"ونسة" سودانية في القاهرة: قلوبنا هناك
"حكايات من السودان" معرض يجمع عدداً من الفنانين السودانيين من كتّاب وتشكيليين يستعيدون بلادهم التي هجروا منها نتيجة الحرب.
في قلب مدينة القاهرة اجتمع عدد من الفنانين السودانيين ما بين كتاب وتشكيليين في معرض "حكايات من السودان"، ليحكوا بالفن عن أزمات الحرب في السودان. حرمانهم من فرصة العودة إلى ذكريات وليالي تركوها معلقة على جدران منازلهم، وراقدة في أسرتهم، تنزف وهي تتجول في شوارع الخرطوم وأم درمان وباقي المدن السودانية التي منيت بآفة الحرب التي لم تنته بعد.
في "مركز الصورة المعاصر"، قدمت سامية عادل، منسقة مؤسسة أضف "مؤسسة التعبير الرقمي العربي"، المعرض الذي حمل عنوان "ونسة العافية" الخاص بتجربة الفرار من الحرب والحياة خارج البلاد.
ووفقاً لعادل فإن المعرض يدور حول مجموعة من الأفكار الرئيسية هي الحنين والذاكرة، الهجرة والشتات، الأمال والمستقبل، التجربة الفردية والجماعية للحلم، حيث ظهرت هذه الأفكار كمنتج فني في شكل كتيّبات تحمل رؤى وأحلام التشكيليين السودانيين، بالاضافة إلى كتابات 3 من الكتاب الشباب السودانيين، ليخرج أعمالاً فنية ما بين الرسم والكتابة.
"ونسة العافية"
والونسة تعني الصحبة الآمنة المبهجة باللغة السودانية؛ وفقاً لعادل التي شرحت في كلمة الافتتاح، بأن المعرض جاء حصيلة ورشة بدأت مطلع العام 2024 بدعم من "أضف" و"Sudan Artist Fund"، و"مركز الصورة المعاصرة" ورحيم شداد. ويخصص عوائد هذا المعرض لتقديم الدعم والمواساة الفنانيين السودانيين في مصر. بالاضافة لتسليط الضوء على الممارسات والأوضاع الإنسانية في السودان وحكايات الحرب والنزوح واللجوء والتهجير القسري، بالاضافة للآمال والمستقبل، وكيفية التأقلم.
ودعت عادل في كلمتها الجالية السودانية والجمهور المصري إلى الحضور لدعم الفنانيين السودانيين في جميع المدن المصرية سواء باقتناء أعمالهم أو بالكتابة عنهم على وسائل التواصل الاجتماعي.
وجاء قرار عقد هذه الورشة لتكون صوت الفنانين السودانيين للتعبير عن قضيتهم، خاصة بعد انحسار التغطية الإعلامية للصراع الدائر في السودان. هذا ما اتفق عليه المشاركون حيث قالت عادل إن التغطية الاعلامية للسودان وما يجري فيه لم تكن على مستوى الحدث وصعوبته نتيجة لعوامل عدة، وبالتالي يأتي دور الفن في التعبير عن أزمات الشعوب ليصبح لسان حالها.
خصوصية الحرب
غيّرت الحرب حياة ملايين البشر عبر التاريخ. لكن أن يتحول المسار العملي لشخص ما من ممارسة مهنة الطب إلى العمل في المؤسسات الأهلية لدعم الثقافة والشباب؛ فهو بعيد نسبياً عن التصور والخيال. هذا ما حدث مع سامية عادل التي قررت الانتقال من الطب إلى العمل العام في منظمات المجتمع المدني. الأمر نفسه حصل مع الكاتبة الصحفية السودانية ثريا صالح التي استطاعت اكتشاف منابع الكتابة الابداعية الأدبية في إطار هذا المشروع.
تقول صالح إن الحرب غيرت طريقة تعبيرها من خلال الكتابة. حيث نجحت في استدعاء النوستالجيا والحياة في دروب ومتنزهات الخرطوم؛ وبزغت كمعلم من معالم الصراع والحرب. هذا المعلم الذي لم يكن موجود سابقاً. ففيما كانت كتابتها السابقة صحفية بحتة، بدا أنها اكتشفت نفسها من جديد. صحيح أن السودان شهد حروباً كثيرة، لكنها لم تصل إلى العاصمة وبالتالي لم يشعر بها أغلب السودانيين. لكن الوضع الوضع مختلف وطالت كل مواطن سوداني.
