"البيو آرت" أو الفنّ الحيويّ.. هل أصبح الفنّان عالِماً بلا حدود أخلاقية؟
أرنب يضيء باللون الأخضر وبدلة دفن موتى تسمح بتحلُّل الجثث بسرعة! هذا ليس خيالاً، بل حقيقة نجدها اليوم فيما يعرف بالفنّ الحيويّ، أو "البيو آرت". فما هو هذا الفنّ؟ ولماذا يطرح تحدّيات أخلاقية وبيئية؟
تخيَّل أرنباً يُضِئْ في الظلام، أو سترة جلدية مصنوعة من خلايا ثعبان، أو بدلة دفن موتى تسمح بتحلُّل الجثث بسرعة! هذه ليست تجارب قام بها علماء مجانين، بل أعمال فنيّة تنتمي إلى حركة معاصرة، تُعرف بالفن الحيوي ،أو "البيو آرت". فهل أصبح الفنان عالـِماً بلا حدود أخلاقية وقانونية؟ وما هو "البيو آرت"، وكيف تطور تاريخياً؟
يُعرَّف "البيو آرت" (Bio Art)، أو الفن الحيوي، وفقاً للباحث الأميركي، روبرت ميتشل، (2010)، بأنه "ممارسة فنية تستخدم المواد البيولوجية الحية وسيطاً أساسياً للتعبير الفني". أما بالنسبة إلى الفنان البرازيلي، إدواردو كاك (2007)، أحد رواد هذا المجال، فإن "البيو آرت" يتجاوز مجرد تصوير الحياة، أو تمثيلها، بل يتعامل مع "آليات الحياة نفسها وسيطاً فنياً"، الأمر الذي يجعله شكلاً فريداً من أشكال الفن المعاصر.
بدأت الإرهاصات الأولى للفن الحيوي "البيو آرت" مع تجارب الطبيب الأسكتلندي، ألكسندر فليمنغ (1881 - 1955) في عام 1928، عندما اكتشف أن البكتيريا يمكن أن تُنتج أنماطاً وتكوينات ملونة، على رغم أن هدفه كان علمياً وليس فنياً. كان هذا الاكتشاف بمنزلة نقطة انطلاق غير مباشرة لما سيُعرف لاحقاً بالفن الحيوي.
هكذا شهدت فترة سبعينيات القرن الماضي نقطة تحول مهمة في تاريخ "البيو آرت"، حين بدأ جورج جيسرت التهجين والابتكار لأنواع جديدة من الزهور، وتقديمها كأعمال فنية معاصرة. في عام 1986، حقق جو ديفيس إنجازاً تاريخياً من خلال مشروعه «Microvenus»، الذي يُعَدّ أول عمل فني يستخدم تقنيات الهندسة الوراثية بصورة مباشرة، إذ قام بتحويل مقاطع من فلسفة قديمة إلى شيفرات جينية يمكن للبكتيريا تخزينها داخل الحمض النووي الخاص بها، الأمر الذي جعل هذه الكائنات الحية وسائط حية تحمل معلومات قابلة للتخزين والنقل.
وفي عام 2000، تم تأسيس مختبر «SymbioticA» في جامعة أستراليا الغربية، والذي يُعَدّ من أهم المراكز المتخصصة في هذا المجال، بحيث وفّر مساحة للفنانين للعمل جنباً إلى جنب مع العلماء في مشاريع تجمع بين الفن والبيولوجيا.
في العقدين الأخيرين، أدى ظهور تقنيات متقدمة، مثل «كريسبر» (CRISPR)، إلى فتح آفاق جديدة في مجال الفن البيولوجي، وصاحبت هذا التطور نقاشات مهمة بشأن الجوانب الأخلاقية والبيئية المرتبطة باستخدام التكنولوجيا الحيوية في الفن.
"البيو آرت".. تلاعب بعمليات حياة
يرتكز هذا النوع من الفن المعاصر على التلاعب بعمليات الحياة واستخدام الكائنات الحية وسائطَ إبداعية، لذا يستدعي التعاون بين الفنانين والعلماء لدمج الفنون في العلوم البيولوجية. ويعكس هذا النوع من الفن تطوراً راديكالياً، بحيث يتعامل مع الحياة في أكثر حالاتها العضوية، بدءاً بالخلية البسيطة، وصولاً إلى الكائنات المُعقّدة، مثل الثدييات. كما يمكن له أن يتخذ أشكالاً مُتعددة، مثل تعديل خصائص الكائنات الحية، أو خلق خصائص جديدة تماماً، أو استخدام العمليات البيوتكنولوجية عبر طرائق غير تقليدية.
