“أكتبني ... حين أحببتني” … قراءة سوسيولوجية لكتاب سحر نبيه حيدر
سحرتنا سحر حيدر بانسيابِ كلماتِها ومعانيها ومقاصِدِها مع صحوِ قُلوبِنا على خواطرَ تحاكي قِصصًا اجتماعيةً أرادت من خلالها كشفَ الأقنعةِ التي تختبئُ خلفَها مجتمعاتٌ ممزّقةُ الهُويةِ وهجينةُ البِنية.
حينَ قرَّرَتِ الدكتورة الشاعرة سحر نبيه حيدر أن تكتبَ كما قالت ما عاشتهُ وعايشتهُ وكانت شاهدةً عليه، خطّتْ حروفُها ما استرجعتهُ من ذاكرتِها، ماضيها وحاضِرهِا، فكان مولودُها "اكتبني ... حين احببتني". نتاج اجتمعَ فيهِ سردٌ مزدوجُ المسار بين كتابةِ مذكِراتٍ أو خواطرَ منثورةٍ تختزنُ حكاياتٍ حبٍ وعشقٍ متنوّعةٍ تعيشُها بعضُ النساءِ في مجتمعٍ ذكوريٍ كما صوَّرَتهُ وأظهرتهُ الكاتبة.
تروي حيدر حكاياتِ الألمِ الأُنثويِ ــــــــــ ببُعدِهِ النفسي حينًاً والجنسي أحيانًا ـــــــــــ الذي تعانيه بطلاتُ مولودِها الذي أرادتْه، بلغةٍ جذّابةٍ وجاذبةٍ وجريئةٍ في آن، وبأسلوبٍ مرهف وبمفرداتٍ مباشِرةٍ حاكتها الكاتبة فأنطقت الجسدِ بما يختلجُهُ مِن مشاعرَ إنسانيّةٍ قد تصلُ حدَّ الصدمةِ للذهنيةِ التقليدية في التعبير عن الرغبة والعشق الأنثوي للرجل، فنجدها تقول "... ها هي تسكر من وجد طال انتظاره، طالما تاقت روحها إلى تلمّس شفتيه... تانك الشفتان الحارقتان، تلسعان جلدها وتلهبان الرماد غير المحترق" و"... يروّعني توق إلى احتضانك، ما دمت أحيا. إلعب كما تشاء، أحرث بيادري، أدهشني بوجودك الغضّ. وأنا، منذ ابتداء الوقت، أتلهّف لاحتضانك..." (من "ضجيج الصمت" ص. 43 من الكتاب).
يختزنُ هذا المولودُ أكثرَ من قصّةٍ وحكاية، وأوّلُ هذه القِصصِ والحِكاياتِ نبحر معها في عُبابِ الغلاف الذي ينقلنا إلى عوالمَ متباينةٍ حينًا ومتشابهةٍ أحيانًا، عَكَسَتها صُورٌ لوُجوهٍ غيرِ واضحةٍ، موَّجَتها ألوانٌ متداخلة وتعابيرُ تَكادُ تتلاشى. وجوهٌ شاحبةٌ وأخرى حالمةٌ تُخفي خلفَها أكثرَ من بُعدٍ ومعنىً ودلالة، حزنٌ وفرح، انكسارٌ وضَياع، تعجُّبٌ وبؤس، وربما أكثرُ وأبعدُ من ذلكَ كلِّه.
من هنا كانت البداية. البدايةُ التي أطَّرَت فيها سحر حدودَ مولودِها، الذي أبرزَ لنا سحرَ الوالهةَ، والعاشقةَ، والمتمرّدةَ، والخاضعةَ والرافضةَ في آن، إذ تبوح "ويح قلبها من عينيه، كالرصاص قتلتا موتها البطيء، أعادتا إلى أطرافه المتجمّدة كل لهب ... آه من شفتيه الغضّتين، اللتين ما زال طعمُهما يراودها عن نفسها، حين تهجرها سكينة الحياة ... (من "صباحُك .. وأمل الغد" ص. 20 من الكتاب).
سحرتنا سحر حيدر بانسيابِ كلماتِها ومعانيها ومقاصِدِها، ليس فقط عندما التقى الساكنانِ، بل مع صحوِ قُلوبِنا على خواطرَ تحاكي قِصصًا اجتماعيةً أرادت من خلالها كشفَ الأقنعةِ التي تختبئُ خلفَها مجتمعاتٌ ممزّقةُ الهُويةِ وهجينةُ البِنية.
