ما النهضة في فكر علي شريعتي؟
يعتبر شريعتي أن المستنير هو الذي يمتزج مع هموم وطنه وآلامه وقضاياه وتطلعاته، فتكون أولويته القصوى.
لا أحد ينكر في وطننا الكبير من المحيط إلى الخليج أننا نعيش معضلة المفاهيم. وقد يكون صلب أزماتنا هو هذه المعضلة التي قد يهملها كثيرون. ففي فوضى المفاهيم وتأويلاتها تضيع الحقيقة، ويختلط "الحابل بالنابل"؛ فتنعكس هذه الفوضى على الواقع، فتصبح الضبابية هي المسيطرة على الجو العام. ومن هذا المنطلق، نصبح فريسة سهلة للخداع السيميائي من طرف المستعمرين والمسيطرين على العالم، من خلال تحريف المعاني والتلاعب بالتصورات الذهنية والمفاهيمية في استغلال واضح لنسبية اللغة، وقد توقع البروفسور المغربي المهدي المنجرة في مطلع القرن الـ 21 أننا سنخوض حروباً سيميائية، أي حرب المفردات.
أهمية الوقوف على المفاهيم وتدقيقها وربطها بواقع الأمة وطبيعتها وخصوصياتها باتت ضرورة ملحة، ولا يمكن أن يحدث أي تغيير حقيقي في واقعنا من دون البداية من اللغة نفسها. وقد فطن المفكر الإيراني علي شريعتي لذلك في كتابه "المستنير ومسؤولياته في المجتمع" من خلال تحليله لكلمة "المستنير"، أو كما تمَّ توظيفها في اللغة الفارسية "روشنفكر" أي صاحب الفكر النّير لوصف "الأنتلكتويل Intellectuel-"أي كل من ينتمي إلى الطبقة المثقفة. ويشير علي شريعتي إلى أنه هنا بدأ الخطأ ودخل إلى العقول إذ بات الجميع يحملونه في أذهانهم.
المستنير وخصائصه
يشير علي شريعتي إلى أنه ليس كل من ينتمي إلى طبقة المثقفين هو بالضرورة مستنير. فمن يقوم بأعمال بدنية يدوية كالعمال، وكذلك من يقوم بأعمال عقلية فكرية كالكتّاب والفلاسفة، وحتى خريجي الجامعات، قد يكونون مستنيرين؛ وبذلك قد يكون بعض المستنيرين من طبقة المثقفين وبعضهم ليسوا منها، وبناءً على هذا، لا ينبغي لنا أن نعدّ كل مثقف مستنيراً.
الخصائص التي وضعها المفكر الإيراني للمستنير إذاً لا تخضع لتصنيف طبقي ولا إلى المستوى الدراسي والفكري، فالمستنير: "هو الذي لا يرتضي الحدود والقيود والتوقف والمراوحة، ولا يفكر بطريقة جامدة، بل يفكر بطريقة نيّرة متفتّحة ويشخّص زمانه وموقعه وموقع بلاده والقضايا المطروحة في مجتمعه، ويمكنه تحليلها وصوغ الأدلة والبراهين حولها وتفهيمها للآخرين."
فالمستنير إذاً هو الذي يمتزج مع هموم وطنه وآلامه وقضاياه وتطلعاته، فتكون أولويته القصوى. وهذه الخصائص، إن توفرت في شخص، فهو مستنير، وليس كما يروّج أن الاستنارة مقرونة فقط بالطبقة المثقفة.
المستنير الأصل والمستنير المستنسخ
من خلال ما سبق، يوضح د. شريعتي بأن المستنير الأوروبي كان وليد ظروف اجتماعية، فكرية وتاريخية خاصة به، جعلها منطلقه لإحداث تغيير في المجتمعات الأوروبية، في حين تحوّل المثقف في مجتمعاتنا الإسلامية إلى مستنير مستنسخ، كل أفكاره وإبداعاته وصراعاته مستقاة من المستنير الأوروبي الذي يلعب دور الأصل في هذا التجاذب. ونلاحظ بشكل واضح إلى يومنا هذا، وهنا تكمن الكارثة، أن المستنير المستنسخ قد يتحوّل إلى مرتزقة يعمل لصالح القوى الخارجية.
فكل الأفكار التي يأتي بها المثقف في بلداننا تجد أصلاً لها في الغرب، وبذلك يبدأ الحديث عن حلول وتحليل لواقعنا بعيداً عن العمل المرتجى، وتصنع صراعات وهمية ونذهب في طرق شتى غير الطريق الصحيح الذي انطلق منه المستنير الأوروبي نفسه، وهو معاينة واقعه الخاص، وفهم الإشكاليات الحقيقية الموجودة في المجتمع لإيجاد حلول تناسب ذاك المجتمع، حسب ثقافته، ووضعية دينه والظروف الاجتماعية، السياسية والاقتصادية التي نشأ فيها.
