العود السوري.. أي تحديات ومصاعب تواجه صناعته؟
أدرجت صناعة العود في سوريا أواخر العام الماضي في قائمة "اليونيسكو" للتراث غير المادي، لكن هذه الصناعة تواجه تحديات كبيرة، ما هي؟
أدرجت منظمة "اليونسكو" عناصر جديدة على قائمة التراث الثقافي غير المادي، في الدورة الـ17 للجنة للدولية، التي عُقِدت في المغرب في شهر كانون الأول/ديسمبر 2022، من بينها أغنية "الراي" الجزائرية، والخنجر العماني، والمنسف الأردني، والرغيف الفرنسي (الباغيت)، وصناعة الأعواد الموسيقية في كلٍّ من سوريا وإيران، حيث تُعَدّ صناعة الأعواد والعزف عليها ضمن العناصر التراثية الثقافية السورية، ولها وزنها في الموسيقى الشرقية عموماً.
تُعَرِّف المنظمة الدولية عبارة "التراث الثقافي غير المادي" بالممارسات والتقاليد والمعارف والمهارات – وما يرتبط بها من آلات وقطع ومصنوعات وأماكن ثقافية – التي تعتبرها الجماعات، وأحياناً الأفراد، جزءاً من تراثهم الثقافي غير المادي المتوارث جيلاً عن جيل.
عبده النحات وأول عود سوري
داخل محله الصغير في سوق المهن اليدوية في التكية السليمانية في دمشق، يُقَدِّم أنطون طويل (صانع أعواد موسيقية) لمحة تاريخية عن الحرفة، ضمن لقاء مع "الميادين الثقافية"، حيث يقول: "شُغِل العود للمرة الأولى على يد عبده النحات في العام 1879، في منطقة القيمرية بدمشق، وعمل في هذا المجال إخوته الـ7، ومنهم حنا وإلياس وجرجي". ويروي طويل أنّ الصناعة نَمَت ببطء، قبل أن تنتشر عبر ورش صغيرة.
امهتن إبراهيم، والد أنطون، صناعة الأعواد منذ أواخر خمسينيات القرن الماضي، وورثها أنطون منه سابقاً، ثم انتقلت إلى ابنته ماري (37 عاماً) الآن.
يكمل طويل حديثه: "كان عبده النحات نجاراً، حينما صنع أول عود لسيدة اسمها ماري تقطن شارع حلب بدمشق. تميزت أعواد النحات بصناعتها البدائية، إلا أنّها قيّمة ونادرة". ويشير طويل إلى أنّ "الأوتار صُنِعت في البدايات من أحشاء الحيوانات، قبل أن تُستورد لاحقاً".
يؤكّد صانع الأعواد الدمشقي أنّ جرجي بيطار صنع الموزاييك على أعواد عبده النحات، حيث كانوا يستعملون موزاييك عالي الجودة لتطعيم العود من خشب الورد والليمون والجوز.
وجرجي بيطار مبتكر فن الموزاييك (تطعيم الخشب) في سوريا، بحسب مصادر تاريخية عدة. ويسود الاعتقاد أنّ عبده جرجي نحات صنع الأعواد منذ عام 1880 حتى عام 1935، قبيل هجرته إلى البرازيل، بحسب مقال للباحث جوزيف زيتون، منشور على موقعه على الإنترنت في شهر تموز/يوليو 2020.
التخطيط للمشروع
تقول رشا برهوم، المساعد التنفيذية في برنامج "التراث الحي"، في "الأمانة السورية للتنمية"، خلال لقائها مع "الميادين الثقافية"، إنّ عنصر صناعة الأعواد الموسيقية والعزف عليها مدرج على قائمة "الحصر الوطنية" لدى وزارة الثقافة السورية، التي تضمّ 100 عنصر، ويُجرى للقائمة تحديث دوري كل عامين بناء على اتفاقية "اليونيسكو" في العام 2003 لصون التراث اللامادي، التي صادقت عليها سوريا.
وتُبيّن برهوم أنّ مشروعاً مشتركاً انطلق بين "الأمانة السورية للتنمية" ووزارة الثقافة وبعض الجمعيات الأهلية نهاية العام 2018 لتحديث قائمة الحصر، وفي هذه المدة لاحظ الفريق الميداني أنّ الممارسين لصناعة الأعواد يعانون من الأوضاع الاقتصادية وصعوبة توفر المواد الأولية، حتى أنّ العازفين يواجهون صعوبات متعلقة بأعمالهم.
وتكشف برهوم عن تخوّف من عزوف الممارسين عن العمل في مهنتهم، وعزوف الأبناء عن ممارسة مهنة الآباء، خاصة أن العود "ست" الآلات الشرقية.
وتذكر برهوم أنّه على هامش اجتماعات دورية للأمانة ووزارة الثقافة، كان هناك لقاء مع الجانب الإيراني لتقديم ملف مشترك إلى منظمة "اليونيسكو" عن صناعة الأعواد والعزف عليها.
وترى برهوم أنّ إدراج الآلة على قائمة المنظمة الدولية يشجع المجتمع المحلي للحفاظ على المهنة التراثية، خاصة أنّ فنانين عرباً حملوا أعواداً تعود لصُنّاع سوريين.
طرق الصناعة
عن طرق الصناعة وميزاتها في سوريا ودول الجوار، يوضح أنطوان طويل أنّ "الطرق متشابهة، ولكل صانع طريقته، وما زال الصُنّاع اليدويون يستعملون البخار في انحناء الخشب، ويجلبون الغراء الأحمر المستخلص من جلود الأبقار لجمع (لصق) الخشب، وهي مادة لاصقة معمرة".