في خوابيها المعتّقةِ طالعتنا امرأةُ الوعدِ الحرّةُ المنسوجةُ من الأُنوثةِ القادرةِ على قهرِ الرجالِ كما أرادتْها. فتحدَّت بهذهِ المرأةِ حُلُمَ كلِ امرأة، فلم أدرِ أهيَ بطلةُ قِصَّتِها أم أنّها أَلبَسَت كلَ بطلةٍ من بطلاتِها لَبوسَ مَشاعِرها، لنجدَ أنّنا أمامَ امرأةٍ باحثة، بل لاهثةٍ خلفَ عِشقِ رجلٍ من دونِ أن تصلَ مبتغاها. وهنا أقتبسُ من الكتابِ إذ تقول "هيَ أنثى واحدةٌ تختصرُ جميعَ النساء تناضلُ وسَطَ مجتمعٍ مرصّعٍ بالزَّيف"(في بوح "امرأة الوعد" ص. 16 من الكتاب).
أبحرت حيدر بنا في سُفُنِ نساءٍ مجبولاتٍ بالرِقّةِ حينًا ومتواطئاتٍ أحيانًا، لترسوَ بنا عندَ موانئِهِنَ المُهمَّشَة، حيثُ تصِفُهُنَّ قائلة "خاطت لقدرها، ثوبًا لم تلبسهُ من قبلُ امرأةٌ... إمرأةٌ تعرفُ حقًا ما تريد... اللا". (في "امرأة الوعد..." ص. 17 من الكتاب)، وهنا صرخةٌ لرفضِ ما سَمَّته "شعوذاتِ "نساءِ التنّور" اللواتي اغتسلنَ في ذُكورةٍ مزيّفةٍ، وحمتْ صدأَ عقولهِنَّ مآسٍ مُستفحِلَة. فقِصصهُم لا تحملُ سوى خيالاتِ واقعٍ علت جدرانَهُ دماءُ عذارىً باكياتٍ فوقَ مذابحِ الوعدِ الكاذبِ بالنجاةِ والوجودِ والاستقرارِ ولقاءِ الذاتِ وأمنٍ لم يأتِ" (في "امرأة الوعد..." ص. 17 من الكتاب).
في هذا المورد تنقلُنا سحر إلى واقعٍ موجودٍ في بيئاتٍ ليست بالقليلة، تُربّى الفتاةُ فيها بانتظارِ الرجلِ الموعودِ الذي سيُحقِّقُ أحلامَها وينقلُها إلى عالمٍ دُسَّ عنوةً في خيالِها وقد لا يُلامسُ الواقعَ قط.
هكذا تُربّى فتياتٌ على الأحلامِ بمستقبلٍ واعدٍ وجميلٍ مِحوَرُهُ الرجلُ اللاهثُ لإسعادِهِنَّ كونَهُنَّ المخلوقَ الذي لن يُحقِّقَ وجودَهُ وكيانَهُ وسعادَتَهُ إلاّ بالاتكاءِ على رجل، فوجودُهُ "رحمةْ ولو كان فَحمَةْ" حَسَبَ المثلِ الشعبيِ المتوارَث.
سعادةٌ يصنعُها لها فارسُ أحلامٍ كان يأتيها على ِ صهوةِ حِصانٍ أبيضَ فغدا يأتيها على يَختٍ أبيضَ، يمخُرُ عُبابَ بحر أحلامِها لتتكسَّرَ أمانِيُّها عندَ ارتطامِها على خشبةِ مسرحِ الحياة، حيث تقول "أحبّته، بعفوية المراهقة التي ما برحت تحلم بأميرٍ يرفعها فوق حصانه الأبيض. لطيمٌ، كبرت وأينعت، من دون سند. حلمت بفارس مقدام، يُسكنها قصرًا خلف الريح التي هدمت قصورها الرمليّة، علّها معه تأمن غدر القدر، تقتل الجوع الغاشم الذي ذهب أبدًا بآمالها، وكأن لا عودة..." (في "مراهقة... وحسب" ص. 79 من الكتاب).
