الحرية الاجتماعية أيضاً!

الديمقراطية ليست فقط حرية انتخاب، ترشيحاً وتصويتاً. هذه هامة جداً وضرورية، لكن لا تؤتى ثمارها ما لم يكن ثمة حرية اجتماعية. والحرية الاجتماعية هي حرية الفرد في معتقده ورأيه ونمط عيشه وأسلوب حياته بلا قِوامة عليه من أحد.

"لا يكمن السؤال في تغيير النظام، بل في تغيير المجتمع. أي مجتمع نريد؟"، أدونيس، شاعر سوري.

**

حين تكون معتقلاً أو سجيناً تكتشف أن ما كنت تعدّه بسيطاً وتفصيلاً عابراً في يومياتك هو في الحقيقة أكثر جوهرية من عناوين وشعارات كثيرة. فالتفاصيل اليومية البسيطة والصغيرة لا تكتشف أهميتها وجدواها إلا حين تفقدها.

ثمة أجيال كاملة صرفت ردحاً من أعمارها وهي تنادي بحرية الأوطان والشعوب والمجتمعات. كانت الشعارات الكبرى عناوين دائمة لمسار حياتها، والأحلام المستحيلة هي الهدف المنشود. بعضنا استفاق بعد حين على واقعه المرير، ولم ينتبه أن التفاصيل الصغيرة أولى من العناوين العريضة، وأن بناء الهرم يبدأ من تحت لا من فوق.

ما أن حانت ساعة الحقيقة ورُفِع الغطاء، ولو قليلاً، تحت مُسمّى "الربيع العربي" حتى بان العجب العجاب، أطلت شياطين الفتن بقرونها المسنّنة وعيونها الحمراء موقِدةً نيرانها المستعرة في طول البلاد وعرضها، تهاوت الأحلام الكبرى من وحدة كاملة شاملة تمتد من المحيط إلى الخليج حتى أمست أمنيات بسيطة بوحدة هذه الفئة أو تلك. وبدل إعلاء شأن كل ما يجمعنا ويوحّدنا نبشنا كل ما يفرّقنا ويشتّتنا.

يغيب عن أصحاب الخطاب التكفيري والإلغائي أن النعرات الطائفية والمذهبية لا تهدد الطوائف والمذاهب، بل تهدد الأوطان والمجتمعات؛ لأنها تفتّت النسيج المجتمعي وتفرّق الناس وتولِّد الضغائن والأحقاد وتباعد بين الابن وأبيه والأخ وأخيه، وتترك تصدّعات وفجوات بين أبناء الوطن الواحد من الصعب ردمها بيسرٍ وسهولة.

الواقع أن الطوائف والمذاهب والقبائل والفئات الجهوية والمناطقية تقوى بالنعرات على حساب الوطن والمجتمع. متى شعرت الطائفة أو القبيلة أو الفئة بالخطر والتهديد الوجودي اشتد ساعدها وعصبيتها والتف جميع أبنائها حول بعضهم بعضاً، خشيةَ الخطر الداهم. لكنه في الحقيقة وهمُ قوة، لماذا؟

لأنه كلما تضاعفت قوة الجماعة الفئوية تقلصت قوة الوطن، ولا عاصم للناس غير أوطانهم. تقوى الجماعات فتتنازع وتتعارك وتتذابح معتمدةً سياسة إخافة أتباعها من الآخر لتضمن ولاءهم واستنفار غرائزهم، وكله في النهاية بهتان وخسران للوطن وأهله، وما تظنه الجماعة نقاط قوة هو في الحقيقة نقاط ضعف.

المشكلة ليست في وجود الطوائف والمذاهب، فكل المجتمعات البشرية متشكّلة من نسيج متنوّع إن لم يكن طائفياً أو مذهبياً يكن عرقياً وإثنياً. المشكلة تكمن في النزعات الطائفية والمذهبية والفئوية، التي تجعل من المجتمعات المتنوعة والمتعددة نقمة عِوض أن تكون نعمة. التنوع غنى وثراء على مختلف المستويات، لكن الغرائز والعصبيات تحوّله بركاناً قابلاً للانفجار في كل لحظة، خصوصاً متى وهنت الدولة وغابت السلطة وتفتت الوطن.

قراءةُ تاريخ الأمم والشعوب تعلّمنا التالي: ما مِن جامع مثل الوطن. ويلٌ للشعوب حين تفرِّط بأوطانها، لأنها تتحوّل جماعات متناحرة متعاركة لا ينتج من صراعاتها القاتلة المدمرة سوى خراب الأوطان، كلٌّ يظنُّ أنه ينصرُ جماعته بينما هو في الحقيقة يخذل وطنه، ويجعل المستقبل أكثر حلكةً وظلاماً.

