يوميات من ضاحية بيروت.. جدار الصوت
أكاد أتخيل حالتَي ولديَّ من مكان عملي. كان عقلي يحاول أن يتوقع ما سيقوله السيد حسن، وروحي تتوقع حال ولديّ في منزلي المشكول في قلب الضاحية. انشلع قلبي. هل هذه هي الحياة التي جلبتُ ولديّ إلى هذه الدنيا ليعيشاها: قلقاً على قلق على قلق… على كثير من القلق!
أفقتُ صباحاً متأففاً. أصلاً مرّ يوم أمس كله، من شروقه حتى آخر هزيع من ليله، كدراً فوق كدر. جدار الصوت الذي خرق سماء ضاحية بيروت الجنوبية أمس، 3 مرات، وعاد وفض بكارتها من جديد اليوم، كان وقعه في روحي أقوى آلاف المرات.
تصدُّعات روحي سمعت تردداتِها كلُّ الأرواح التي تسمع، وكلُّ الأروح التي تتألم. جدران قلبي تشققت. تفسّخت. أي علاج يَشفي روحي. أنا في عملي، وولداي الشابان في المنزل. كرسيّ مكتبي، الذي لا يروق لي الجلوس في سواه، حتى لو طوّبوا لي السند والهند، كان لم يدفأ بعدُ، حين خرق جدار الصوت سماء الضاحية، مرةً واثنتين وثلاثاً.
أنا في مكان عملي البعيد عن البيت، وولداي الشابان، زهرتا روحي، في منزلنا في ضاحية بيروت. أسمع خفق دقات جبران. "تك تك تك تك". ترن تكّات نبضه في روحي. حتى لو كنت بعيداً أسمعها. أتوقع كيف سيقلق. لا يستطيع ابني أن يُخفي قلقه. آدم أكثر هدوءاً، لكن قلق جبران، الذي يصبح أحياناً مثل فرس جامحة، سيجعله يتوتر.
أكاد أتخيل حالتَي ولديَّ من مكان عملي. كان عقلي يحاول أن يتوقع ما سيقوله السيد حسن، وروحي تتوقع حال ولديّ في منزلي المشكول في قلب الضاحية. انشلع قلبي. هل هذه هي الحياة التي جلبتُ ولديّ إلى هذه الدنيا ليعيشاها: قلقاً على قلق على قلق… على كثير من القلق!
جربتُ الاتصال بجبران ليطمئنّ قلبي، ليبرد، ليصيبه شيء من السكينة، شيء من الهدوء. عبثاً أحاول. لا يردّ. جربت الاتصال بآدم. لم يردّ. اتصلتُ مرة واثنتين وخمساً. ثم علّق الخط. صوت آدم، هادئ الطباع، أصابه شيء من التوتر. أنا من الرجال، الذين يتأففون من كثير من الأمور. ويتذمّرون من كثير من الأمور، وممن يقول لهم من يعرفونهم إنهم ربما لا يعجبهم لا العجب، ولا الصيام في رجب، لكنني الآن لا أريد أكثر من الأمان لولديّ.
صار الكون صغيراً جداً جداً جداً، وتضاءلت الأحلام والأمنيات جداً جداً جداً، إلى حد أن ما أريده من الحياة الآن، باتت أمراً واحداً غالياً جداً جداً جداً، يُفترض أنه حق طبيعي، لكنه بات أمنية في بلد غير طبيعي: أن يكون ولدايَ والناس الذين أحبّ بخير.
أنا، الرجل الذي لا يرضى من الحياة إلا بما يستحقه، صارت أمنيتي الوحيدة في الحياة أن يكون ولدايَ بخير. كيف مرمرتني الحياة هكذا؟ كيف وصلنا إلى ها هنا، حيث يصير الحق في الحياة أمنية؟
في صغري، لما كنت ابن 13 عاماً، قرأت "طواحين بيروت" لتوفيق يوسف عواد. ظننت أنني سأقرأها كما يقرأها طفل ابن 13 عاماً، لكني اكتشفتُ، لـمّا أنهيتها، وكنا في العطلة المدرسية الصيفية، أنني قرأتها كما يمكن أن يقرأها ابن 13 قرناً من السنين، أو ربما هي أحد الأسباب التي جعلتني أكبر أعواماً مديدة قبل أواني.
أنا فعلاً كبرت قبل أواني، وهرستني الحياة قبل أواني. رجلٌ سرقته الحياة، خطفته، أخدته شمالاً، أخذته يساراً، ثم ردته يميناً، ثم تركته "بين بين". دوّخته، هرسته قمحاً، وعجنته، وطهته خبزاً، وهو لا يزال في عمر الطفولة. احترت يوماً كيف يمكن أن تُطحَن مدينة. كيف يمكن أن تهرسها وتطحنها الطواحين، ثم ما لبثت أن اكتشفت، أنا الطفل البعلبكيّ يومها، أنني طُحنت أنا أيضاً، كما طُحنت بيروت.
الحياة، التي لم أعِشها، تُعيد طحني من جديد!