من جانبه، يقول التشكيلي السوداني، طارق كمال الدين إبراهيم، وصاحب التجربة الممتدة أكثر من 20 عاماً؛ قال أن هذه الحرب مختلفة عن الحروب السابقة من حيث الحدة وانتشارها جغرافياً، وأنه شخصياً وقع بين شقي الرحى،حيث يقع منزله ومرسمه في منطقة وسطى بين سلاح المهندسين (موقع تمركز قوات الجيش السوداني) وبين مناطق تمركز "قوات الدعم السريع". لذا "فإن هنالك فرقاً بين أن تشاهد الأخبار وأن تكون أنت الخبر ومحوره. تصحى وتغفو على أصوات المدافع والدانات. بخلاف التهديدات الأمنية وانتشار العنف. كل هذا تسبب في توقف القدرة على الرسم والإبداع. فالنجاة بالأسرة أصبحت هدفاً لا ينافسه أي هدف آخر".
الذاكرة والزمن.. والمستقبل المجهول
لم يظهر في أعمال الفنان طارق كمال ما يعبر عن أزمة الحرب والصراع، إذ تتسم بالبهجة والاحتفاء بالحياة. كأن ذاكرته لم تستوعب بعد الحرب والصراع في السودان الآن. هذه الحرب نفسها التي منعته من ممارسة الرسم لشهور حتى بعد هروبه إلى مصر. كأن الذاكرة عند بدء هذا المشروع احتفظت بصورة أخيرة للحياة في الخرطوم مسقط رأسه، ولم تستوعب وتهضم حجم الدمار الذي لحق بالسودان. فالذاكرة، وفقاً لكمال الدين، تحتاج للزمن حتى تهضم الأحداث الآنية وتحولها إلى عمل إبداعي. هذا ما يفسر استغراقه في استدعاء الماضي الذي يعرفه عقله وذاكرته من حدائق وجنان.
هذا ما تؤكده صالح أيضاً، حيث عانت من إنسداد في الكتابة لشهور؛ لكنها عادت بتدفق كبير عند بداية ورشة العمل التي أخرجت كتابات مصاحبة لأعمال الفنانين التشكيليين المشاركين معها لتعبر عن النوستالجيا والألم والشتات والخوف والغربة. فالغربة إحساس مختلف وجديد حيث تصحو في بعض الأيام وتشعر بأنها ما زالت في الخرطوم بنفس روتين حياتها السابق، لتجبر نفسها لاحقاً على استيعاب الواقع الحالي وما حدث من تغير.
وتفسر صالح الغربة بالتعبير عن استغرابها للمساحات والأمكنة والأنشطة اليومية والإيقاع اليومي بخلاف ما اعتادت عليه في السودان. لكنها ترى أن كتابة "الحرب" لم تخرج بعد، ولا يمكن استجدائها. لذا فإنها تركز اليوم على التوثيق اليومي للأحداث.
صاحب قرار الرحيل عن الوطن في ظل هذا الصراع الوحشي؛ خطر المجهول سواء في صعوبات الطريق والهجمات خاصة بعد انتشار العنف. بالاضافة لمجهول الغربة حتى لو كانت مصر هي الوجهة المقصودة. فوفقاً لكمال لم تكن هذه هي المرة الأولى التي يأتي فيها إلى مصر حيث شارك من قبل في معارض فنية مشتركة؛ لكن هذه المرة تختلف لكونه ترك حياته خلفه مرغماً، ولا يعلم ما هي إمكانية العودة لحياته السابقة من عدمها.
ويجمع المشاركون في المعرض أن المستقبل سواء وضعت الحرب أوزارها أم لا سيبقى مجهولاً. وتقول صالح إن: "العودة للحياة السابقة في الخرطوم أصبحت ضرباً من المحال. فحتى لو انتهت الحرب سيعاني العائدون من مصاعب جمة؛ فالمنازل هدمت، والطرق دمرت، والبنية الأساسية نسفت. لكن هذا لن يمنع أي سوداني من العودة مرة أخرى"، علماً أنها ما زالت أسيرة الخوف من المجهول، وما يشغلها اليوم هو تجربة شتات السودانيين في مختلف بقاع الأرض.