التاريخ كمعلم أول
إذا كان ينبغي لنا أن نستنسخ شيئاً من المستنير الأوروبي فهو منهجه وليس بالضرورة كل تجاربه ومساره التاريخي، إذ يجب على المستنير في مجتمعاتنا أن يستقي من خصوصياته وسماته بشكل منطقي وطبيعي من الظروف العينية الملحّة لمجتمعه، وهذا هو الدور الذي يجب أن تقوم به كل أطياف المجتمع، انسجاماً مع طبيعته وخصوصياته الثقافية والذهنية والدينية، وليس استنساخاً لنماذج أجنبية كيفما كانت، لها شرعيتها في المجتمع الذي بزغت فيه، التي قد تؤتي نتائج عكسية إن أردت تطبيقها في مجتمعات أخرى.
اعتمد علي شريعتي في مقاربته على علم الاجتماع والتاريخ، ليفكك خصوصيات المستنير الأوروبي و أسس فكره. وكيف سيكون مجحفاً أن تستنسخ ما نجح في مكان ما بناءً على خصوصيات معينة، في مكان آخر لا يتشارك مع الأول في الخصوصيات التاريخية والاجتماعية والدينية نفسها، والتي تعدّ محلية وليست كلية.
كان لأوروبا ماض مشرق جداً، ثم جاءت الكاثوليكية والدين المسيحي بالبابا وكهنوته وحكمت أوروبا باسم الدين حد الاختناق، إذ تم قتل العلماء والكتّاب والفلاسفة والشعراء وتعذيبهم والتنكيل بهم، فكانت ولادة طبقة المستنيرين في القرن السابع عشر، التي لم تجد حلاً غير أن تحشر الدين في داخل الكنيسة وغلق الباب، وعاودوا الازدهار والتقدم. عارض المستنير البابوية والكنيسة الكاثوليكية وناهض النزعة الأرستقراطية والإقطاع، وأعطى أهمية للغة الأم ولغة شعبه المحلية في حين كانت الكنيسة تعطي الأولوية للغة اللاتينية، حتى إن الناس لم تكن تعرف من الدين إلا ما أخبرهم به القساوسة. ويضيف د. شريعتي أن قضية حرية المرأة التي نراها في أوروبا اليوم بهذا الشكل هي رد فعل لأسْر المرأة وتقييدها في القرون الوسطى، إذ كان لا يحق للمرأة أن تتحدث مع الرجل الأجنبي من خلف باب مغلق، بل لا يمكن لرجل أجنبي أن يدخل بيتاً فيه امرأة، ولو كانت في غرفة أخرى. وبلغ المستنير حد عبادة العلم لمواجهة الدين الذي كان رمزاً للاستبداد والتضييق والزهد المنحرف. لقد كان كل هذا، ورغم تطرف بعض الاختيارات، رد فعل منطقياً، نظراً إلى الواقع والمسار التاريخي الذي عرفته أوروبا، الأمر الذي دفع د. شريعتي أن يشير إلى:
الإفراط هو ردّ الفعل المنطقي لأي تفريط، والتفريط هو رد الفعل المنطقي لأي إفراط.
ومن هذا المنطلق، سيكون من الغباء أن نأتي بكل ما أنتجه مستنيرو أوروبا وفق خصوصياتهم وسماتهم ووضعهم الاجتماعي والاقتصادي والسياسي ومسار تاريخهم، لنطبّقه في مجتمعاتنا ضاربين عرض الحائط الخصوصية التي نتمتع بها. فمثلاً، هل وضعية الإسلام في المجتمعات الإسلامية هي نفسها وضعية الدين المسيحي في المجتمعات الأوروبية؟
النزعة الوطنية
قد يظن البعض أن علي شريعتي ضد التقاء الحضارات والتبادل الثقافي والفكري، لكن ذلك بعيد عن تصوّره، ويمكن فهم ذلك بدقة في حديثه عن الوطنية والقومية و الإنسانوية. فإذا كان المستنير في القرن السابع عشر في أوروبا يرنو إلى التحرر من الكنيسة، فنادى بعد إعلانه لا دينيته بالقومية والوطنية مذهباً له. لكن، وكما أشرنا منذ البداية حول نسبية التجارب والمسارات، فإن هذه الأفكار المنادية بالقومية والوطنية تمَّ استغلالها من طرف المستعمرين لكي تؤدي إلى التجزئة والتفرقة وتحطيم وحدة الشرق. ورغم ذلك، أشار علي شريعتي:
نلاحظ أننا عندما نجرّد الوطنية بشكل عام من الوضع الاجتماعي الخاص أو الزمن التاريخي...فستكون مدرسة تقدمية إنسانية طبيعية.
