التكافل اللبناني والوحشية الإسرائيلية

ما ينبغي إعماره بعد انتهاء العدوان ليس فقط القرى والأحياء والبيوت المهدمة، ومواساة المكلومين، بل أيضاً إعادة إعمار الوجدان العام، وترميم الوحدة الداخلية، وحسم الكثير من القضايا العالقة والنقاط الملتبسة.

  • كشف المجتمع اللبناني عن معدن أصيل في التكافل والتعاضد والتضامن (أ ف ب)
    كشف المجتمع اللبناني عن معدن أصيل في التكافل والتعاضد والتضامن (أ ف ب)

لم يتعرض مجتمع أهليّ لما تعرض له المجتمع اللبناني على مدى 50 عاماً وأكثر. منذ العام 1975، على الأقل، تتوالى الحروب والأزمات، وتتناسل بعضها من بعض، علماً أن ما قبل ذاك العام لم يكن أحسن حالاً، إلا في مناطق معينة مثل العاصمة بيروت وجبل لبنان، فيما المحافظات الأخرى، لا سيما الأطراف، مثل الشمال والبقاع والجنوب، كانت مهملة ومحرومة ومتروكة لمصيرها. الأمر الذي أدى لانفجارات اجتماعية وسياسية تسببت مع عوامل إقليمية ودولية بانفجار "حرب أهلية" استمرّت لمدة 15 عاماً متواصلة.

وهكذا، ما لم تقوَ عليه العدوانات الإسرائيلية المتتالية منذ نشوء كيان الاحتلال في العام 1948، تكفلت به الحروب الداخلية والأزمات العاصفة. أما فترات الراحة والهدوء النسبي فكانت عبارة عن استراحة بين حربين أو بين أزمتين. ولو راجعنا التاريخ اللبناني الحديث لتأكد لنا أنه كل عقد تقريباً تنفجر أزمة ما.

رغم هذا الواقع المزري، الناجم أساساً عن خلل بنيوي في تركيبة النظام الطائفي المنتج دائماً للمشاكل والأزمات، يكشف المجتمع اللبناني عن مقدرة هائلة وعجيبة تجعله قادراً على الاستيعاب والتكيّف، فضلاً عن التأقلم مع واقع الحال. نقول التأقلم مع الإدراك لمخاطر التأقلم المانع للرغبة في تغيير واقع الحال، ولهذا بحث آخر.

ما يهمنا الآن هو ما كشفه العدوان الإسرائيلي الراهن ضد لبنان. إذ على الرغم من ضراوة الأزمات الاقتصادية والمالية والاجتماعية التي ضربت المجتمع اللبناني في السنوات العجاف الأخيرة، ولم يتعاف منها حتى الآن، مضافاً إليها النتائج الكارثية لجريمة تفجير مرفأ بيروت، وعلى الرغم من التشظي السياسي والخطاب الطائفي المقيت والممجوج، والعجز الرسمي عن مواكبة نتائج العدوان. رغم كل ذلك كشف هذا المجتمع عن معدن أصيل في التكافل والتعاضد والتضامن.

لا نعير اهتماماً لبعض الأصوات المريضة الناشزة التي تستغل العدوان الإسرائيلي الوحشي والمدمّر كي تُخرِج ما في دواخلها من قيح وقيء، ونتوقف بإعجاب وإجلال عند هبّة المناطق اللبنانية كلها وبشرائحها كافة لاستقبال النازحين قسراً من بلداتهم وقراهم المُستهدَفة بالغارات الإسرائيلية الوحشية، وتقديم كل أشكال الدعم والمساندة.

هذا الواقع إن دلّ على شيء، فإنه يدلّ على الفطرة الإنسانية السوية السليمة، التي على الرغم من كل ما أصابها، لا تزال، ساعةَ الحقيقة وفي اللحظات الحرجة، تنتصر لسويتها وإنسانيتها، وتتجاوز المسائل الخلافية درءاً لما هو أدهى وأخطر في حال تمكّن المحتل من رش بذور الفتنة والشقاق، وهذا ما تعلّمه اللبنانيون بالتجربة والبرهان، خصوصاً إبّان الغزو الإسرائيلي للبنان في العام 1982، والنتائج الكارثية التي خلّفها وراءه. وكذلك ما فعله بعملائه لحظة تحرير الجنوب في العام 2000، حين تركهم وراءه كالجراء الجربانة المرمية على قارعة الطريق.  

ما يسلكه اللبنانيون في الظروف الصعبة واللحظات المصيرية يبرهن أنه لو توفر خطاب سياسي وإعلامي إيجابي وموحِّد لكانوا عرفوا كيف يرتبون حياتهم ويديرون أمورهم وينظمون خلافاتهم، لكن مصيبتهم أنهم عالقون في براثن "زعامات" وقوى سياسية لا تقتات إلا على خطاب الكراهية والبغضاء والشرذمة.

ومع ذلك، وبعد سنوات من بث سموم الطائفية والمذهبية والتحريض على الشقاق والفتن، وفي لحظة الحقيقة، تنتصر فطرتهم الإنسانية السليمة المنحازة بطبيعتها إلى رفض الظلم ومناصرة المظلوم وبلسمة جراحه.

وفيما يُسجَّل غياب معيب ومهين لكثير ممن يُطلق عليهم تسمية مشاهير (لنا عودة إليهم)، تبادر نخبٌ كثيرة ومن كافة الميادين إلى إعلاء الصوت ومد يد العون واحتضان المواطنين النازحين. هنا تجدر  الإشارة إلى الموقف المتقدّم والمبادر للأستاذ وليد جنبلاط الذي كان له السبق في إدانة العدوان وشدّ أزر التكافل اللبناني، منحياً الخلافات السياسية جانباً، قافزاً فوق تصدعات الماضي القريب، مدركاً خطورة المرحلة المصيرية التي يمرّ بها لبنان.

هذه المواقف الوطنية الشجاعة في خضم العدوان الإسرائيلي المدمر على لبنان، وفي غمرة ما يسطّره المقاومون من ملاحم بطولية على طول خط الجبهة الجنوبية، ويُحبطون بإرادتهم الصلبة وعزيمتهم الثابتة وببركة دمائهم ونُبل تضحياتهم، أخطر مشروع صهيوني تواجهه المنطقة، تستدعي ملاقاتها بعد انتهاء العدوان بما يساهم في تضميد الجراح وتجاوز الانقسامات تحصيناً للوضع الداخلي المقبل على تحديات كبيرة وكثيرة، في مقدمتها عودة النازحين وإعادة الإعمار.

وما ينبغي إعماره بعد انتهاء العدوان ليس فقط القرى والأحياء والبيوت المهدمة، ومواساة المكلومين، بل أيضاً إعادة إعمار الوجدان العام، وترميم الوحدة الداخلية، وحسم الكثير من القضايا العالقة والنقاط الملتبسة في الدستور والعرف وفي الممارسة السياسية على السواء، والتأسيس لعقد اجتماعي متين غير قابل للانفجار كل حين.

في السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023 أعلنت كتائب القسام معركة "طوفان الأقصى"، فاقتحمت المستوطنات الإسرائيلية في غلاف غزة، وأسرت جنوداً ومستوطنين إسرائيليين. قامت "إسرائيل" بعدها بحملة انتقام وحشية ضد القطاع، في عدوانٍ قتل وأصاب عشرات الآلاف من الفلسطينيين.