"الدار" في الناصرة.. كيف تكون إعادة التأهيل المعماري أداة مقاومة؟
تحفة معمارية في قلب الناصرة لأحد أحفاد ظاهر العمر الزيداني، يسعى أصحابها لحمايتها والحفاظ على التراث المعماري العربي في فلسطين. ما حكاية مشروع "الدار"؟
بين الأزقة الضيّقة للسوق القديمة في مدينة الناصرة الجليلية وإلى جانب كنيسة البشارة؛ أفخم وأبهى كنائس الشرق، حيث بُشّرت مريم العذراء بحملها بعيسى المسيح، تتربّع "الدار" على عرش المباني العربية البديعة والأصيلة، والتي تمتد جذورها إلى حقبة ظاهر العمر الزيداني، حاكم الجليل في القرن الـــ 18.
تقول دراسات تاريخية، إن الإرث المعماري الزيداني امتد إلى جميع بلاد الشام، وليس في فلسطين وحدها، وقد تكون طول فترة حكم ظاهر العمر، السبب الرئيسي الذي مكّن الزيادنة من الإنجاز العمراني الفخم والمُستدام.
ولعلّ الرحابة والبساطة هي أبرز ما تميّز به هذا الإرث المعماري، فهي خالية من الزخارف الكثيفة والتعقيد الفني لكنها متأثرة، بطبيعة الحال، بالفن العثماني الذي كان منتشراً في بلاد الشام، والذي بدوره تأثر بالنمط المعماري الإسلامي الذي يتخذ من أنصاف الدوائر والقباب والأقواس والهلال أشكالاً هندسية معمارية فريدة. كما أن العمران الزيداني تميز باستعماله لحجارة المنطقة التي بنيت فيها، أي أن البُنيان كان ابن المكان.
بشارة في "الدار"
"الدار" إذاً، ليست مجرد مبنى يسرّ الناظرين بألوان نوافذه الخضراء الزاهية والمقوّسة، أو شرفاته الصغيرة التي تطل على كنيسة البشارة، لأنه بات اليوم مكاناً لإقامة فنية وملتقى للإبداع الفكري الفلسطيني، وملتقى للعمل والحفاظ على الموروث المعماري العربي الأصيل.
تأسست "الدار" كفكرة وإرادة للتحرّر من طغيان الاستعمار الفكري. فالنص الأول الذي يصادفه الزائر عند مدخل "الدار"، مقولة ابن خلدون الشهيرة: "المغلوب مولع أبداً في الغالب في شعاره وزيه ونحلته وسائر أحواله وعوائده.. والسبب في ذلك أن النفس أبداً تعتقد الكمال في من غلبها وانقادت إليه".
انطلاقاً من إرادة التحرّر وكنس ثقافة الهزيمة وخلق جيل واعٍ يعتزّ بهويته وإرثه الثقافي والمعماري، اختار مؤسِسَا وأصحاب "الدار" أن تكون هذه المقولة الخلدونية عند العتبة. فالوعي للسياق الاستعماري وإدراك علاقات القوى في هذا المكان والانبهار بالغالب كونه "الأقوى"، خاصة لدى الجيل الشاب، الخطوة الأولى، وربما بشارة تفكيك الهيمنة الفكرية، وخلق حالة مقاومة اجتماعية لأجندة الاحتلال التي تسعى لمحو الهوية العربية والفلسطينية لهذا المكان.
ولتسليط الضوء على فكرة إقامة مشروع "الدار" وأهدافه وتحدياته، أجرت "الميادين الثقافية" حواراً مطوّلاً مع مؤسِسَي "الدار" في سوق الناصرة القديم، رزان زعبي زيداني؛ المصممة المعمارية والفنانة الباحثة، صاحبة محترف "مزين" ومديرة "الدار"، وضاهر زيداني؛ العامل الاجتماعي والباحث والشريك في تأسيس "الدار"، وهو من الجيل السابع لسلالة ظاهر العمر الزيداني.