لذلك وغيره، تُطلق حيدر صرختَها لرفضِ هذا الواقعِ بالتحريضِ على الرفضِ بفعلِ اللا، وبالدعوةِ إلى بناءِ الذاتِ وخوضِ المحاولاتِ وعدمِ الاستسلام، ومعَ ذلكَ نرى بطلة كل قصة مسجونةٍ إلى حدٍ بعيدٍ خلفَ قُضبانِ هذا المجتمعِ الذكوريِ الذي وصفتهُ وحاكت شرنَقَتَها بنفسِها فسَجَنَت ذاتَها داخلَها.
كثيرة هي المواقع التي ترجمت هذه الأحاسيس على صفحات الكتاب، ومنها "إنهل ما شئت، وتذوق فاكهة أينعت، رصدتُها في خوابٍ معتّقة، لشاربٍ نهمٍ يعلّ الكأس بلهفة المغوار العائد من خلف الأفق" (في "هو وهي .. حوار الأزل" ص. 19 من الكتاب).
وعلى الرغمِ من ذلك، يَظهرُ كتابُ "أكتبني .. حين أحببتني" للشاعرة سحر حيدر، مرتكزًا من مُسلَّمَةٍ ترى أنّ المرأةَ ما زالت مضطَهَدَةً من قِبَلِ نظامٍ بطركيٍّ يتعامَلُ ويعمَلُ وَفقَ ما يَظُنُّهُ حقوقًا وسلطاتٍ شرعيةً ممنوحةً للرجلِ، ولكن يلتزمُ بها الرجالُ والنساءُ على حدٍ سواء. وفي ذلك تقول "وهي، مراهقةٌ، شرّعت أبوابها ... تلبسه طوقَ ياسمين حَبَكَته بالدمعِ، وتفرش عند قدميه العاريتين إلاّ من اللذة سكبَ أنوثتها المتّقدة، وتنسى أنّه غافل وعيها يومًا، وخطف السكينة... أتحبّه، ربما! أيُحبّها؟ لا تعلم!!! لا تريد أن تسأل. تكتفي بعودته، وتنتشي بغمرة اللقاء... (في "الحلم المستحيل" ص. 41 من الكتاب).
لا يتوقّفُ العنفُ الذكوريُ الذي تعرَّضَت له بطلاتُ قِصصِ حيدر عندَ هذا الحدِّ فَحَسْب، إنّما يتعلّقُ بسِلسلةٍ مترابطةٍ من القمعِ والسيطرةِ والاستغلالِ ومصادرةِ القراراتِ وُصولاً إلى خيانةِ الذاتِ كما الشريكِ الزوج، وكيف لا وهيَ التي وقعت ضحيةَ مجتمعٍ كَبَّلَها بتُرَّهاتٍ وحركاتٍ وسكناتٍ حاصرتها فخلَّفَت ذاتاً متكسرّةً ومنكسِرةً في آن، وكيفَ لمُحطَّمَةٍ أن تتسلَّقَ أسوارَ الخوفِ بحثًا عن جرأةٍ تتخطّى الحدودَ لتصلَ أحيانًا حدَّ فعلِ الخيانة، كما رمت بالقول "بين عمرٍ وحنين تسرح، تمشّط الأرض الخصيب، وتتذوّق الإثم الجاري خلف اللقاء..." (على وقع "أنشودة" ص. 35 من الكتاب).
وما بينَ الخيانةِ الرمزيةِ والفعليةِ التي صوّرتها لنا الكاتبةُ، نراها تُصرّح بواسطةِ بطلاتِها عن عشقٍ لم يسكُنها مع من اغتصبَ جَسَدَهن الباردَ الذي ألهبَهُن، عِشقٌ أعاد إليها نبْضَ حياةٍ على وقعٍ تِيهٍ أوقعهن في غيابةِ الوعدِ الآتي ولو على شكلِ خيانة، خيانةٍ رغمَ بشاعتِها برَّرَت ارتكابَها بظمأٍ لن يَرتويَ بعدَ عَناءٍ إلاّ بهذهِ النتيجة.
نتيجةٍ انتهجنها كردِّ فعلٍ على ما تعرّضنَ له من عنفٍ مجتمعيٍ متعدّدِ الأوجهِ، يبدأُ من الصورةِ التي يُحدِّدُها المجتمعُ للأنثى، ولا ينتهي معَ عنفٍ ذكوريٍ عايَشنَهُ فأفرزَهُنَ أشباهَ نساءٍ حالمات.
