"ناح الحمام".. "الريس زكريا" رحل مقهوراً على غزة
حمل التراث المصري إلى العالمية وتوقف عن الرقص والغناء احتجاجاً على المجازر في غزة قبل رحيله. من هو "الريس" زكريا إبراهيم صاحب "يا دنيا سمعاني"؟
في فجر يوم شتوي من شهر شباط/فبراير الجاري، ظلل الموت سماء مدينة بورسعيد في مصر مصطحباً معه أعز أبانئها المخلصين . إنه زكريا إبراهيم، أو "الريس زكريا"، الذي قضى حياته التي قاربت 80 عاماً يغني وبرقص لها على أوتار "الطنبورة".
مسيرة طويلة حمل فيها زكريا إبراهيم فنون مدن القنال (قناة السويس) وعبر بها المحيطات والبحار ليشاهدها الآلاف من ثقافات مختلفة. من أوروبا إلى أفريقيا وصولاً إلى بعض الدول العربية. هكذا غزت أنغام "السمسمية" عدداً من العواصم وسُمعت إيقاع خطوات "الريس" فوق الأراضي الإيطالية، وتمايل معه زوار جرش في الأردن، وطرب التونسيون لأغاني المقاومة.
لم يكتف زكريا إبراهيم بتأسيس فرقة "الطنبورة" للفنون الشعبية لمدن القنال الــ 3 بعد أن عاد من التهجير لمدينته الحبيبة بورسعيد؛ بل أحيا فن "الصهبجية" القائم على التفاعل مع الجمهور والارتجال، فجاءت أغنيات "متى يا كرام" و"تغني لمين يا حمام" وأكثر من 20 ألبوماً غنائياً. كما ساعد من خلال مركز الفنون الشعبية "المصطبة" الذي أسسه في قلب القاهرة؛ العديد من الفرق الشعبية المحلية على الظهور والانتشار.
الريس زكريا الذي بدأ نشاطه عام 1980 بـــــ "نوح الحمام والقمري" و"يا دنيا سمعاني" وغيرها، لم يتوقف طوال 44 عاماً عن الغناء والرقص، إلا منذ بدء العدوان المستمر على غزة. من يومها سكت. ربما كان هذا السكوت سبباً في رحيله قهراً.
بدأت رحلة "الريس زكريا" في الباسلة ببورسعيد وانتهت بها. وخلال هذه الرحلة كان له شركاء في الطريق والحلم، قدّر لهم أيضاً أن يكونوا آخر من ودعوه.
من بين هؤلاء، شريف الدالي، مدير مسرح "الضمة" التابع لمركز المصطبة، الذي عمل مع "الرئيس زكريا" 5 سنوات منذ 2015؛ ورافقه إلى مثواه الأخير. وقال لـــ "الميادين الثقافية"، إن "الريس" كان "مدرسة ثقافية وفنية وإنسانية؛ فقد كان يترك لكل من يعمل معه حرية العمل والتنفيذ والابداع. كما كان حكّاء موهوباً؛ وفناناً مثقفاً مهموم بوطنه والانسانية كلها، وكانت له مقولة "هافضل أرقص لآخر يوم في حياتي".
أما ياسر شكري، فقد تعرف إلى "الريس زكريا" منذ العام 1992 نتيجة نشاط سياسي مشترك. علماً أن الراحل كان ناشطاً سياسياً منذ العام 1972 وكان له تأثير في أجيال كثيرة.
وأضاف شكري أن الراحل "خريج كلية زراعة وعمل موظفاً في وزراة التموين، وبطل ملاكمة عن سن 17 سنو، ومناضل تم تهجيره أثناء حرب عام 1967. من هنا جاءت علاقته بالسياسة".