الوطنية وحتى القومية التي يتحدث عنها شريعتي، ليست تلك التي يصل فيها الإنسان إلى عبادة الدم والأرض، إلى الاعتماد فقط على خصوصيات العرق والقوم. بل هي قومية تعتمد على الشخصية الثقافية والمعنوية للذات. وهنا تجدر الإشارة، وهذا ما نعاني منه في وطننا الكبير، هو أن المستعمرين يدفعونني إلى تبني العولمة مثلاً، وهي في الحقيقة محاولة لاستلاب كل الخصوصيات ودفع إلى الاغتراب، لأن تلك العولمة ما هي إلا أمركة مبطنة، أو أن تعيش كما أراد لك الغرب أن تعيش. علي شريعتي جعل من الوطنية جسراً أو مرحلة أولية قبل الأومانيسم أو الإنسانوية، أما أن تمد يدك إلى الأومانيسم مباشرة فذلك خطر مهلك، لأنك تمدّ يداً فقدت كل مقوماتها. يجب أولاً، وقبل كل شيء، أن تعزز ثقافتك وفنك وسماتك الخاصة، وأن تنهل من مقوماتك الداخلية ثم آنذاك تستطيع أن تمد أواصر التواصل مع الآخر. ويحسم شريعتي هذا التحليل قائلاً:
الشخص الذي لا يمتلك أي رصيد ويريد التشارك مع صاحب رصيد وصاحب رأس مال...لن يكونا شريكين. بل سيكون أحدهما سيداً والثاني خادماً.
حضارتا الحيرة والغساسنة وبزوغ يثرب
أصالة الإنسان كأصالة الحضارة لا تقوم وتدوم بالتشبّه بأصالة الآخر. ويضرب شريعتي مثالاً يشهد عليه التاريخ. لقد كان بالقرب من الحضارة الرومانية الشرقية، العرب الغساسنة في الشام. وبالقرب من الحضارة الساسانية الإيرانية كان هناك عرب الحيرة في العراق. فراح كل واحد منهم يقلد الحضارة التي تقربه ويتشبّه بها. بل أكثر من ذلك، فقد كانت قصور ملك الحيرة أبهى وأكثر أسطورية من قصور الساسانيين أنفسهم. وكان ملك الغساسنة العرب يتشبه الروم في الترف والملابس والتشريفات. وبذلك، يتضح بأن المقلد يفرط في تقليد الأصلي، فيتجاوزه في البهرجة والشكل دون الجوهر، فيعيش في زيف، لأن الحضارة ليست بضاعة تصدر تشترى وتباع، وواهم من يظن أنه في تشبهه بالشكل في ظرف زمني وجيز سيلتحق بمن أنتج ظروفه الحالية المتقدمة والمتطورة نتيجة قرون من التضحيات ومن الجهد المضني في العمل على الذات ومقوماته الداخلية.
وهذا ما يتضح جلياً في مجتمعاتنا، فنحن نتسابق في بناء أطول برج وأضخم مبنى وأفخم قاعة. إن التمادي في التشبه أو الإفراط في الاهتمام بكل ما هو خارجي دون حتى أن تدخل في ذلك فنونك الخاصة ومعمارك المتميز المتفرد لا يبرز إلا شيئاً واحد هو الاستلاب الكلي الناتج من عقدة النقص والدونية التي تترجم إلى إفراط في التظاهر بالريادة والتقدم.
تلاشت حضارة الغساسنة والحيرة المستنسخة، في حين أن يثرب ما زالت إلى الآن قائمة، لأنها اعتمدت على مقوماتها الأصلية وانطلقت بناءً على الإيمان، من مجتمع بدوي يعيش في فقر واضطراب، تغلب فيه الأمية، ومن دون اعتماد أو تشبه بأي حضارة أخرى، إلى سدة الحضارة والقوة التي اعتمدت على رأس المال البشري والمحلية والأرواح القوية التي ألهمت التاريخ والبشرية، بل وأذابوا بحرارة أجسادهم البدوية حضارة الروم والفرس. ثم كبرت هذه الحضارة وسطع نجمها حين كانت كالبنيان المرصوص يشدّ بعضها بعضاً في مزيج فريد بين الأعراق والقارات فصنعت لنفسها سمات خاصة، ثم ضعفت حينما ركنت إلى الاستنساخ والتقليد. وها نحن ما زلنا نقاوم لكيلا يتم الاستلاب الكلي، إذ نمتلك حضارة أصيلة أصلية قد تنبعث كالفنيكس من رماد، وهذا ما يهابه الغرب ويعمل جاهداً من خلال مرتزقته داخلياً والضغط الخارجي وإشعال الفتن وتوجيه بروباغندا الإرهاب وربطه من خلال الخداع السيميائي بالإسلام.
إن الطبقة المثقفة وسائر المواطنين كل من مكانته أمام مسؤوليات جسيمة، ولن نبلغ مستوى الاستنارة الحقيقية إلا بتضحيات كبيرة، وذلك من خلال البحث عن سبل النهضة على أساس خصوصياتنا وأوضاع مجتمعاتنا وأحوالها، والنأي بالاغتراب عن تاريخنا وثقافتنا والوقوف في وجه الاستلاب الفكري والثقافي، وبذلك ستكون ولادة المستنير في بلداننا طبيعية، كما كانت عند الأوروبيين. فلا نهضة من دون العمل والتعب وتحمّل المشاق، بالاعتماد على التربة الثقافية والتاريخية والقومية الذاتية.