ثمة أغنية شهيرة تقول ما معناه إن مَن أضاع حبيباً يمكن أن يجده، لكن مَن أضاع وطناً كيف يجده. لن نجد أوطاننا ما لم نعقلِن أحلامنا وشعاراتنا، أي أن نُعِيد النظر فيها لاكتشاف مكامن الخلل، إذ من غير المعقول وغير المنطقي أن تتحرر معظم شعوب الأرض، وتتقدم وتتطور وتصنع نهضتها فيما نبقى في داحس والغبراء بين مطرقة الاستبداد وسندان الفوضى والمذهبيات القاتلة، وكأن لا خيار لنا سوى المرّ أو الأمرّ منه.

عقود كاملة من أعمارنا ذهبت هدراً ونحن نلهث وراء سراب وأضغاث أحلام، لذا تبدو إعادة النظر واستخلاص العِبر ضرورية جداً وملّحة وعاجلة، لا لأجلنا فحسب بل لأجل أبنائنا وأحفادنا وأجيالنا القادمة كي لا تلعننا ويلعننا معها التاريخ الذي لا يرحم مَن لا يتعلم منه.

نؤمن أن الحرية شرط تقدّم الأمم، حرية التفكير والتعبير والابتكار والاستنباط، وهذه تبدأ من تفسير النص الديني وتأويله ولا تنتهي في مناهج التربية والتعليم. الحرية ليست شعاراً فحسب، ليست قصيدة وأغنية وتظاهرة وهتافاً ولافتة تُعلَّق في ساحة عامة. هي كل هذا نعم، لكنها أولاً حرية التفاصيل اليومية البسيطة التي نعدّها تحصيل حاصل أو لزوم ما لا يلزم.

هذه حقيقة يدركها جيداً من اختبر تجربة السجن والاعتقال، حرية أن تنهض في الصباح وتقرّر أنت لا سواك أتحتسي القهوة أم الشاي؟أترتدي الأبيض أم الأسود؟ أتسمع الموسيقى أم نشرة الأخبار؟ أتصلي الجمعة أم الأحد؟...إلى آخر الخيارات التي يواجهها الإنسان في حياته اليومية. حرية الوطن تبدأ بحرية المواطن، وحرية المجتمع تبدأ بحرية الفرد. الفرد نواة الجماعة، والحريّة الفردية هي المدخل إلى الحرية الجماعية. لا يمكن أن يغدو المجتمع حراً ومتقدماً ما لم تتحقق فيه أولاً حرية الأفراد.

الحرية الاجتماعية توازي الحرية السياسية إن لم تكن تضاهيها.

الديمقراطية ليست فقط حرية انتخاب، ترشيحاً وتصويتاً. هذه هامة جداً وضرورية، لكن لا تؤتى ثمارها ما لم يكن ثمة حرية اجتماعية. والحرية الاجتماعية هي حرية الفرد في معتقده ورأيه ونمط عيشه وأسلوب حياته بلا قِوامة عليه من أحد. شرط الوصول إلى هذه الرتبة من الحرية الاجتماعية يعيدنا إلى المربع الأول: الوعي.

لا يمكننا تحقيق كل ما تقدَّم بلا وعي، ولا وعي بلا معرفة ولا معرفة بلا ثقافة. تحقيق مجتمع مثقف يعني أولاً أفراداً مثقفين، هنا نعود إلى مناهج التعليم وضرورة تحديثها وعصرنتها وتخليصها من شوائب التلقين، وحثّ التلامذة منذ صغر سنهم على البحث والشك وطرح الأسئلة وعلامات الاستفهام، وعدم الخوف من الجديد والانفتاح على الآخر، وعدم رفض المختلف، فكراً وعقيدة وجنساً ولوناً وطبقةً وعرقاً، وطبعاً لا يتوقف الأمر على مناهج التعليم بل يتطلب مشروع تنمية بشرية واجتماعية شاملة.

بغير ذلك سنظل طوائف ومذاهب وعشائر وفئات تتصارع فيما بينها وتتقهقر إلى جاهلية أين منها الجاهلية الأولى. متى احترمنا الفرد كإنسان في معزل عن دينه ورأيه وجنسه وجنسيته وعرقه ولونه وطبقته ساعتها نكون قد وضعنا اللبنة الأولى في عمارة الأوطان الصالحة للعيش.

الحرية حق كل إنسان أنّى وأينما كان، لكن الطريق إلى الحرية محفوفة بالمخاطر ومزروعة بالألغام. كي نكون أحرار حقاً علينا الإيمان بحق الآخر في الحرية. لا حرية حقاً بلا حرية الآخر، سواء كان هذا الآخر فرداً أو جماعة. حين تنكر على الآخر حقه في الحرية تتحوّل تلقائياً إلى مستبد. والاستبداد الاجتماعي لا يقل خطورة عن الاستبداد السياسي، إن لم يكن أشد وأدهى.