تختالُ الكاتبةُ الأديبةُ والشاعرةُ على صفحاتِ مولودِها هامسةً حينًا ومستحيِيَةً أحيانًا، موجّهةً لومَها واتهامَها للرجلِ الباحثِ دومًا عن لذّةٍ يريدُها غيرَ آبهٍ سوى بوصلٍ يُمسكُ هو بخيوطِ اللعبةِ ويحرّكُها كيفما يشاء. "كبرياء، غرورٌ أزلي يحكم قلبه، أم ثقةٌ زائدة بما تحمله، هي، في قلبها؟! وحده، يمسك خيوط اللعبة ويحرّكها كيفما يشاء" (في "دبّة نملة !!!" ص. 28 من الكتاب).
تشبيهُ هذه العَلاقةِ باللعبةِ تشبيهٌ ينقُلُنا إلى عالمِ الربحِ والخَسارة، فيه منتصِرٌ ومهزومٌ وربما تعادُلٌ. ينتصر في هذه اللعبةِ من يتحكّم بمفاصِلِها. وعلى الرغم من ذلك يترُكُ اللاعبُ الأوّلُ دبيبَ نملةٍ يُخرِجُ ما تشعُرُ به كاتبَتُنا إلى النورِ بصراحةٍ تحكُمُ فيها على غالبيةِ الرجالِ ببراعةِ "استدراجِ قلوبِ النساءِ بواسطةِ كلامٍ مزخرفٍ منتقىً يلُفُّهُ الإعجابُ والوَجد" (في "دبّة نملة !!!" ص. 28 من الكتاب).
هنا تعود سحر لتُظهرَ لنا ضَعفَ المرأةِ اللاهثِ أبدًا إلى حُظوةٍ لدى ولو طيفِ رجل، ضَعفاً يتلطّى خلفَ حُلمٍ خجولٍ لا يتحقَّقُ إلاّ من خلالِ وصلٍ بعدَ انقطاع، تتيهُ فيهِ فتسترجعُ أُنسَها وأنوثَتَها حتى الذوبان. ذوبانٍ له وجهانِ أو بُعدانِ: بعدٌ يدُلُ على ضَعفِ النساء، وبعدٌ يدُلُ على الانقيادِ إلى مشاعرَ ناتجةٍ عن رغبةٍ في إحياءِ قُشعريرةٍ طال سُباتُها، فليسَت مُهِمَّةً تَبِعاتُها، بل لترويَ ظمأً أحرقتهُ عَلاقةٌ ساخنةٌ يتراءى للمرأةِ أنّه حُبٌ وصَّفَتهُ بهُيامِها فلم تُصِب أبعادَه.
بطلاتُ قِصصِ سحر نائماتٌ، مُغتَصَباتٌ، مسلوباتُ الإرادةِ والقرار، غافلاتٌ، أحياءٌ كالأمواتِ. ينتظرنَ، يحلُمنَ أو يَتُقنَ إلى قِيامةٍ تُعيدُ إليهِنَّ حياةً رَسَمنها في خيالاتِ عِشقِهِنَّ التائهِ دومًا في هاويةِ ساحرٍ يسكُبُ في فكرِهِنَّ وعقلِهِنَّ كما على أجسادِهِنَّ ما يتراءى لهُنَّ سكرةً تُنبِضُ قلوبَهُنَ التائهةَ واللاهثةَ عبثًا وراءَ نشوةٍ وصفتها بالحَمقاء، "هدأت عاصفتي... نام موجي وتقوقعت خلف وحدتي خلف دفئكَ. نسيت أنّني لا أملك سوى لحظاتٍ. لحظات نشوةٍ حمقاء تخيط لوجودي خِمارًا من خجلٍ وقح." (في "دهشة!" ص. 36 من الكتاب).
بطلاتُ قِصصِ "أكتبني .. حين أحببتني" يتأرجحنَ أيضًا بين الخوفِ والخضوعِ تارةً، وبينَ الجرأةِ والجنونِ طورًا. تدفعُهُنَّ بكاملِ قدرتِها إلى التحليقِ بجنونٍ كي يتحقَّق حُلمُهنَ، وكأنَّ الأحلامَ لا تتحقّق سوى بالجنون.
