يا أحرار العالم اتحدوا من أجل فلسطين، لتحرير أنفسكم!
إن العالم قاطبة، من الجزء إلى الكل، ومن الخاص إلى العام، يعيش صراع خطين حادين متناحرين، عمودياً وأفقياً، معركة طاحنة، يتداخل فيها المحلي بالعالمي. فيا أحرار العالم اتحدوا من أجل فلسطين، لتحرير أنفسكم، لتحرير البشرية جمعاء!
إذا كانت الحرب العسكرية هي خوض السياسة بالبنادق، فإن القضية الفلسطينية تفرض الآن ضرورة خوض الحرب في السياسة من خلال تثبيت مكاسب القضية مرحلياً واستراتيجياً. المقاومة منتصرة ميدانياً وعسكرياً وإعلامياً وأخلاقياً وإنسانياً، من خلال وضعها وإمكانياتها وصمودها.
حدث ذلك بشكل أسطوري، وفي بيئة أسطورية؛ ضيق مجال جغرافي، عُوِّض بجغرافيا الأنفاق، أسلحة بسيطة وراءها إيمان بالنصر واستعداد للتضحية. رغم كل الحصار المطبق من كل الدول وبكل الوسائل، المنع الكلي لدخول الدواء والغذاء والماء، القصف البربري على المدنيين من خلال سماء مفتوحة، مدعوم بكل الجبروت الأميركي والأوروبي، قصف بحجم القنابل الذرية على تجمّع سكاني كثيف وأرض منبسطة ضيقة، لا تمتلك تجاهه غزة أيّ حماية إلا الصمود الأسطوري. رغم كل وسائل الإبادة الجماعية الرهيبة، صارت الأجساد قبة إنسانية تتحطّم عليها مخططات الصهيونية.
أيّ روح هذه التي تواجه أطناناً من الشر والشظايا؟ والطفل في قماطه قد يخدشه القطن؟
سياسة الأرض والإنسان المحروق، ديدن الصهيونية الإجرامية، كل شيء مباح عندها من الشيخ إلى الرضيع، من البشر إلى الحجر، من الأعراف إلى التقاليد حتى القوانين الدولية. إن صورة واحدة لهي أبلغ من كل الكلمات وبكل اللغات. إن مأساة واحدة لهي أبلغ من كل الكلمات والصور بكل اللغات ومن كل الزوايا. إن أنين طفل تحت ركام المباني لهو أبلغ من كل آهات شخص ينظر للتلفاز وهو ينكش أنفه.
ماذا عساي أقول أمام هذه الآلاف المؤلفة من الأهوال، التي رأيناها والتي مرت خلف الكلمات والصور؟ ماذا عساي أضيف بعدما حلل المحللون ونطق الناطقون؟
لا بدّ أحياناً من الكلام ولو جزافاً، لأتحسس نفسي هل أنا موجود أم اختنقت الروح تحت ركام سياسات جبانة لم نخترها من قبل ولا من بعد. وكلما بحثت عن علة أغوص في زلة، حين أقول مثلاً: ليس باليد حيلة لأننا لم نختر هؤلاء الحكام الجبناء أو المتآمرين، فهم لا يعبّرون عن إرادة الشعوب أو الأحياء منهم على الأقل. لكن سرعان ما أقول هذا عذر أقبح من زلة. ثم أتساءل: لماذا هو يحكمنا أصلاً إذا لم يكن يعبّر عن إرادتنا؟ فأقول مرة أخرى: وهل نكرر كارثة "الربيع" مرة أخرى؟ ثم أجيب: لو وضع "الربيع العربي" شعار القضية الفلسطينية بوصلة له لَتقدم في كل القضايا الأخرى. أي - بمنطق الخُلف - لقد تمكنت الصهيونية من تحويله إلى حمام دم، إلى خريف عربي، لأنه ببساطة تخلى عن البوصلة -فلسطين.
القضاء على الصهيونية في منطقتنا هو المدخل الأساس لتحرر العرب وغير العرب من كل القيود وصانعي هذه القيود. إذا كانت الصهيونية تحشو خياشيمها في كل شيء من الخبز حتى الحرية، فهي إذاً رأس كل المصائب. هنا ستفترق الطرق بين ما تريده الشعوب وبين ما يريده المجرمون لها، هنا تتكشّف العنقاء أم السبع رؤوس.
