الحل المستحيل
مشروع تجزئة الوطن العربي جرى استكماله عبر تدمير ما تبقى مشرقاً ومغرباً، والإجهاز على الدول التي قامت بفعل سايكس/بيكو عبر إغراقها بالحروب الدامية وتدمير نسيجها الوطني والمجتمعي.
في خضم العدوان الإسرائيلي المتمادي على فلسطين ولبنان، عاد الكلام عن "حل الدولتين" كجزرة يتم التلويح بها لمن لم تنفع معه سياسة العصا. علماً أن الأيام علّمتنا أن كل الكلام عن "عملية السلام" ما هو إلا مضيعة للوقت وذرّ للرماد في العيون، ومنح الاحتلال مزيداً من الوقت لتغيير الواقع على الأرض بحيث يصير حلم "الدولة الفلسطينية المستقلة" غير ممكن، وما إقدام "دولة" الاحتلال على حظر وكالة غوث اللاجئين (الأونروا) سوى مسمار آخر في نعش هذا "الحل المستحيل".
على مدى عقود، كانت "إسرائيل" ومن خلفها الولايات المتحدة ودعاة الحل السلمي تخوض المفاوضات من أجل المفاوضات(على طريقة الفنّ للفنّ) لا من أجل "السلام" (في معزل عن معنى هذا السلام). وفي الوقت نفسه، تواصل تغيير الواقع على الأرض عبر بناء المزيد من المستوطنات وقضم المزيد من الأراضي، ومواصلة عمليات القمع والتنكيل بالفلسطينيين.
وهكذا، لم تترك "دولة" الاحتلال خياراً أمام الفلسطينيين سوى المقاومة باللحم الحي والصدور العارية. صبَر الفلسطينيون كثيراً على نكبتهم، منحوا الاحتلال فرصاً لا يستحقها، تنازلوا عن كثير من حقوقهم المشروعة أملاً منهم بسلام مستحيل مع الكيان الغاصب، لكن "إسرائيل" ظلّت على الدوام تتمادى في غيّها وعدوانها، حتى بات واضحاً أنها تسعى إلى منع قيام أي شكل من أشكال الدولة الفلسطينية، مهما كان بسيطاً ومتواضعاً، عبر جعلها (الدولة) مستحيلة على أرض الواقع.
لم تكتفِ بذلك، بل حوّلت حياة الفلسطينيين جحيماً لا يُطاق، في الضفة الغربية بواسطة الجدار والحواجز والمستوطنات والعزل والاعتقال والتضييق، وفي غزة بواسطة الحصار الظالم والعدوان الدائم، حارمةً إياهم من أبسط مستلزمات العيش، ولو في حدوده الدنيا، حتى جاء "طوفان الأقصى" في السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023 وانفجر البركان المكبوت على مدى سنين، لترد "إسرائيل" بجريمة الإبادة الجماعية المتمادية مدعومة من "العالم المتحضر" الذي لا يجد غضاضة في قتل الأطفال الخدّج والرضّع بحجة "الدفاع عن النفس"!
والأنكى أنه، على الرغم من كل ما أصاب ويصيب فلسطين على يد الاحتلال، لا يزال ثمة مَن يلوم الفلسطينيين على ممارستهم أبسط أشكال مقاومة المحتل بكل ما استطاعوا إليه سبيلاً من أدوات المواجهة، علماً أنهم ما عادوا يريدون شيئاً من أشقائهم سوى أن يكفّوا عنهم ألسنتهم وأقلامهم وتغريداتهم المقيتة المقرفة.
هنا، نفتح هلالين لنؤكد أن أخطاء هذا الفصيل الفلسطيني أو ذاك، هنا أو هناك، لا تدين الشعب الفلسطيني برمته ولا تجرّم ثورته ولا تُسقط عن قضيته صفتها العادلة النبيلة. فقط لنتذكر ماذا فعل الاحتلال الإسرائيلي منذ قيام "دولته" الغاصبة، كم ارتكب من مذابح ومجازر، كم شرد وهجّر، كم نكّل وعذّب، كم قتل وجرح واعتقل، كم خرّب ودمر. ساعتها لن يجرؤ أحدٌ على لوم الضحية، وهي دائماً فلسطين وشعبها.
لكن، للأسف، في واقعنا العربي المزري ثمة مَن يُبدّل الوقائع والحقائق منحازاً إلى القاتل على حساب المقتول.
واهمٌ بل آثمٌ مَن يظن أن "إسرائيل" زُرعت في بلادنا كي تعيش بسلام ووئام مع "جيرانها" (هذا لو جارينا المفترضين أن لها حق العيش على أرض فلسطين التاريخية)، إذ لا يمكننا الفصل بتاتاً بين قيام "دولة" الاحتلال وجريمة تقسيم بلادنا إثر سقوط الدولة العثمانية. زَرْعُ "إسرائيل" في قلب الوطن العربي كقاعدة متقدمة للغرب الاستعماري من جملة أهدافه (وهي كثيرة) فصل التواصل البرّي بين المشرق العربي ومغربه وشمال أفريقيا، وبين مصر وبلاد الشام، بكل ما لهذا الفصل من نتائج وخيمة لا يعوضها أي تواصل آخر؛ لأن للتواصل البرّي مفاعيل اجتماعية واقتصادية وثقافية وسياسية لا يمكن تعويضها بأي شكل آخر.
مشروع تجزئة الوطن العربي جرى استكماله عبر تدمير ما تبقى مشرقاً ومغرباً، والإجهاز على الدول التي قامت بفعل سايكس/بيكو عبر إغراقها بالحروب الدامية وتدمير نسيجها الوطني والمجتمعي. فتغيير الخرائط الجاري بالدم والبارود ليس بالضرورة أن يحصل من خلال تغيير الحدود الجغرافية التي أرساها سايكس/بيكو وإنما من خلال ضرب الدولة المركزية داخل تلك الحدود نفسها، وتفتيت وشائج اللحمة الوطنية الواهنة أصلاً بفعل عقود الاستبداد والفساد والتخلف، بحيث تبقى الدولة هيكلاً خارجياً بحدودها المعروفة جغرافياً فيما يكون المحتوى عبارة عن دول غير معلَنة تحت مسمى "المكونات"، أي المكونات الطائفية والمذهبية والعرقية والقبلية والمناطقية وفق طبيعة التركيبة الاجتماعية لكل بلد، وذلك كي لا تقوم للعرب قائمة في المدى المنظور.
في ظل هذا الواقع المأساوي، تواصل "إسرائيل" تحويل الحلم الفلسطيني بالحرية والاستقلال إلى سراب فوق خراب، وتدمر لبنان لأنه تجرأ وقال لا لإبادة الشعب الفلسطيني، ولا يلوح في الأفق أي بصيص لولا الضوء الساطع في أعين أولئك الفتية القابضين على جمر المقاومة في فلسطين ولبنان، فيما بعض الساسة يملأ فراغه أو خواءه بالحديث عن "عملية السلام"، والمفاوضات العبثية و"حل الدولتين" الذي لا يسمن ولا يغني عن مقاومة.