"الدار" وذاكرة المكان
بيوتنا وإرثنا المعماري ليست حجارة صلبة وجدراناً أو مجرد مكان يؤوينا. إذ يرى غاستون باشلار الذي تحدّث وبحث في كتابه "جماليات المكان" عن الأسباب النفسية والعميقة التي تربطنا بالأماكن، بأن تعريف المكان هو الذكريات وأكثر، لأنّ البيت والمكان ظاهرة نفسية وقد يصبح معقّداً سيكولوجياً بسبب كل المشاعر والأحلام والخيالات والتجارب التي يخوضها الإنسان في مكان ما، ويذهب إلى توصيف أدق يرى البعض أنه مبالغ فيه، حيث يقول إن المكان قد يصبح محفوراً في دواخلنا كشيء "مادي" أو قد يصبح "مجموعة من العادات العضوية".
بالنسبة لرزان وضاهر الزيداني، لا يبدو الأمر مختلفاً. ففي تعريفهما للدار يؤكدان أن: "كون هذا البيت شاهداً على الذاكرة والهوية المكانية الجمعية المشتركة للمجتمع المحلي والرواية الفلسطينية، فإنّ في صموده وبقائه ومقاومته شهادة وإثباتاً على الوجود الفلسطيني الشامي العربي العريق. وبذلك، تترجم أهمية حفظ التراث للشواهد الصامدة بمثابة حماية لما ورثناه من أسلافنا؛ وهو تاريخ وحضارة وهوية وثقافة شعب واحد، أو بمثابة سجل حي لعبقرية البناء والمعرفة المحلية التي تفرض علينا واجباً أخلاقياً ووطنياً لحماية وحراسة هذا الإرث وتسليمه للأجيال التي ستأتي من بعدنا".
***
حول مشروع "الدار"، البدايات، والأهداف، والآفاق، حاورت "الميادين الثقافية" كلاً من رزان وضاهر الزيداني، وهذه كان إجاباتهما.
ما هي اللحظة الفارقة في حياتكما كشريكين في هذا المشروع الذي أدركتما بأنكما ماضيان فيه رغم العقبات؟
رزان: المرحلة الأولى في مشروع ترميم الدار كانت بين الأعوام 2000 - 2002. آنذاك، رممّنا كلّ غلاف الدار مع الطابق الأرضي من دون الانتقال بتاتاً الى الطابق الأول لعدم توفّر الإمكانيات المادية. الطابق الأول، أي "الدار" (فوق الطابق الأرضي) تم ترميمه على مدى عامين في 2022 و2023. أخلاقياً، وتماشياً مع رؤيتنا في الحفاظ على الموروث المعماري، لم يعد بإمكاننا السماح بالاستمرار في إهمال وهجر وتعطيل هذا الطابق مع رؤية الإمكانيات الكامنة والجمالية والأصالة التي لا غبار عليها. الحقيقة أننا بدأنا الترميم بخطوات صغيرة على أساس أنه سيكون على مراحل وببطء، لكن سرعان ما اكتشفنا أننا منزلقان نحو إكمال المشروع حتى النهاية رغم عدم توفّر الموارد الكافية، وهكذا كان. كانت هناك مقاطع في الترميم، مثل الأبواب القديمة بسكاكرها ومفصلاتها وبلاط الرخام القديم الذي يجب صقله ويحتاج إلى جمع أجزائه المبعثرة وإلصاقها. لم يكن من الممكن الوصول إلى من يتقن هذه المهنة أو يرغب بالقيام بها، فكان الحل أن يقوم أحدنا بهذه المهمة، التي تولاها ظاهر وكانت النتيجة أكثر من مرضية.