يسكُنُ قلبَ وفكرَ سحر حيدر في وعيِها كما في لا وعيِها، هاجسُ تربيةِ الأنثى المرتبِطِ بحبلِ سرّةِ رجلٍ ذكوريٍ غيرِ أمينٍ يخدعُها فتسلّمُهُ ذاتَها، فلا يتورّعُ عن سَرِقةِ حُلُمِ حياتِها والدَوسِ على آمالِها. ذكرٍ يُمعِنُ في أَسرهِا وانكسارِها كما في إذلالِها واستعبادِها وتقييدِها بأصفادٍ رضيت بها. فتراجَعَت عن هذا الرضى برِضاها وسارعَت إلى تحميلِهِ مسؤوليةَ استسلامِها وخضوعِها كما خنوعِها.
صرخةٌ ربما أرادتِ الكاتبةُ أن تُظهِرَ بها تلكَ الصورةَ النمطيةَ الراسخةَ للغايةِ فيما خصَّ العَلاقةَ الجنسيةَ بين الرجلِ المسيطرِ والمرأةِ الضعيفةِ الخاضعةِ لرغباتِهِ وهيمنتِه. أرادت ربما أن تجذِبَنا بأُسلوبِها الساحرِ كاسمِها، لتقولَ: في هذه البيئاتِ وهذهِ المجتمعاتِ التي خَبِرتُ وعشتُ وعايشتُ أنظروا إلى هشاشةِ الصورةِ ليسَ فقط على المستوى الفرديِّ وإنَّما على الصعيدِ الاجتماعيِّ العامّ، فذكرت "تبحث عن صورتها تحت قدميه، عند أقدام مجتمعٍ يرفض أن تكون غير ما تربّت عليه "أنثى... ولا شيء غير أنثى"" (في "عنها أكتب!" ص. 75 من الكتاب).
دعتنا سحر هنا، برقّةٍ وعُذوبةِ الى البحثِ في هذه الأوراقِ المتفلّتةِ هنا وهناك. دعتنا إلى البحثِ في ارتداداتِ هذا التعثُّرِ التائهِ لدى هؤلاءِ النسوةِ اللواتي يَحيَينَ بينَ أشلاءِ رجالٍ دُمِغَت في ذاكرتِهِنَّ زوايا سوداءُ كالتي استعرَضنا وربَّما أكثر.
ليست الكلماتُ التي خطّت حروفَها وسكناتِها الكاتبة في هذا السياقِ مجردَ خطابٍ لُغويٍ إخباريّ. بل هيَ خزانٌ للرموز ولدلالاتِ الهُوِياتِ المتكاملةِ في شخصياتِ قِصَصِها. فنجدَ أنفسَنا أمامَ خزانٍ للرموزِ يكشِفُ عن تمثُّلاتٍ اجتماعيةٍ تؤكّدُ بناءَ الفردِ جِنسيًا على أساسٍ جندريْ، وتُظهرُ ما يسودُ في المخيالِ الاجتماعيِ من صُورٍ جنسيةٍ تُسهِمُ في بناءِ الهُويةِ الجنسيةِ وتَحديدِ مفاهيمِ الذكورةِ والأنوثةِ اجتماعيًا، فتسرد في هذا السياق "تقف اليوم مضطربة الفكر، وسط مجتمع أتقن فنّ الأنوثة البحت وراح يدير الخيوط كيفما يحلو له، يسيّج جدران الحياة الزوجية بأسوار وهمية، يعتبرها كثيرون أعرافًا وتقاليد..." (في "لقاء بارد" ص. 82 من الكتاب).
ربما أرادتِ الكاتبةُ أن تُرِيَنا في هذهِ الصُوَرِ المتدفّقةِ والآسرةِ في آن، وأقولُ ربما أرادت أن تَلفِتَنا إلى أنَّ ضحايا بَطلاتِ قِصَصِها لسنَ فقط هنَ الضحايا، بل كلاهما معًا هوَ وهي. الضحيتانِ اللتان أفرزَهُما واقعٌ مجتمعيٌ غيرُ مبالٍ بحصادِهِ الذي يُنتِجُ حالماتٍ لم ينضُجنَ وإن تقدَّمَ بِهِنَّ العُمُر. وفي ذلك تشير "إنّها امرأةٌ، أنموذجٌ لبق، وجودٌ منسي خلف ستائر شرقية مهترئة، غير أنّها ليست وحيدة فوق هذا المركب. سبقتها كثيرات، وسوف تلحق بالركب أيضًا كثيرات..." (في "لقاء بارد" ص. 83 من الكتاب).