لا يعكس "البيو آرت" المفاهيم العلمية بصورة فنية فحسب، بل يتعدى ذلك أيضاً ليصبح فعلاً خلّاقاً. على سبيل المثال، يُقدِّم "البيو آرت" بدائل من مفاهيم الجمال التقليدية، عبر تصميم نباتات أو كائنات بصفات مبتكرة، الأمر الذي يعيد تعريف ما يمكن أن يكون عليه الفن في العصر البيوتكنولوجي. كما يسعى لطرح تساؤلات فلسفية عميقة بشأن العلاقة بين الإنسان والطبيعة، واستكشاف مفهوم الحياة، في حدِّ ذاته.
من الهندسة الوراثية إلى التكنولوجيا الحيوية التفاعلية
تبرز الهندسة الوراثية كإحدى أهم التقنيات المستخدمة في "البيو آرت"، بحيث تتيح للفنانين تعديل المادة الوراثية للكائنات الحية عب استخدام تقنيات متقدمة، مثل «CRISPR-Cas9». ويهدف هذا التعديل الجيني إلى ابتكار كائنات تتميز بخصائص جمالية فريدة، كالقدرة على إصدار الضوء، أو اكتساب ألوان غير تقليدية. في عام 2000، قدّم الفنان إدواردو كاك مشروعه «GFP Bunny»، بحيث نجح في إنتاج أول أرنب يتوهج باللون الأخضر في الظلام من خلال دمج جين البروتين الأخضر المتألق (GFP) المستخلص من قنديل البحر في الشيفرة الوراثية للأرنب.
وفي عام 2002، عملت الفنانة البريطانية، لورا سينتي، على تعديل الحمض النووي لنبتة الصُّبار لإنتاج صُبّار تنمو عليه شعيرات بشرية بدلاً من الشوك.
وتُمثِّل تقنيات زراعة الأنسجة محوراً أساسياً في الفن البيولوجي المعاصر، بحيث تتيح للفنانين تنمية الأنسجة الحية في بيئات مُعقّمة والتحكُّم في شكلها ونموها لإنتاج منحوتات حية. من أبرز الأمثلة على هذه التقنية مشروع «Victimless Leather» عام 2004، والذي صمّمه أورون كاتس وإيونات زور، مؤسسا مختبر «SymbioticA» في جامعة أستراليا الغربية. وهدف هذا المشروع إلى إنتاج جلود صناعية من خلال زراعة خلايا حيوانية حية على دُعامة ثلاثية الأبعاد لتشكيل سترة جلدية صغيرة. وسعى الباحثان عبر ذلك لتقديم بديل أخلاقي ومُستدام يُقلِّل الاعتماد على جلود الحيوانات.
يلجأ الفنانون أيضاً إلى استخدام التكنولوجيا الميكروبية، معتمدين على كائنات دقيقة، مثل البكتيريا والفطريات، لإنتاج أعمال فنية حية تتغيّر مع مرور الوقت. على سبيل المثال، أطلقت الفنانة الكورية، جاي ريم لي، عام 2011، مشروع «Mushroom Burial Suit»، وهو عبارة عن بدلة دفن مزروعة بالفطر بهدف تسريع عملية تحلل جسد المُتوفّى بصورة طبيعية، الأمر الذي يربط الفن بالممارسات البيئية المستدامة. كذلك قدّمت الفنانة الأميركية، هيذر ديوي - هاغبورغ، في عام 2015، مشروع «Living Drawings»، بحيث استخدمت البكتيريا لإبداع رسوم تتغير أشكالها وألوانها مع نمو المستعمرات الميكروبية وتطورها.
أما النسبة إلى التقنيات الخلوية المتقدمة، فتشمل معالجة الخلايا الفردية واستخدامها وسيلةً للتعبير الفني. ومن أبرز الأمثلة على ذلك مشروع «May the Horse Live in Me» الذي قدمته الفنانة الفرنسية، ماريون لافال جانتيه، عام 2011. في هذا المشروع، قامت جانتيه بحقن نفسها بمصل دم الخيول بهدف استكشاف التفاعلات المناعية التي تحدث داخل جسدها وتوثيقها. وسعت الفنانة حينها لاستكشاف العلاقة بين الإنسان والحيوان من منظور غير تقليدي، وتجاوز المركزية الإنسانية (anthropocentrism) للوصول إلى نوع من التواصل، فيزيولوجياً ونفسياً، مع الآخر المغاير تماماً.