كيف تختلف العمارة في أراضي 1948 عن باقي مناطق فلسطين التاريخية؟
رزان: العمارة والعمران في كل منطقة في فلسطين وغيرها من البلدان متعلقة ومتأثرة بعدة عوامل منها: المناخ، والتضاريس والوظائف والإنسان. والاختلاف في العمارة هو في الأساس يعود للاحتياجات وطبيعة الإنسان المستخدِم لها، أي بين الريف والمدينة. وكلما زاد تماسك المجتمع انعكس ذلك في التراص والالتصاق في النسيج الحضري. يختلف عمران المدن بموجب قوتها وازدهارها الاقتصادي، أي كلما كانت المدينة منتجة أكثر ولديها صناعتها المحلية واكتفاؤها الذاتي، كلما ازداد اقتصادها قوة وحصانة. وبالتالي يظهر في تطور عمرانها وإظهار الترف والغنى من خلال إظهار القيمة الجمالية والإبداع في الفن المعماري. المجتمع الفلسطيني، في كل فلسطين إجمالاً، كان يعتمد بالأساس في حياته المعيشية على الزراعة. حتى المدن لم تخلُ من مظاهر الحياة الريفية. ففي أحياء مدينة الناصرة كافة، وليس فقط البلدة القديمة، كان حضور المركبات الريفية من الحواكير وتربية الدواجن يوازي البناء والمشهد العمراني.
وعليه، فإن الاختلاف لا يقتصر على العمارة بين فلسطين التاريخية في أراضي عام 1948 أو غيرها. لأن هذا الاختلاف والتميّز في النسيج العمراني والحضري واقع أيضاً حتى داخل كل مدينة في الأراضي المحتلة. وهذا يرتبط بالمواد المتاحة في المنطقة الجغرافية المحددة. ففي الناصرة مثلاً، كانت المواد المستخدمة من جبل "سيخ" و"القفزة"، وبالتالي نرى الحجر الكلسي أو "الناري" وحجر الصوان يدخل في بناء البيوت،إضافة إلى الخشب والتراب. وهذا يُكسب المدينة هويتها المتميزة عن غيرها من المدن المجاورة.
كيف تستقطبون المشاركين في فعاليات "الدار"؟ هل هناك شركاء محليون؟ وكيف يمكن جذب الجمهور المحلي بشكل عام؟
رزان: الفكرة الرئيسية أن يكون المجتمع المحلي شريكاً بكل برامج الدار. لكن في البدايات واجهنا تحديات كثيرة بسبب الانكسارات والأزمات المتراكمة التي واجهها المجتمع المحلي، وعلى الأخص في إطار العمل الجماعي. ذلك أن كل محاولات إنعاش وإرجاع الحياة لسوق الناصرة، تبقى مؤقتة وغير دائمة بسبب غياب سلطة محلية، فضلاً عن أن الأمر يحتاج إلى قرار ورؤيا دولة يهمها موروثها الثقافي والمعماري.
ونحن في حالتنا، فإننا في حفاظنا على موروثنا الفلسطيني العربي، وكل ما يحمله من معرفة وعلم محلي، هو شكل من أشكال مقاومة أجندة الاحتلال التي تحاول طمس وتزييف المعرفة التي خلقت هوية فلسطينية انعكست في العمارة والعمران، أي الإرث العمراني الفلسطيني بشموليته. وبالتالي،فإن الطريق طويلة جداً للحصول على ثقة وتقدير المجتمع المحلي، ويعمل معنا من أجل إنجاح المشروع.
فكرة المشروع وأهدافه قد لا تروق للاحتلال. ما هي أكبر التحديات التي تواجهكم اليوم بعد افتتاح "الدار" وكيف تتعاملون معها؟
ضاهر: ليس من الصعب شرح موقف النظام الصهيوني من مشروعنا الرافض لثقافة الهزيمة ومناهضتها والباحث عن مكامن القوة في ثقافتنا وصقلها وإبرازها. والحقيقة أننا لم نحاول، بأي شكل، الركض وراء اعتراف سلطة الاحتلال أو دعمها، علماً أنها لم تتعرّض لنا حتى الآن، ثم إن المواهب والقدرات موجودة في محيطنا. فعلى المستوى المجتمعي، هناك الرغبة والشغف والاهتمام بالموضوع والأهداف.