وتابع شكري في حديثه مع "الميادين الثقافية"، "عندما قابلته أسسنا معا فرقة "الطنبورة" عام 1998 وضمت شباب من مدينة نصر. كان الراحل إنساناً صاحب مبدأ، ومشاريعه الفنية جريئة وخارج الايقاع إذ تتميز بالتمرد على الشكل، فضلاً عن كونه مثقف عضوي حقيقي، وفقاً لغرامشي".
يتذكر شكري كيف قرر "الريس زكريا" أن يخلع ثوبه ويترك وظيفته الآمنة كمفتش للتموين، لأنه "لم يستطع أن يتحول إلى موظف فاسد أثناء فترة "الانفتاح" في ثمانينيات القرن الماضي؛ وقرر بدلاً من ذلك أن يعمل مع الفنانين الشعبيين المجهولين فيشاركهم حياتهم الصعبة ومعاناتهم".
أما في المهجر فقدم الراحل أغنيات للمقاومة والبهجة حتى أطلق عليه أصحابه لقب "سفير البهجة". وبمرور الوقت بدأ مشواره الفني يتضح أكثر فأكثر، فتنوع ما بين التوثيق والتسجيل والتجديد والحفلات، وصولاً إلى إنشاء مسرح شعبي صغير في قلب القاهرة هو "مسرح الضمة"، بالاضافة إلى تشييد علاقات مع المئات من الفنانين الشعبيين تمتد من العريش شمالاً إلى أسوان جنوباً في محاولة لرفض عملية "تغريب العالم".
ساهم في تطوير الموسيقى التراثية
والله زمان يا معلم
سلك الوزيري بيتكلم
في اسماعيلية شوفنا أيام
أيام حلوة ومبروكة
هذه كلمات الأغنية التي كتبها "الريس زكريا" تكريماً لصديقه حسن الوزيري من الاسماعيلية، وفقاً لما قاله ممدوح القاضي، المدير التنفيذي لمركز المصطبة، والذي عرف "الريس زكريا" وعمل معه لمدة تزيد عن 20 عاماً.
في هذا السياق، يقول القاضي "صاحبت الريس زكريا في الجولات البحثية عن الفنانيين الشعبيين من حفظة التراث في سيناء ومدن القناة؛ وتم تسجيل هذه اللقاءات، التي حوت أهم الأغاني وطقوس الغناء والرقص ومناسباتها. منها على سبيل المثال فرقة "الوزيري" من الاسماعيلية و"الحنة" من السويس و"الكفافة" في الصعيد وفرقة "الجركن" في العريش و"البرامكة" من الدقهلية و"الرنجو" السوداني و"مزامير النيل" من سوهاج "دراويش أبو الغيط" من القليوبية، بالاضافة لرعاية فرق أخرى مستقلة".
ويضيف أنه "من مزايا تفرّد "الريس زكريا" قيامه بإلقاء محاضرات في الفن الشعبي في الجامعات في الخارج، ومساعدته العديد من الباحثين في مجال الفنون الشعبية للحصول على الدرجات العلمية. من هنا قام بتأسيس مركز "المصطبة" لاستقبال الباحثين وتوفير المواد اللازمة لهم، حيث نمتلك اليوم نحو 800 ساعة من المواد المرئية. وكل هذا بهدف مساعدة الفرق في نشر التراث الشعبي في بيئته أولاً، ثم في محافظات مصر وخارجها. من هنا تكوّن لدينا 5 فرق عالمية (من إجمالي 12 فرقة) تقوم بجولات خارج البلاد في أوروبا وواستراليا ونيوزلاندا وكندا والهند ومعظم الدول العربية؛ ونحن نستعد لرحلة قادمة إلى التشيك".