ليس هناك صراع وجودي بين المذاهب والإثنيات والأعراق، بل بين الشعوب والصهيونية على المستوى الوطني والإقليمي والعالمي. لست خبيراً محنكاً، بل أتحدث بالفطرة الشعرية أو العقل الطبيعي، فأقول بداهة: إن الصهيونية أعلى درجات الإجرامية في سُلّم الإمبريالية. فهي مأزق حقيقي لوجود البشرية جمعاء، وهي الخطر المبرم الذي يذكّي النعرات بين أبناء المنطقة، في تربة ردمها الجهل والتعصب. وسيكشف التاريخ أن المنظمات الإرهابية صنعتها المخابرات الصهيونية. من المضحك التحدث عن تهافت نظرية المؤامرة اليوم، فماذا تصنع إذاً المخابرات بكل أشكالها في العالم إن لم تصنع المكائد والمؤامرات؟
هذا التقاطع، هو ما يجعلنا ندرك معنى إحراق الطيار الأميركي آرون بوشنيل نفسه احتجاجاً على جرائم غزة. ولماذا أغلب شعوب الغرب وأميركا اللاتينية وجنوب أفريقيا أشد تضامناً مع القضية الفلسطينية من العرب والمسلمين أنفسهم، ونفهم لماذا نجد في المقابل تيارات دينية وقومية وسياسية - بِنت المنطقة - تنفذ مخططات صهيونية، ومعنى عدم استجابة أحزاب وحركات ومنظمات للحدث، بالشكل المأمول، رغم رفعها شعارات القضية الفلسطينية منذ عقود.
إن القضية الفلسطينية أضحت – قولاً وفعلاً - مركز تحرّر البشرية أو فنائها. ليس بالمعنى الوطني أو القومي أو الديني، بل بمعنى التبلور القيمي الإنساني المتجلي فيها، كما يتجلى كل يوم المسيح على وجه طفل مصلوب تحت قنابل أميركا.
فلسطين هي التجلي الحقيقي لمصير البشرية. فلسطين مقياس الأديان والمذاهب والأحزاب والفلسفات والقوانين...
فلسطين مقياس الذوق والرؤى والعقل والعاطفة، الشعور واللاشعور...
قل لي موقفك من فلسطين، أقول لك من أنت...
أنا مع فلسطين إذاً أنا موجود...
دافعوا عن فلسطين وكأنكم تدافعون عن أسوار مدينتكم.
إن العالم من قبل لم يفعل شيئاً سوى الحديث عن الحرية بطرق ملتوية، لكن المطلوب هو تحرير فلسطين ليتحرر العالم. كلما تأخر تحرير فلسطين اتجه العالم نحو النهاية. وإذا كانت الصهيونية تسيطر على العالم وهذا ديدنها في غزة، فابشري أيتها البشرية بالاضمحلال والفناء، ما دام الصهيوني هو الذي يصنع لقمة عيشك، ويصنع أدويتك، ويتحكّم في حياتك، ولأني لست خبيراً سياسياً ولا عسكرياً فإني لا أخبر جديداً: لا يمكن أخلاقياً إملاء أي شيء على من هو تحت النار، بل هو قول موجّه لمن هو خارج النار، وحين تمْسَسْه نارٌ فهو نور يهدي إلى درب المقاومة والاستقلال.
***
إن أهم نقطة في الحروب هي تخطي الأوهام، ومعرفة حقيقة من هم الأصدقاء ومن هم الأعداء، وتحويل نقاط الضعف إلى نقاط القوة. كما يُقال "اعرفْ نفسك واعرف خصمك تسطع هكذا أن تخوض مئة معركة بلا هزيمة واحدة".
إن نقطة الضعف الوحيدة التي أراها جلية؛ هي هذه السماء المفتوحة للأعداء، التي تُلقى منها الأطنان من القنابل والصواريخ على رؤوس المدنيين من الأطفال والنساء والشيوخ والصحافيين والمسعفين والممرضين والأطباء.
