"سرقات" موسيقية.. نقل أم اقتباس وتأثر؟
كثيراً ما يُتهم موسيقيون كبار بأنهم "سرقوا" ألحاناً من غيرهم، لكن الأمر يتوقف عند أمرين آخرين هما الاقتباس والتأثر، فكيف نميّز بينهما وبين السرقة الموسيقية؟
"ضيفة الله" أغنية للمطربة التركية آجدا بيكان، يتطابق لحنها بشكل كامل مع أغنية السيدة فيروز "طريق النحل". وبما أن لحن الأخوين رحباني هو الأسبق للظهور، فهذا يقودنا إلى نتيجة مفادها أن هذه المطربة قد سرقت حرفياً هذا اللحن، من دون الإشارة بأي شكل إلى مبدعه الأصلي، ووضعت عليه كلاماً مختلفاً تماماً لا ينسجم مع عبقرية التناسب والتناسق بين كلمات الأغنية الأصلية مع لحنها الأصلي.
هذه الحالة وأشباهها منتشرة جداً في عالم الموسيقى، ولها أشكال متعددة، تبدأ بنسخ اللحن كما هو وادعاء تأليفه، وهو ما يعرف بالنقل كما هي الحال في مثالنا السابق. أما الأشكال الأخرى فهي الاقتباس والتأثر. وهذا ما اضطر المهتمين إلى إيجاد معيار لتحديد انتحال لحن ما من لحن آخر. ويتمثل في تطابق 4 ميزورات حسب النوتة الموسيقية بين لحنين (المازورة الموسيقية هي الوحدة الأساسية لبناء اللحن). وبالتالي، يعدّ اللاحق قد نقل من السابق إذا توفرت إمكانية إثبات الأسبقية، مع ما يترتب على ذلك من نتائج قانونية أو معنوية.
من المتعارف عليه أن الاقتباس هو أخذ لحن ما أو جزء منه واستخدامه في لحن جديد، مع تغيير أو إضافة تجعل اللحن الجديد ذا شخصية ونكهة مختلفتين تظهران بصمات الملحن المقتبِس، مثل أغنية الأخوين رحباني "يا أنا يا أنا"، والمقتبسة من مقطع في السمفونية رقم 40 لموزارت، وكذلك أغنية "كانوا يا حبيبي" المقتبسة من لحن الروسي ليف كنيبر بعنوان polishko polie. هذا فضلاً عن مجموعة كبيرة من الأغاني المعربة التي قدمها الرحابنة في بدايات حياتهما الفنية بطلب من صبري الشريف، مراقب القسم الموسيقي في إذاعة الشرق آنذاك، مثل ماروشكا (لحن هنغاري)، وتانغو "من هنا حبنا مر" المأخوذ عن "تانغو لابوهيما" للأرجنتيني إدواردو بيانكو. ومن المهم هنا الإشادة بذكر الأخوين رحباني لمصادر هذه الألحان، ما أضاف إلى جمال الاقتباسات وتعديلاتها الجديدة جمال الأخلاق الفنية الرفيعة.
أما الموسيقار محمد عبد الوهاب الذي شغل لفترة طويلة رئاسة جمعية المؤلفين، وهي الجمعية المعنية في جانب من نشاطها بحماية حقوق المؤلفين الموسيقيين من النقل، قال في واحد من لقاءاته المتلفزة المتوفرة على شبكة الإنترنت، وهو الشهير بهذا النوع من الاقتباسات، إن العبرة ليست فقط في نقل قطعة أو جملة معينة من لحن آخر، بل في قيمة العمل الجديد وظهور شخصية الملحن المقتبِس وبصمته الفنية فيها وما أضافه أو خلقه من قيمة جمالية لهذا المنتَج.
هكذا اعترف عبد الوهاب بأنه اقتبس الكثير من الجمل الموسيقية من غيره من دون الإشارة إلى المصدر، وخصوصاً في بدايات حياته الفنية، مثل مقدمة السمفونية الخامسة لبيتهوفن في أغنية "أحب عيشة الحرية" والجملة الموسيقية في بداية أغنية "يا ورد مين يشتريك"، والتي أخذها من التراث الروسي. لكن للحقيقة أنه اعتذر بكل صدق وشفافية وشجاعة عن عدم الإشارة إلى ذلك.