وبسؤال القاضي عن دور "الريس زكريا" في تطوير الموسيقى التراثية قال إن "هناك جهود قام بها أبو حسن لتطوير التراث؛ منها على سبيل المثال "فرقة بلدي"، عبر دمج الموسيقيين الشعبيين مع موسيقيين أكاديميين متمكنين من قراءة النوتة الموسيقية. كما شجع الريس زكريا الفنان محسن العشري على تطوير آلة السمسمية ليتمكن العازف من الخروج من مقام إلى مقام في نفس اللحن. هذا أدى في المحصلة إلى تطوير اللحن واستخدام مقامات أصعب؛ وكذلك تطوير مهارات العازفين بإشراكهم في ورش فنية. كما ظهر تميز "الريس زكريا" في كيفية إدارة التعامل مع الفنانيين الشعبيين باختلاف بيئاتهم وماضيهم وهو ما سنفتقده جميعاً".
ولم ينس القاضي التذكير بدور "الريس زكريا" في تطوير الأغنية الوطنية التي تحمل هموم البلاد والقضية الفلسطينية، ومنها أغنية "يا صهيون يا صهيون فلسطين دي بلادنا يا دون"، التي أطلقها عام 2008 كرد فعل على الحرب الصهيونية على غزة.
ويضيف أن "الريس زكريا" توقف مؤخراً عن الرقص والغناء بسبب حزنه على الأوضاع في غزة.
"زي النهارده.. أممنا قنالنا"
محسن العشري، المدير الفني لفرقة "الطنبورة"، يقول إن "الريس زكريا" نجح في تطوير فرق السمسمية باستخدام الطنبورة والسمسمية للعب دوري الجواب والقرار، الأمر الذي كان له جانب فني جيد جداً على العروض على الرغم من عدم الراحل للموسيقى".
ويضيف "زكريا كان السبب في عودتي للموسيقى بعد اعتزالي وتحول الفرق الشعبية لشكل رأسمالي مبتذل، لكن عندما قابلته شدني تعامله وما يقدمه من فن محترم ومتميز. كان "الريس" أيضاً صاحب الفضل في حصولي على جائزة أفضل عازف من بين 50 موسيقياً في لندن، ومعه أسسنا مدرسة براعم الطنبورة لتعليم جيل جديد فن الطنبورة. حتى المسرح الذي أسسه في مصر سماه "الضمة" لكونها مكان يضم الفرق الموسيقية والجمهور ويشيع المتعة والحب".
أما المطرب مصطفى رزق فيتحدث عن علاقته بــ "الريس زكريا" قائلاً: "أسست فرقة أواخر التسعينيات فرق باسم "الونسة" وتعرفت عليه عن طريق أصدقاء ليعبر عن إعجابه بالإسم وأنه بصدد تأسيس مركز للفنون الشعبية، وكان راغبا في تسميته "الونسة" فلم أعترض لكنه قرر تغيير الاسم ليصبح "المصطبة" ومن يومها صرنا أصدقاء إلى أن عملنا معا فهو إنسان صعب أن يتكرر".
ويتذكر أنه عند افتتاح المركز "قمت بالتصميمات الداخلية والديكور للمركز؛ وبعد وفاة شقيقه محمود إبراهيم الذي كان مديرا للمركز طلب مني العمل مكانه شقيقه. في رحلة العمل القصيرة قمنا بتنظيم رحلات للصعيد لاحياء التراث الشعبي الجنوبي وجمعه، فدور زكريا إبراهيم لا يقل أهمية عن دور رائد الفن الشعبي زكريا الحجاوي؛ لكن الفرق أن الحجاوي كانت تساعده الدولة بعكس "الريس زكريا" الذي قام بهذا النشاط بشكل فردي، وكونه من داخل الحالة الفنية".
أيضاً، وفي سياق التطوير قام بتأسيس فرقة اسمها "كوارتيتر" ب 4 مقاسات مختلفة لألة السمسمية على غرار آلة الكمان؛ ليقدموا شكلاً موسيقياً يخرج من تطوير الشكل إلى تطوير الفكرة، حيث احتاج الأمر تدريب الموسيقيين على الآلات الجديدة والانسجام. كما جرب إخراج أفلام وثائقية عن الألات والفنانيين الشعبيين.