واقعٌ مجتمعيٌ غيرُ مبالٍ بحصادِهِ الذي يُنتجُ منكسراتٍ لم يتمكَّنَّ من تحريرِ أنفُسِهِنَّ من أصفادٍ صَنَعْنَها هُنَّ بأيديَهُنَّ وطوَّقنَ بها أعناقَهُن. واقعٌ مجتمعيٌّ غيرُ مبالٍ بحصاده الذي يُنتِجُ محطّماتٍ يَنزِعُ عنهُنَ اسمَهُنَ ورسمَهُنَ وطيفَهُنَ وأحلامَهُنَ وكلَ ما يتراءى لكم، أو يخطُرُ ببالِكُم. "حملتها الأقدار صوب المجهول، ضحيّة مجتمع ما زال يتزيّا بصور الماضي ويكتحل بسواد أمسٍ آفل غابت معالمه. ضحيّةُ تربيةٍ صارمةٍ ألغت فيها الأنوثة، وأدتها، حتى باتت صورة المرأة في عينيها، أنموذجًا للفتنة وأمرًا مشينًا..." (في "عنها أكتب!" ص. 74 من الكتاب).
وبما أنّ الصورةَ ليست على الدوامِ انعكاساً مُطلقاً للواقِع، بل هيَ نَسَقٌ تصوُّريٌ يُطوِّرُهُ الإنسانُ وينسِبُهُ إلى ذاتِهِ أو إلى الآخر، ثَمَّ يَخضَعُ في تركيبِها لِمتغيّراتٍ مكانيةٍ وزمانيةٍ وتاريخيةٍ وثقافيةٍ ونفسيةٍ واجتماعيةٍ نُدرِكُها عندما نغوصُ بين دَفَّتَي الكتاب.
وهنا أرى أنّ الكاتبة حاولت أن ترفعَ لنا السِتارةَ عن هؤلاءِ الضحايا المحمَّلينَ بِثِقَلٍ يعكِسُ تحتَ وَطأتِهِ الصورةَ الخادعةَ والمخادِعَةَ والمخدوعةَ في آن. فيُصبِحُ هو مجرّدَ ناهلٍ يُسطِّرُ نَزَواتِهِ على حِسابِ العذارى، وترزَحُ هي تحتَ وطأةِ آلامِها المحمَّلَةِ باشمئزازِ كلماتِهِ ونظراتهِ ولَمَساتِهِ. فتتكشّفُ أمامَها ذاتُها التي تهرُبُ منها إلى الأمامِ مثقلةً بالحسرةِ والتِيهِ والألمِ المتأتي من غياهبِ وَحدَتها، مكتنزةً أوجاعًا وعثراتٍ ملأت خزائِنَها بعدَ تسديدِ فواتيرِ أحلامِها المضرّجةِ بدَمِها ومشاعِرِها المكبوتةِ على مذبحِ الحبِ والوَلَه.
والحبُ هنا لا يُشبِهُ الحبَ الذي يلُفُّ مشاعرَ كاتبتِنا. الحبُ الذي تَلفِتُ إليهِ وتلفُظُه هوَ الحبُّ الاستهلاكيُّ الذي غدا ظاهرةً، ومشكلةً اجتماعيةً معقّدةً تؤثرُ سَلبًا على تحقيقِ الأمنِ النفسيِ والإشباعِ العاطفيِّ، فتنشرُ حالةً من انعدامِ الثقةِ والاغترابِ الوجوديِ، وهو ما يُعَدُ حَسمًا من أرصدةِ أيِ مجتمعٍ بشري.
