بين الثقافة الحقيقية وثقافة الاستهلاك: أين دور المثقف؟
على المثقف أن يكون فاعلاً ومؤثراً في آن، وهذا يتطلب بالدرجة الأولى تكاتفاً لأصحاب الأقلام ووعياً دقيقاً للمرحلة، والعمل على بلورة مشروع وطني مستقل، ينطلق من الواقع، ويحاكي هموم الأمة لا الهموم الفردية.
يمكن توصيف الصراع القائم في المنطقة بأنه صراعٌ بين أصحاب مشروع استعماري، سياسي، اقتصادي، غربي، وبين مقاومين له، يرفضون الخضوع، ويأخذ هذا الصراع منحى ثقافياً حضارياً بطبيعة الحال.
في هذا الإطار، ينشط كتاب ومثقفون يحاولون تقديم رؤى المشروع الأول، وهذا يحتم على المشتغلين في الحقل الثقافي من أولئك الذين لا يؤمنون به، ضرورة الاستجابة والتصدي لمحاولات تشويه متعمدة تطال التاريخ والثقافة والتراث، يعمد ناشروها إلى كسب رضى أصحاب المشروع الأول، ما يجعل الصراع غير متكافئ، ويضطر المثقفون الحقيقيون إلى الإجابة عن البديهيات والمسلمات، خوفاً على اهتزاز آراء الجمهور القابل أصلاً بالاستهلاك، ونقل ما يصله من الثقافة الغربية بعين القبول والإكبار.
الإشكالية الأساسية تتمثل في ثقافة الاستهلاك، أي نقل الثقافة الغربية واستيعابها وتداولها والأخذ بجديدها، من دون التدقيق في الأفكار التي تحملها، وتحاول تعميمها. وقبل كل ذلك الإيمان بأنها الأفضل، فيجري العمل على تقليدها، فتتكون البنى التابعة المستهلكة. وهذا يؤدي إلى تفتيت المجتمع، كما يحرمه من نهوض فئة متماسكة يمكنها أن تبلور مشروعاً حضارياً مستقلاً له جانبه الثقافي، وتتكون أيضاً جماعات وأفراد، لكل منها مشروعه الخاص الذي يسعى، بكل الوسائل المتاحة، إلى تحقيقه، حتى لو لم يكن مؤمناً بصواب ما يقوم به، ولا يندرج في سياق المشروع الوطني الحضاري المستقل.
إن الثقافة الحقيقية ينبغي لها أن تكون محصنة يمارس فيها المثقف حريته التي ينشئ فيها علاقات اجتماعية، وفي غياب مثل هذه الحرية لا يمكن لمثقف أن يعي قضايا مجتمعه، ويطلق رؤيته إليها.
والمقصود بالحرية هنا هو تحرر المثقف الذاتي بالدرجة الأولى، والقدرة على الابتعاد عن الظلامية والخضوع للسلطان الجائر، والقدرة على صياغة الرؤى والتوجهات المنطلقة من الواقع المعيش، لا المستوردة من الخارج.
وليس المقصود هو الحرية العمياء أو الحرية التي ترى في التطاول على السائد شكلاً من أشكالها. ففي زماننا يعد حراً كل من يجرؤ على المسّ بالتقاليد والعادات التي ننتمي إليها، كما يعد متحرراً كل من يتنكر لتاريخه وثقافته، آخذاً بمقولة: "ولّى عليها الزمن".
"طوفان الأقصى" والحلم يتجدد
في الحقيقة، إن الحركة الثقافية في لبنان والدول العربية ما انفكت تعمل لمواكبة الأحداث الجارية، ومما لا شك فيه أن عملية تحررية إنسانية بحجم "طوفان الأقصى" أعادت دور الثقافة إلى الواجهة، بعد أن رأى فيها المثقفون أنها بداية مشروع حضاري تحرري مستقل، غير تابع للمشروع الغربي الاستعماري، ووجد فيها فرصةً لإحياء الحلم التاريخي بإيجاد مشروع ثقافي ينطلق من التجربة الذاتية، ولا يكون مستورداً.
كبا المثقفون في زمن الإعلام ووسائل التواصل، فعادت القضية المركزية إلى الواجهة، وانبرى المثقفون وأصحاب الكلمة الحرة إلى مساندة القضية، حتى نتج أدب جديد يمثل المرحلة الراهنة، وينبئ بنهضة ثقافية جديدة، خصوصاً في الدول التي ترفض الاحتلال ومحاولات التهويد الثقافي.
ولا شك أن الأدباء والشعراء اليوم أمام امتحان الضمير الإنساني، لما تشهده المنطقة من حرب إبادة تطال الأطفال والأمهات والشيوخ، وفي تقديري أن الصمت أمام هول ما يجري هو سكوت عن الحق كله أمام الشرك كله.
ما نطمح إليه أن يكون الأدب بشكل عام هو التعبير الفني المعادل للتجربة الإنسانية في هذه المرحلة المتميزة من تاريخنا، بعد أن كان الأدب، إضافة إلى كونه التعبير الفني، وسيلة الإعلام الاجتماعية والسياسية.
دور المثقف وموقعه في صميم المواجهة
ومما لا شك فيه أن للكلمة دوراً فاعلاً في بث الوعي وتحريك الشعور الجمعي بقضايا المجتمع وما يحيط به. وتأثير الأدب هو تأثير المثقف مبدع هذا الأدب، الذي لا ينبغي له أن يعيش خارج زمانه ومكانه، ولا على هامش التحديات، بل في صميم المواجهة، لأن قوى الاستكبار لا تقتصر على ضرب الأمن والسياسة والميدان، بل تسعى إلى تشويه الثقافة والهوية واللغة والتراث، وهو ما يظهر من خلال البرامج التي تنفذها قوى الاستعمار، ولكم أن تتخيلوا حجم الضغوط التي يتعرض لها المثقف العربي في محاولة لفصله عن واقعه ومحاولة سلب هويته، وجعله يعيش خارج الزمان والمكان أو على هامش التحديات.
على المثقف أن يكون فاعلاً ومؤثراً في آن، وهذا يتطلب بالدرجة الأولى تكاتفاً لأصحاب الأقلام ووعياً دقيقاً للمرحلة، والعمل على بلورة مشروع وطني مستقل، ينطلق من الواقع، ويحاكي هموم الأمة لا الهموم الفردية.
إن الإيمان الحقيقي بضرورة التغيير يملي واقعاً جديداً، على المثقف أن يتعالى فيه عن مصلحته الفردية لصالح مصلحة الجماعة، وأن يقود ثورة التغيير من تحت، حتى يكون قادراً على المواجهة، وإلا فإنه سيصاب بإحباط جديد، ينتهي به إلى انكفاء آخر وشعور بالإحباط والهزيمة مجدداً.