أما مجال التأثر فهائل جداً، وقد يغطي النسبة الأكبر من الموسيقى في العالم. ويصح عليه قول عبد الوهاب في اللقاء المذكور من أن الخلق في الموسيقى هو دائماً نسبة محددة من العمل الموسيقي تكبر أو تصغر وليس العمل كله. إلا إذا كان العمل برمته عبارة عن جملة موسيقية صغيرة قد تكون جديدة تماماً.
وعليه، فإنه لا يمكن لموسيقي أن يبدع لحناً ضخماً خالصاً من دون التأثر بموسيقى معينة أو مؤلف معين، فالإبداع الموسيقي هو أثر تراكمي يراكمه الموسيقيون على أرضية مكتسبة من البيئة أو من أفكار موسيقية عبقرية فرضت نفسها، هذا فضلاً عن أن الموسيقى، و بالأخص الموسيقى الشرقية مبنية على نماذج لحنية (مقامات) وقوالب وإيقاعات معروفة، وأعراف موسيقية شائعة، كالتسليم والتقسيم والترديد واللوازم الشهيرة، كما في مقدمة أغنية "يا جارة الوادي" التي نسمعها في الكثير من الأغاني القديمة.
وهنا، لا بد من ملاحظة المقدمة نفسها للأغنية نفسها بتوزيع الأخوين رحباني، حيث اعتمدا على اللازمة الموسيقية نفسها، ولكنهما حلقا فيها إلى أجواء غاية في الجمال والتجديد. وهناك أمثلة أخرى حول مدى التأثر في مستوى الموسيقى الكلاسيكية العالمية. فقد ذكر الناقد والموسيقي روبرت مارشال أن سوناتا "الباسيتيك" لبيتهوفن، مشابهة لسوناتا "سي مينور" لموزارت، وهنا نتحدث عن الشبه وليس عن النقل المباشر، ولكن استخدام الآلات والمقام والأسلوب، يستحضر موزارت بشكل تلقائي.
والتأثر قد تفرضه القوالب أحياناً، كما هي الحال في قالب السماعي في الموسيقى العربية، حيث تتشابه الأعمال فيه بشكل تفرضه طبيعة إيقاع السماعي الثقيل وأجواؤه بالتعاون مع طبيعة القالب الصارمة للسماعي، لكن في الوقت نفسه لا يمكننا تجاهل البصمات الفردية والتنوع الجميل في تلك المؤلفات المتشابهة.
ولعل من أشهر الأعمال التي تجمع بين الاقتباس والتأثر، أغنية "يا مسافر وحدك" للموسيقار محمد عبد الوهاب، حيث فنّدها الأستاذ سعد الله آغا القلعة في أحد منشورات موقعه "كتاب الأغاني الثاني". إذ يبين لنا أن بداية اللحن الأساسي للأغنية منسوخ بشكل دقيق عن أغنية من مسرحية يونانية، لحنها الملحن كوستاس يانيدس (المقطع يا مسافر وحدك وفايتني، ليه تبعد عني وتشغلني).
كما وردت أيضاً جملة أخرى أساسية في اللحن (دي عينيا دموعها، دموعها بتتكلم)، مأخوذة من أغنية سابقة زمنياً لفريد الأطرش هي أغنية "عشك يا بلبل" (وليفك بيدادي وانت بتهادي)، وهنا يقع الاقتباس. أما التأثر فيظهر في لحن فريد الأطرش ومحمد عبد الوهاب في استخدام الإيقاعات الغربية مثل التانغو والرومبا، مع ما يفرضه ذلك من أجواء على العمل. لكن، عند النظر إلى هذا العمل المتكامل والذي اشترك فيه 3 ملحنين، نجد أن النتيجة النهائية كانت عملاً عبقرياً يعيش مع الأجيال إلى أمد بعيد، ضمن السجل الإبداعي لعبد الوهاب،ذلك أن القدرة على مزج الألحان وإيجاد التوافق بينها وإظهارها في شخصية جديدة وجميلة هي بحد ذاتها إبداع عظيم.