صار كل انتصار عسكري ميداني للمقاومة يُقابَل بمجزرة تُدمي جسم الإنسان الفلسطيني ثم يتداعى لها ضمير الإنسانية من خلال المشاهد الجزئية المنقولة.
إذاً إجرامية الصهيونية لا حدود لها، ولا تراعي كل ما راكمته البشرية من قواعد. قاعدتها الأساس جرائم الحرب والإبادة في أحط صورها. لقد أصبحت القوانين والمؤسسات الدولية أوهاماً تم تصديقها، بل أوهاماً انطلت حتى على أمنائها ومدرائها وموظفيها... لقد تُركوا مفضوحين تحت برق القصف ورعد الكذب الصهيوني المتراكم عبر عقود.
اللافت للعقل، لم نسمع أيّ كلمة من رواد "الحماية الجوية للمدنيين" إبان "الربيع العربي". على الأقل القول بالحماية الجوية للمدنيين في غزة، عوض رمي فُتات الأكل على رؤوسهم، الذي تحول من طعام إلى طُعم لاصطيادهم. فالأقوال لا يصدّقها إلا الحمقى، وأحياناً الحمقى لا يصدّقونها. خطاباتهم العصماء حينذاك تحوّلت إلى مجرد وساطة تُرْضي الصهيوني الأميركي، أو إلى زعيق لتهدئة بعض غضب الشارع المتضامن مع فلسطين. كثيرون هم الذين رفعوا الراية من أجل إنزالها لا غير. إن المنافقين (في الدرك الأسفل من الرهانات).
أما ما تبقّى من اسم شعوب الأمة، لو تململت قليلاً من خدرها، قد تعيد التطبيع إلى مربعه الصفري، أي إلى التطبيع الخفي تحت الطاولة كما كان، فمن يرقص لا يخفي لحيته. لكن المطلوب منها كواجب أدنى، إنصافاً لدم رضيع واحد فقط، أن تفرض قانون تجريم التطبيع، وأن يصبح هذا الحد الأدنى الشعرة التي تفصل الحاكم عن عرشه. فإذا لم ترق هذه الشعوب لهذا الحد الأدنى، فلتحضر نفسها لمسلخ الصهيونية، ولتُشَهِّدْ لفنائها المقبل.
ما جدوى هذا اللاهوت الطقوسي صباح مساء إذا لم يقدْ إلى غزة؟ إذا لم يتحوّل إلى لاهوت للتحرير والمقاومة؟ أم أن الدُّعاة أصبحوا شياطين خرساً تُخرج قرونها على الأحوال الشخصية محواً لعار جبنها وخيانتها، لقضية كانت مدماكاً انتخابياً لا غير، لقد سقطت أقنعة الجميع، بل سقط القناع عن القناع بتعبير الشاعر الفلسطيني محمود درويش.
وجبت إذاً معرفة الصديق من العدو على أرضية الوقائع لا الأوهام. الأصدقاء هم وجود بالفعل وليس بالقوة، فإذا كانت الإرادة هي شوق الفاعل للفعل، بحسب ابن رشد، فإن الفعل هو إرادة تجاوزت الشوق إلى الميدان الحقيقي، وهذا واضح من خلال الفعل المشارك والمساند والمتضامن، هذا الفعل الذي تجاوز المذاهب والجغرافيات والأعراق وكل الهويات المسبقة التي أضحت إبستيمية لغوية لا غير.
ظهرت المساندة بالدم والسلاح، من المحور المعروف بمحور المقاومة، هذا المحور الذي انتصرت فيه نزعة المقاومة والثورة على أي نزعة أخرى. فكان اليمن مؤشراً على نقطة أساسية في تغليب منطق الثورة والمقاومة على الدولة، مما أكسبها زخماً وحرية وإبداعاً وألقاً واستقلالية في الفعل، عوض تغليب منطق الدولة على الثورة.
برز أنّ من يسيطر على المضايق يسيطر على أهم مفاصل العالم، وخصوصاً إذا كان المسيطِر اتجاهاً ثورياً مقاوماً. صار باب المندب عرقوب آخيل ضد الصهيونية، لأن هناك دولة أخلاقية موجودة بمنطق الدولة - المقاومة. ومضيق هرمز ما زال احتمالاً بمنطق الثورة - الدولة. أما مضيق طارق وغيره من القنوات فهي ما زالت تحت منطق دول تحتاج لمنطق الثورة - المقاومة.