يمكن الحديث عن 3 تحديات رئيسية تعترض طريقنا اليوم وهي: الوصول إلى وعي الفئات الواسعة المعنية في أن تكون شريكة في المشروع، أو كجمهور واسع متلقٍ أو "مستهلك" للمنتوج الثقافي . وفي الحالتين هناك تحدّي كسب الشرعية والثقة بالمشروع وأهدافه والمبادرين له، وهذا لا يأتي إلا مع الوقت وبعد الاختبار المتكرّر والرصيد المتراكم.
ثم الميزانية المالية الضرورية لاستمرار المشروع وتغطية تكاليفه سواء من قبل "المستهلكين" الذين من المحرج مطالبتهم بدفع الرسوم مقابل نشاطات ثقافية، أو من قبل جهات مانحة، حيث نقف بين نارين: رفض التوجّه إلى عناوين إسرائيلية أو صهيونية أو متصهينة من جهة، وخطورة وسهولة اتهامنا بالتواصل وتلقّي الدعم من جهات "معادية". أما خيارنا هنا فواضح، نحن نتوجّه إلى الجهات المانحة المتاحة الداعمة لرؤيتنا وتوجّهاتنا.
أما التحدي الثالث فهو السلطة المحلية، التي ومع أنها عربية منتخبة من قبل العرب الفلسطينيين، إلا أنها تتصرّف كذراع للسلطة الإسرائيلية وتتخوّف من إغاظة سيدها، فنجدها تمتنع عن دعم أي مشروع بحثي أو تطبيقي قد يثير "الشبهات" حول كونه وطنياً فلسطينياً، أو يسعى لأهداف قد لا يرضى عنها المحتل، أو قد يتبيّن له لاحقاً أنها ذات طابع "تخريبي" أو لها صلات مع أطراف "معادية".
لماذا تهتمون في نشاطاتكم الثقافية بالتواصل مع معماريين من العالم العربي؟
ضاهر: الرسالة التي نحاول إيصالها لغيرنا من الفلسطينيين في الداخل المحتل والذين رضخوا للتقسيم الاستعماري الغربي، أننا لا نرى أنفسنا "أقلية" كما يروّج، ولا أسرى منطقة جغرافية هي أراضي العام 1948، ولا فلسطينيين فحسب. بل نحن عرب شاميين وفلسطينيين نحمل ثقافة ولغة واحدة. وهذا ما عمل الاستعمار الغربي على تفكيكه لإضعافنا وهدم ثقافتنا ومعه عمراننا أيضاً. أي التحوّل من مناطق مترابطة تحمل ثقافة مشتركة إلى دول مفككة باتت تسمى اليوم بـــ "الشرق الأوسط"، ثم مناطق 48 و 67 لتعميق التشرذم والتفكك الداخلي. لا يمكن الحديث عن العمران الفلسطيني بمعزل عن امتداده الشامي والعربي الإسلامي.
أما رزان فعقّبت قائلة: نرى في التواصل مع معماريين من العالم العربي، فرصة للاستفادة من خبرتهم في مجال الحفاظ على الموروث المعماري، وخصوصية الثقافة العربية في مقابل تحديات العولمة التي تؤرق كلّ المهتمين في إعادة فهم التراث والتقرّب منه وتوظيفه في سبيل تأكيد الهوية العربية الشاملة، نحو مشاريع تصوّرية مستقبلية لتصميمات معاصرة، لكنها تتناغم مع خصوصيات الثقافات المحلية. كما أن المصمّمين العرب يشكّلون بالنسبة لنا مرجعية أكاديمية وثقافية، مغيّبة عمداً من قبل المؤسسات الأكاديمية الإسرائيلية التي يتخرّج منها معظم العاملين في مجال العمارة هنا في الداخل الفلسطيني المحتل.