحد منهما من عدد يتراوح بين 20 و100 لاعب، وأحياناً من عدد أقل إذا كانت تلعَب ضمن عائلة واحدة أو عائلتين.
ومضمار الفوز أو الخسارة هو الخاتم، وأساس الظفر هو اكتشاف مكان الخاتم عند الفريق المنافس. ويضم كل فريق لاعبين أساسيين، هما اللذان يستخرجان الخاتم، والباقون ما عليهم سوى الاحتفاظ به بأيديهم.
وتبدأ لعبة المحيبس بعد تقابل الفريقين، بحيث يقوم أحدهما بأخذ الخاتم إمّا بطريقة القرعة، وإمّا عبر شراء الخاتم بالنقاط. فالفريق الأول يطلب من الثاني الاحتفاظ بالخاتم في مقابل منحه 10 نقاط، وهكذا يتم الاتفاق على بقاء الخاتم في مقابل عدد من النقاط يجري التفاوض عليها بين كِلا الفريقين. وتعلن بداية اللعبة، بحيث يقوم شخص من الفريق الذي يحتفظ بالخاتم بإخفائه بطريقة سرية لدى أعضائه. بعدها، يصيح بصوت عالٍ "بات"، أي أن الخاتم استقر في إحدى الأيادي.
وهناك أيضاً لعبة الصينية الشهيرة، التي تتطلب وجود صينية وفناجين نحاسية وتوضع الشيرة - السكر المذاب - في القاعدة الدائرية لها، من أجل تثبيت الفناجين بالمقلوب. وتبدأ اللعبة بمشاركة فريقين، فيضع أعضاء الفريق الأول خاتماً تحت أحد الفناجين، ثم يدوِّر الصينية من أسفلها وهو يمسكها من وسطها بيد واحدة، حتى لا يعرف لاعبو الفريق الخصم أين وضعها وأخفاها.
وهنا يقوم أمهر لاعبي الفريق الثاني بمحاولة كشف الفناجين بعد نظرات طويلة إليها. وعندما يتم الكشف عن الفنجان الموضوع فيه الخاتم، سرعان ما تعلو الأصوات وتُحتَسَب نقطة للفريق. ويستمر هذا اللعب حتى موعد السحور، ويتخلله تناول اللاعبين لصواني الحلويات والشربت، وبوجود عدد كبير من المشجعين الكبار والصغار، على حدٍّ سواء.
للصغار رمضانهم أيضاً
لا يقتصر تأثير شهر رمضان على الكبار، بحيث للصغار حظهم من الألعاب والمرح والأغاني. ومن الأغاني التي يحرص الأولاد على تردادها في ليالي رمضان، "الماجينة"، وهي لعبة غنائية مختلطة يمارسها الصغار. تسمى الماجينةَ في وسط العراق، و"كركيعان" في جنوبيّه، وخصوصاً في محافظة البصرة، إذ تقوم مجموعة من الأطفال، عقب تناول طعام الإفطار، بالتجمع في الأحياء، ويحمل أكبرهم عُمراً كيساً من القماش، ليدور مع زملائه على بيوت الحيّ أو الطرف، ويبدأ أحد الأطفال طَرْقَ أحد أبواب الجيران، ويُنشدون مع الآخرين بصوت واحد:
"ماجينة يا ماجينة
حلّي الجِيس وأنطونه
تنطونه لو ننطيكم
بيت مكة أنوديكـم
هاي مكة المعمورة
مبنيّة إبجص ونورة"
وإذا لم يخرج إليهم أحد ليمنحهم شيئاً، فإنّهم يبدأون رفع أصوتهم: "يا أهل السطوح تنطونا لو نروح". وما إنْ تسمع ربّة المنزل، حتى تخرج إليهم حاملة بيديها، أو في وعاء، كمية من الحلويات أو النقود لتوزعها عليهم. وعندها يستلم كل واحد نصيبه من الهدايا، وهنا يقفون أمام البيت نفسه، ليرددوا باسم صاحبه.
وهكذا، ينتقل الأطفال جميعاً ليطرقوا باباً آخر في الحيّ، أو الدربونة - الزقاق - قبل أن ينهوا جولتهم في هذا المساء الرمضاني، ثم يعودوا إلى بيوتهم محمَّلين بالهدايا الوافرة من الجيران.
بمرارة نتذكر ظاهرة "أبو طبيلة" أو المسحراتي، التي اختفت في أغلبية المدن العربية، وكذلك في المدن العراقية في العقود الأخيرة. الرجل الذي يتجول بين الأحياء، وهو يدق صائحاً "سحور، سحور". وهي ظاهرة عُرفت في العراق، منذ أيام الدولة العباسية، بحيث كان ابن نقطة هو الشخص الذي يتولّى إيقاظ الخليفة العباسي الناصر لدين الله في بغداد، دار السلام، ليتناول طعام السحور في أيام رمضان، وعُرِفَ التسحير في ذلك العصر بـالقوما من قول المُسحِّر:
"قوما تسحر قوما"
ولما مات المسحراتي ابن نقطة ذهب ابنه، وكان له صوت جميل، ووقف تحت قصر الخليفة الناصر لدين الله، وأنشد:
"يا سيد السادات لك في الكرم آيات
أنا بن أبي نقطة تعيش أبويا مات"
فأُعْجِبَ الخليفة العباسي بحسن بيانه وشدة إيجازه، فأحضره وخلع عليه الهبات، ومنحه راتباً ضعف ما كان يعطيه لأبيه.
ومن عادات العراقيين أنهم يُكْرمون المسحراتي، "أبي طبيلة"، في صباح عيد الفطر، إذ يجول على البيوت لتمنحه كل عائلة مبلغاً من المال جراء سهره طوال أيام الشهر، من أجل إيقاظ أفرادها للسحور.