ويبين طويل أنّ "دخول الكهرباء والآلة إلى سوريا في بداية القرن الماضي خفضتا الجهد والوقت اللازمين، وتدخل الآلة عموماً في المراحل الأولية في صناعة العود، لكنَّ المراحل الأخرى ظلّت يدوية".
يتكلم طويل عن الأخشاب الداخلة في صناعة العود، حيث تستعمل أصناف متعددة أغلبها محلية المنشأ، من أبرزها خشب الجوز لجماليته وعمره الطويل، إلا أنّ ثمنه مرتفع؛ لذا يمكن إدخال خشب متجانس من قبيل الأبنوس في المسطرة أو مفاتيح العود.
ويعدّد الصانع مراحل العمل اليدوية، التي تبدأ من اختيار الخشب وتجهيزه، ولدى كل صانع قالب جاهز يبني عليه العود. وبحسب الحرفي، يقسَّم العود إلى أجزاء رئيسية؛ هي: الساعد (الزند أو الرقبة) والصدر (وجه وسطح العود)، والظهر (القصعة)، وبيت المفاتيح (صندوق المفاتيح)، الذي يطلق عليه محلياً "بنجق". وتصنع كل مرحلة على حدة، ثم تُجمع مع بعضها، لتأتي بعد التجميع مرحلة التلميع؛ أي الطلاء بمواد ملمعة، ثم ترتيب الأوتار أخيراً، وتستورَد الأخيرة من دول مثل الصين وألمانيا وفرنسا.
يتميز وجه العود السوري بالفتحات الدائرية الثلاث، التي يطلق عليها محلياً اسم "القمرات"، في حين أنّ فتحات العود العراقي بيضاوية الشكل، حيث "يفضل الدمشقيون الفتحة الدائرية لكي ينقش الصانع اسمه، ويحفر المقامات الموسيقية فيها"، بحسب طويل.
تحديات متنوعة
تواجه حرفة صناعة الأعواد والعزف عليها مخاطر متنوعة؛ منها: ارتفاع أسعار المواد الأولية، وضعف التصدير، وتراجع أعداد الصناع، كحال أغلب الحرف التقليدية والتراثية في البلاد.
ويحكي طويل عن الصعوبات، حيث تراجع شراء واقتناء الأعواد في العقد المنصرم، وبالتالي تراجع الإنتاج. يردف أنطون متحسِّراً: "كنا نصدّر سابقاً إلى دول أوروبية، لكن شحن الأعواد وتصديرها بات مكلفاً".
يذكر الصناعي أنّ بعض الحرفيين تركوا المهنة، وهاجر آخرون وأسسوا ورشاتهم الخاصة في دول الجوار أو دول غربية، مثل كندا والنمسا. ويضيف: "هناك ورشات بقيت في دمشق وحلب ومحافظات أخرى، إلا أنّ عددها غير معروف على وجه الدقة".
من جهته، بدأ جودت والد بشار الحلبي صناعة العود في ثلاثينيات القرن الماضي. فتح بشار الحلبي أول ورشة له في منطقة مجدل عنجر في لبنان، ثم عاد إلى سوريا متنقلاً بين عدة ورشات في ريف دمشق، وكانت ورشته الأساسية في داريا.
يستعين الحلبي بالآلات في تشكيل الخشب وتصغيره حتى يتمكن من التعامل معه يدوياً، ويقول عن ذلك إنّ "للعود اليدوي رونق خاص، فهو مميز بصوته وشكله، حيث تشعر كأنّ الصانع والعود أصبحا قطعة واحدة".
هاجر ولدا صانع الأعواد بشار الحلبي إلى ألمانيا وكندا بسبب ظروف الحرب، وعلى الرغم من البدايات الصعبة، لكنّ ورشة ولده في كندا نجحت، ما دفعه إلى التوسع في عمله، بحسب ما يصرح الحلبي لـ"الميادين الثقافية".
آمال ممارسي الحرفة
يعلّق أنطون طويل أنّ إدراج صناعة الأعواد والعزف عليها على قائمة "اليونيسكو" كان يُفتَرض أن يحدث منذ زمن، "لأن العود حرفة يدوية تراثية لها وزنها في التخت الشرقي، والموسيقى الشرقية بشكل عام، حيث كان الملحنون العرب يبنون لحن الأغنية عليه"، مشيراً إلى أن الآلة كانت "ستّاتيّة" (خاصة بالنساء) في البداية، حيث انتشر العود في أوساط السيدات في الحفلات والمناسبات.
كما لا ينكر بشار الحلبي أنّ الحفاظ على التراث بالنسبة لصناعة الأعواد التراثية هو الحلقة الأصعب، فسرعة الإنتاج باتت مطلوبة للحصول على مردود مادي أكبر، كذلك لاحظ أنّ "رغبة تعلّم صناعة العود لدى الأفراد ضعيفة نسبياً، لأنّها تتطلّب جهداً ووقتاً ودعماً مادياً"، متمنياً في الوقت ذاته أن تنظَّم دورات وفق مناهج محددة من أجل ذلك. في حين يتمنى صانع الأعواد أنطون طويل لهذا التراث الاستمرارية والتشجيع، لأنّ "لآلة العود بصمتها في تاريخ الموسيقى".