"بقعة ضوء".. لماذا "شمس السوريين" صامتة؟

يحاكي الشمس. يطمئنّ عليها، ويرمي عليها تحية الصباح. ومثل كلّ يوم منذ 15 عاماً، ينتظر منها أن تردّ عليه الصباح، لكنها، كعادتها منذ 15 عاماً، تظلّ صامتة!

  • إدفارد مونك: فريدريش نيتشه، 1906
    إدفارد مونك: فريدريش نيتشه، 1906

في إحدى اللوحات المعبّرة في المسلسل السوري، "بقعة ضوء"، يحكي الفنان سامر المصري مع الشمس، ويتحدّث إليها. يقول لها، لمّا يفتح عينيه صباحاً: "صباح الخير أيتها الوفية. لم تنسَي يوماً أن تُطِلّي بنورك الدافئ، فتنيري صباحي وصباحات أناس هذه البلاد". 

ويظلّ يحكي المصري وحده، والشمس تستمع، في سمائها، إليه، ولا تردّ عليه. ثم يذهب إلى صورة أبيه المعلَّقة على الجدار. يُصبّح عليه. يتأمّل وجهه الجميل. يطلب رضاه، ولا ينسى أن يطلب الرحمة له. وينتظر لعلّ أباه "يبلّ" شوق قلبه بكلمة واحدة! 

لكنّ الصور المعلّقة على الجدران تسمع، ولا تحكي. ثم يذهب إلى عمله حارساً عند مدخل إحدى الشركات. رفيقه "الناطق" الوحيد، هناك، منذ 15 عاماً؛ منذ أن ماتت المرحومة أمه، راديو "توشيبا". وحده يسمع الأصوات تتسرّب من خلاله إلى أذنيه.

يمرّ مدير الشركة. يصبّح سامر المصري عليه، فيردّ المدير التحية بوجه بشوش. يستغرب سعادة المدير أنّ حارس الشركة، سامر المصري، منذ 20 عاماً، لم يتغيّب يوماً واحداً عن عمله. كأنه لا يمرض، أو كأن لا ولد له أو ابنة أو أنسباء وأقرباء، يُمضي عندهم سامر المصري يوم إجازة واحداً. 

يسأله المدير. يريد استفساراً لحالته "الغريبة" تلك، فيجيبه سامر بأن الوحيدة التي كانت، من كل خَلْقِ الله، تحسّ به وتهتم بأمره و"تَعْتَل همّه"، هي أمه التي ماتت، ولم يعد لديه في الحياة شخص "يفضفض" له ما يختزن في قلبه من هَمّ وفرح. 

حتى صبيحة يوم العيد، يأتي سامر ويجلس عند باب الشركة، مع ترمس الشاي، ليَتَوَنّس برؤية الناس. فلا أحد لديه، من الأحياء، خارج باب هذه الشركة، زاره يوماً في فرحٍ، أو عاده في مرض، أو شاركه في معايدة.

عند المساء، وحده في المنزل. ضوء "لمبة" الغرفة يملأ زواياها. يمشي سامر المصري في المنزل على مهل، حاملاً شمعة واحدة في يده، ويتباطأ في المشي كي لا ينطفئ ضوء الشمعة. ثم يُقرَع الباب. يستغرب سامر المصري من سيتذكّر، منذ 15 عاماً، بابَ منزله، لكي يزوره ويطمئن عليه في مثل هذه الليلة. 

يفتح الباب، فإذ هو أحد المثقّفين ممن يعرفون سامر، أتى إلى منزله ليلاً، حاملاً إليه رواية "البؤساء"، بعد أن أخبره سامر بأنه يحب قراءة أي شيء يحكي عن البؤس، فاختار هذه الرواية له، من أجل ذلك، وائل رمضان، لأنها تُبَكّي "حتى الدببة".

يستغرب وائل كيف أن سامر يضيء شمعة واحدة، بينما نور "اللمبة" يعمل. يستغرب أكثر حين يعرف أن هذه الليلة هي ذكرى ميلاد سامر، وأنه، منذ 15 عاماً، يحتفل بعيد ميلاده مع شمعة، وحدهما، منذ وفاة أمه. يقول له وائل: "كلّ عام وأنت بخير"، فتدمع عينا سامر. يرجوه أن يقولها له، مرةً ثانية، فمنذ أن ماتت أمه، منذ 15 عاماً، لم يتذكّر أحد عيد ميلاده، ولم يقرع يوماً أحدٌ بابَ منزله، ولم يقل له أحد، مرة واحدة: كلّ عام وأنت بخير!

ثم يمرّ ليلُ سامر طويلاً، أطول مما يمرّ على سائر خَلق الله. ثم يأتي الصباح، فيفعل سامر ما لا يجيده، من بين كلّ خلق الله، سواه: يحاكي الشمس. يطمئنّ عليها، ويرمي عليها تحية الصباح. ومثل كلّ يوم منذ 15 عاماً، ينتظر منها أن تردّ عليه الصباح، لكنها، كعادتها منذ 15 عاماً، تظلّ صامتة!