أما وهم الدولة في الضفة الغربية فقد كان عائقاً ضد اندفاعة المقاومة، لا هي دولة لثورة، ولا ثورة لدولة، بل هي وهم دولة كابح للثورة، (إن لم نقل ضد الثورة).
إذا رأينا مليّاً، خارج الدول الرجعية التبعية العميلة والمتعاملة، نجد أن الدول التي تُغَلِّب منطق الدولة على الثورة تكون أقل إجرائية وأقل إبداعية كدولة، على الأقل ظاهرياً، ما دامت الخفايا والنوايا لا يعلمها أحد. وبانت دول أخرى أنها غير قادرة على تجاوز الفعل الدبلوماسي العام الكلاسيكي، في وجه مجلس أمن معروف مسبقاً بالفيتو الأميركي.
وهناك دول جعلت مشاغلها الداخلية في كف متساوية مع ما يحدث في فلسطين، رغم أنها تبذل المال والسلاح على قضاياها الخاصة، وأحياناً عن قصد أو غيره تخلط الأوراق. ثم هناك دول لها طموح في أن تشكّل أقطاباً فاعلة لكن مواقفها الرسمية والشعبية ظلت محتشمة، بل لا ترى إلا من كوة مستقبل رهاناتها الخاصة، وليس بالمنطق الأخلاقي المبدئي. ولهذا لم يكن حضورها قوياً ولافتاً إلا من باب التدليل على عدم جدوى سيطرة القطب الواحد.
إن تلك حقيقة جلية تؤشر على أن جرثومة السيطرة والهيمنة قد تنمو من جديد في أبدان أخرى، وتتلبس أرواحاً أخرى. لذا فإن فلسطين يجب أن تكون جوهر أي قطب جديد مستقل في طور التشكّل إلى جانب الأقطاب المتعددة، حتى يخرج المرء من وهم الماضي القطبي. هناك أشياء يجب تأملها في المستقبل أوسع وأعمق مما جاد به الماضي والحاضر. ليس قدراً أن ننتظر تعدد الأقطاب مع أهميتها، بل يجب بناء قطب جديد جوهره القضية الفلسطينية وما يترتب عنها.
لقد حفرت المقاومة حقاً هذه الكُوّة في جدار التاريخ بالدماء.
ثم إن أحرار العالم، هم أصدقاء بالفعل، وليس بالوهم، بل إنهم أقرب جداً من أصدقاء وهميين جمعهم اسم الأمة. أنا شخصياً أراهم أكثر جدية، بالفعل وليس بالقوة، في التضامن مع القضية الفلسطينية من كل دعاة لاهوت الخنوع والإرهاب والطائفية والنعرات القومية، أقرب مما يسمى بأبناء الأمة، إلا إذا كان الوهم ضرورة تاريخية للأمل.
إن الشعوب التي انتفضت في الغرب عموماً، هي لم تنتفض عبثاً - كما أشرت سابقاً - بل رأت مصيرها ومصير العالم بعيون فلسطينية. وهي في أغلبها تحركات ذات مضمون تقدمي، يساري، أممي، تحرري. كما هي مواقف مجموعة من شعوب أميركا اللاتينية ورؤسائها، وحركاتها التي تضع القضية الفلسطينية بشكل مبدئي في برامجها المحلية والإقليمية والعالمية، بل إنها تشكل خط التميز والتمايز عن باقي التيارات اليمينية والفاشية والصهيونية.
إن الوقوف إلى جانب القضية الفلسطينية، لا يحتاج إلى الكثير من الأيديولوجيا، بل إلى الكثير من الأخلاق والمبادئ وصفاء الفطرة الإنسانية. "من ضاق عليه فالجور عليه أضيق"، هكذا يقول الإمام علي بن أبي طالب.
