الرحيل من "غربة" إلى الغربة
رسالة الماغوط ولحّام واضحة ولا تحتاج إلى تحليلات، فالمطلوب محاربة الجهل والاستبداد، ومباشرة العمل والبناء مهما كانت الظروف، وبناء مجتمع متكامل يعتني أفراده ببعضهم.
قبل أكثر من أربعة عقود، وتحديداً في العام 1976، أطلق الثنائي الأشهر، الكاتب والشاعر محمد الماغوط والفنان دريد لحّام، مسرحية بعنوان "غربة"، أدتها على خشبة المسرح فرقة "تشرين"، وكانت من بطولة دريد لحّام ونهاد قلعي، وعدد من نجوم الصف الأول اليوم، أمثال ياسر العظمة، صباح الجزائري، أسامة الروماني، عبد الهادي الصباغ، وسيدة الكوميديا السورية سامية الجزائري، وغيرهم.
وكمعظم أعمال دريد لحام فإن المسرحية اجتماعية، سياسية، كوميدية وهادفة، يدور محورها الرئيسي حول الأحوال السائدة في سبعينيات القرن الماضي، بإسقاط الأحداث على قرية متخيلة اسمها "غربة" تعاني من استبداد "البيك"، الذي يتمكن من سلب الأهالي رزقهم بشكل مستمر، وجرهم إلى التخلف عن طريق محاولة إغلاق المدرسة وغيرها من التبعات.
يضطر رجال القرية إلى السفر والاغتراب بعد عدة أحداث متتالية، من تمادي ظلم "البيك" وعدم قدرتهم على الحصول على رزقهم بسبب صعوبة الزراعة، لتنتقل الأحداث فيما بعد إلى صورة بلاد الاغتراب، حيث يجسد الفنانون أنفسهم، أناساً من قرى و بلدانٍ أخرى تعاني الظروف القاسية نفسها.
ولكي تكتمل سخرية العمل من الواقع العربي، تتشابه أسماء قراهم، ومشاكلهم مع البيك والفقر والجهل، وتستمر معاناتهم في الاغتراب بسبب سوء المعاملة التي يتلقونها، وعدم قدرتهم على التأقلم مع الغربة، ما يضطرهم في نهاية الأمر إلى العودة لقريتهم، وتكون بهذا قد اكتملت رسالة المسرحية.
المميز في هذا العمل أمران: الأول، وهو بطبيعة الحال ملاحظٌ جداً في أعمال لحّام وكتابات الماغوط، وهو استقراء المستقبل، فعلى الرغم من أن العمل يصور أحداثاً كانت تجري في معظم أرجاء الوطن العربي، لم تختلف الحال كثيراً، وكأن عجلة الزمن تدور مكانها، منتجة الأحداث نفسها تقريباً.
وما شهدته المنطقة العربية خلال العقد الماضي، يتشابه كثيراً مع ما تطرحه المسرحية، وإن اختلفت الظروف والمسببات والأحداث، فلكل زمانٍ صفاته، إلا أن النظرة العامة تفيد بوجه الشبه، وكأنما رأى الماغوط ولحّام ما سيحدث في كرةٍ زجاجية.
أما الأمر الثاني، وهو ربما غير ملاحظٍ كثيراً، أن المسرحية، ورغم تركيزها على الاستبداد والظروف السيئة والجهل وغيرها من الأسباب التي أدت إلى اغتراب المواطنين عن أراضيهم، لا تحمّل كلّ هذه الأسباب جلَّ ما حدث لأهالي القرية.
فالعمل يُفتتح بمشهد نساء القرية وهنّ يتوجهنّ إلى الحقول، فيما يجلس الرجال في المقهى، الذي تملكه فتاة من القرية اسمها "غربة" أدت شخصيتها الفنانة صباح الجزائري، ليغنوا أغنيةً تفسر كلماتها الحال السيئة التي يعاني منها هؤلاء الرجال من التباهي الكاذب، إما باستعراض قدراتٍ هي خارج حدودهم كبشر، أو التغني بأمجاد الأجداد، وكلاهما لن يغير من ظروفهم السيئة.
وتبدأ الأغنية بعبارة "نحنا لو هزينا يابا كتافنا"، والتي تعني أنهم، بأقل الإمكانات، قادرون على تحويل الأرض اليابسة إلى جنةٍ خضراء، وحتى تحويل البحر إلى صحراء، لكنها أعمالٌ خارقةٌ لا تتم فقط بهزّ الأكتاف، والمطلوب أكثر من مجرد هزّ الأكتاف وأقل بكثير من تحويل البحر إلى صحراء، وحتى عند مواجهتهم بصوت العقل المتمثل بـ"الحجة"، داية القرية (القابلة)، التي أدت شخصيتها الفنانة سامية الجزائري، والتي نصحتهم بزراعة الأراضي والوقوف في وجه البيك، حوّل الرجال الحديث إلى استهزاء بالنصيحة.
ربما تكون الرسالة المقصودة من كلمات الماغوط ولحّام واضحة لدرجة لا تحتاج معها إلى تحليلات. فالمطلوب محاربة الجهل والاستبداد، ومباشرة العمل والبناء مهما كانت الظروف، وبناء مجتمع متكامل يعتني أفراده ببعضهم. كل هذه الرسائل وغيرها واضحةٌ تماماً، إلا أنّ العبرة الحقيقة من هذه المسرحية هو العمل. البدء بالعمل من دون لعن الظروف وانتظار فرص خارقة، وإن لم يكن ممكناً إنكار الجو السياسي والاقتصادي السيئ الذي تعاني منه منطقتنا، إلا أنّ الحل لم ولن يكون أبداً بالبكاء على الماضي أو التغني بأمجاد الأجداد، بل بالتفكير والتخطيط للمستقبل والبدء بالعمل مهما كانت الظروف.