من الأهميةِ التي يتطرَّقُ إليها الكتابُ، إثارتُهُ لقضايا وموضوعاتٍ حسّاسةٍ في مجتمعاتٍ عربيةٍ يُعتبَرُ الحديث عن الجنسُ فيها من التابوهاتِ التي يحرُمُ أحيانًا الخوضُ فيها أو تناولُها. لكنَّ المتمعِّنَ الباحثَ عن المقاصدِ والدلالاتِ بينَ الحروفِ وخلفَها في هذا الإصدار، لا بدَّ أن يرى في العَلاقاتِ الجنسيةِ السائدةِ ضمنَ مجتمعاتِنا شأنًا يتعدّى الجنسَ ليكونَ على صلةٍ قويةٍ بقضايا أساسيةٍ ترتبطُ بالتربيةِ، والحقوقِ، والهُويةِ، والكبتِ، والقهرِ المجتمعيِ والتنميطِ وغيرِها من المسائل.
دعوني أخبِرُكُم أمرًا اكتشفتُهُ وأنا أغوصُ بين صفحات "أكتبني .. حين أحببتني"، سألتُ نفسي غيرَ مرّة، نحن أمامَ بطلاتٍ تائهاتٍ من دون أسماء، لماذا يا ترى؟! وحاولتُ أن أجدَ الإجابة. ربَّما لأنّ سحر أرادت عن قصدٍ، إطلاقَ العِنانِ لكلِّ من يقرأُ بين دَفَّتيهِ، أن يُسقِطَ اسمَهُ وواقِعَهُ على بطلةٍ من بطلاتِها. جوابٌ أضعُهُ بين يدي الكاتبة علَّني أكونُ نلتُ فيهِ حُظوة.
باختصار، هي دعوةٌ من دونِ شكِّ إلى قراءةٍ متأنيةٍ تفتحُ البابَ على مِصراعيهِ أمام خفايا وخبايا ربما طُرِحَت قبلاً بغيرِ قالَب. ولكنّها مُزِجَت هنا بأسلوبٍ جميلٍ يَسحَرُنا بسحرِ سَحَرَ وليس بسِحرِ ساحر، فتنقُلَنا بينَ دَفتي كتابِها إلى مشاعرَ وطروحاتٍ متداخلةٍ تجمَعُ بينَ الرفضِ والتمرّدِ، والخضوعِ والخنوع، والتفلُّتِ من الحدودِ كما اللامحدودِ أيضًا.
هي محاولاتٌ ربما لإظهارِ مِروحةٍ منَ المَلاماتِ، فنشهَدُ لومًا على الجاني كما الضحية، ولومًا على الأسرةِ، ولومًا على المنظومةِ المجتمَعيةِ الحاضنةِ والسائدة، ولومًا على القوانينِ المُجحِفةِ والمُعوِّقَة، ولومًا على نوافذَ تركتها مفتوحةً ليُبصِرَ من يبصرُ صُوَرًا متكسِّرةً أرادتها مَجالاً للنِقاش.
هي دعوةٌ تفتحُ البابَ على نِقاشٍ هادئٍ، يبحثُ في قضايا حسّاسةٍ على صفيحٍ ساخنٍ، كالزواجِ المُبَكِّرِ للفتاة ودورِ كلٍّ من الفتاةِ والشابِّ في هذا المسار. نقاشٌ يتناول دورَ الأهلِ والمجتمعِ والإعلامِ والمنظومةِ التربويةِ والتعليميةِ المتغافلةِ عن حصادٍ زرعته صُدفةً حينًا وبتخطيطٍ من دونِ وعيٍ أحيانًا.
في المحصّلة، نحنُ أمامَ أدبٍ إنسانيٍ عام، لا يُمكنُ تجزِئَتُهُ وتخصيصُهُ على أساسِ الجنس. بل تكمُنُ قيمةُ النصِّ في الفكرةِ الأدبيةِ والاجتماعيةِ المُقدَّمَة، كما في البناءِ اللُّغويِ المستخدَمِ بصرفِ النظرِ عن خصوصيةِ الموضوعاتِ المتناوَلَة التي تفتح المجال للبحث والنقاش.
من يقرأ كتاب "اكتبني .. حين أحببتني" لا شك سيستخلص صُوَرًا إضافيةً لا تزالُ تزخَرُ بها موضوعاتُه المتناولة. سأختِمُ قراءتي هذه، بقليلٍ من كثيرِ ما انساب من فكرِ الناقدِ الأدبي الدكتور عماد يونس فغالي في مقدِّمَةِ هذا الإصدارِ وأقتبس "من لهُ عينانِ قارئتانِ فليَعِ" ..