وتُعدُّ التكنولوجيا الحيوية التفاعلية أحدث جيل من التقنيات في الفن الحيوي، فهي تدمج الأنظمة الإلكترونية في العمليات البيولوجية من أجل ابتكار أعمال فنية تتفاعل مع محيطها. في عام 2007، قدّم الفنان الأسترالي، ستيلارك، مشروعه «ear on arm»، بحيث زرع أذناً على ذراعه وربطها بالإنترنت، الأمر الذي خلق جسراً بين التكنولوجيا والجسد الإنساني. كذلك في عام 2016، دمجت الفنانة الأميركية، أيمي كارل، بين التكنولوجيا الحيوية والمعلوماتية، وأنشأت منحوتة بيولوجية عبارة عن يد بشرية مصنوعة من خلايا جذعية.
"البيو آرت".. تحديات أخلاقية وبيئية وقانونية
يطرح "البيو آرت" عدداً من التحدّيات الأخلاقية المُتعلقة باستخدام الكائنات الحيّة كمواد إبداعية. إن التلاعب بالكائنات الحية، من خلال تعديل الجينات أو زراعة أنسجة حية بهدف فنيّ، يثير تساؤلات بشأن حقوق هذه الكائنات واحترامها.
وينظر بعض العلماء والفلاسفة إلى هذا التلاعب أحياناً على أنه استغلال، وخصوصاً عندما لا تكون هناك فوائد علمية أو بيئية واضحة. بالإضافة إلى ذلك، تظهر إشكاليات الملكية البيولوجية، بحيث يطرح البعض تساؤلات عما إذا كان يمكن للفنانين المطالبة بملكية كائنات حيّة مُعدّلة، وعما إذا كانت هذه التعديلات تُعَدّ ابتكاراً فنياً أو علمياً يخضع لحقوق الملكية الفكرية.
كذلك، أثار حقوقيون قضايا الرفق بالحيوان، بحيث يتعارض استخدام الحيوانات المُعدّلة وراثياً أو الأنسجة الحيّة مع المبادئ الأخلاقية المتعلقة برعاية الكائنات الحيّة.
أما على الصعيد البيئي، فيواجه "البيو آرت" تحديات مهمة تتعلق بتأثيره المحتمل في النُّظُم البيئية والموارد الطبيعية، ذلك بأن إطلاق الكائنات المُعدّلة وراثياً في البيئة قد يؤدي إلى تغييرات غير متوقعة في التوازن البيئي واضطرابات بيئية يصعب التحكم فيها. بالإضافة إلى ذلك، تُشكِّل النفايات البيولوجية، الناتجة من استخدام مختبرات ومُعدّات خاصة، معضلة كبيرة، إذ إنّ التخلُّص غير السليم من المواد المُعدّلة وراثياً قد يسبب تلوثاً بيئياً خطيراً.
ويساهم استهلاك الموارد الطبيعية في تعميق هذه التحديات، بحيث تتطلب مشاريع "البيو آرت" كميات كبيرة من المياه والطاقة والمواد الكيميائية للحفاظ على الظروف المختبرية المثالية، الأمر الذي يزيد في البصمة البيئية لهذه الأعمال ويُثير تساؤلات بشأن استدامتها.
قانونياً، يواجه "البيو آرت" تحديات تعكس الطبيعة المعقدة وغير المسبوقة في هذا المجال. ومن أبرز هذه التحديات غياب التنظيم القانوني الواضح، بحيث تفتقر مجموعة من الدول إلى أُطُر قانونية تُنظّم استخدام الكائنات الحيّة في الأعمال الفنية.
هذا الفراغ التشريعي يفتح الباب أمام التجاوزات أو الاستخدامات غير المسؤولة للتكنولوجيا الحيوية. بالإضافة إلى ذلك، يُشكِّل التأثير في الوعي العام تحدياً آخر، إذ يمكن أن يساهم استخدام التكنولوجيا الحيوية في "البيو آرت" في خلق تصور خاطئ لدى الجمهور بشأن السهولة والأمان للتلاعب بالكائنات الحية، الأمر الذي قد يؤدي إلى ممارسات غير أخلاقية من جانب جهات غير متخصّصة.