إن الروح الثورية والعقل الطبيعي الثائر لنيلسون مانديلا قاده إلى ربط تحرر جنوب أفريقيا بتحرر فلسطين، بمنطق أخلاقي وعلمي وتاريخي وسياسي واستراتيجي للإنسان. أي أن البشرية لن تنتقل من مملكة العبودية إلى مملكة الحرية إلا بتحرر فلسطين. لهذا قادت جنوب أفريقيا، بروح مانديلا، معركة قانونية مرّغت بها أنف الصهيونية، في القوانين التي أملتها هي نفسها بعد الحرب العالمية الثانية.
تبيّن جلياً أن النازية والفاشية ليس لها دين ولا عرق، بل هي براديغم واحد يمتح من الصديد نفسه، من صفاء العرق والعنصرية، من الاستعمار والاستيطان والسيطرة، إنها مقدمات لنتيجة واحدة. فعوض أن يحرم القانون الدولي المسببات ونتائجها، اكتفى بمظاهرها، فأسس بذلك لمسببات ونتائج أخطر وأشرس من النازية. فها هم القتلة الساديون يأتون من كل أنحاء الصهيونية العالمية، ليمارسوا ساديتهم، التي حسبها البعض مجرد كوابيس سنيمائية، لطالما عوّدوا الناس عليها من خلال أفلام الرعب الهوليودية.
ليس مبالغة ما أقول، فالنازية كانت واضحة في جرمها ومحدودة في دولتها، في حين أن الصهيونية فاشية متغلغلة في كل دول العالم، وتمارس كل فاشيتها بضمانات دولية، وبغلاف إنسانوي، وبدعم مطلق. وكأن النازية مجرد مؤشر بسيط على الصهيونية، التي دشنت وتدشن عصر فاشيتها بأشد الوسائل فتكاً وتطوراً ومكراً واتساعاً وعمقاً.
إن هذه الهزائم العسكرية لسفّاح القرن الــ 21 نتنياهو - كممثل للصهيونية – تجعله مسعوراً لا يريد إنهاء الحرب، لأنها تشكّل نهايته السياسية الحتمية، وتدشن مرحلة حاسمة في اندحار الصهيونية بشكل عام، اندحار خاص يؤشر على اندحار عام، تصب على تناقضاتهم الداخلية زيت الاحتدام.
نهاية هذا السفاح قد تتخذ أشكالاً متعددة لأنه يمثل الشخص- الدولة، فهو لا يمثل نفسه فقط، بل إنه عصارة الصهيونية ومآلها الطبيعي. بمعنى قد يصير كبش فداء بفعل الهزيمة، لإنقاذ الدولة الصهيونية، والمشروع الصهيوني برمته، وما تبقّى من "القيم" الغربية، والأدق ما تبقّى من الأيديولوجيا الاستعمارية المتهالكة، والتي رفعت راية حقوق الإنسان زوراً وبهتاناً. ذلك أن "الدول التي تستعمر دولاً أخرى ليست حرة على الإطلاق،كما يقول كارل ماركس.
ما جدوى الديمقراطية إذا كان وقودها الناس والحجارة؟ ما جدوى حقوق الإنسان إذا لم تكن لجميع الناس؟
يُشفق المرء على هذه الديمقراطية التي فقدت مضمونها البرّاق، بسبب هذه الطغمة من المجرمين المتسلسلين، تحولت إلى مهرجان للافتراس، ما دام زئبق الناخبين يرتفع بحرق أكثر من 30 ألف طفل وامرأة. لم تعد الديمقراطية قادرة عل ستر نتانة الفاشيين المعاصرين، وهل يُصلح العطار ما أفسده الدهر؟
لقد تم التخلي عن قيم الأنوار - بنواقصها - منذ زمن بعيد، منذ أن تمكن الرأسماليون من السيطرة على مقاليد الحكم، وطلقوها نهائياً منذ التحول إلى حركات استعمارية، هذا ليس أمراً جديداً، وقد كشفه المفكرون النقديون في أوروبا منذ القرن الـ 19. إذ أصبحت تلك المبادئ "الأنوارية" راية أيديولوجية للتناحر الداخلي ولاستعباد الأمم الأخرى.
وبالتالي هذا ليس انهياراً لقيم الأنوار أو أي قيمة إنسانية متراكمة كقيمة في ذاتها، مع العلم أنه في البلد نفسه هناك قيم متصارعة، بل هو انحطاط لهذه الدول الاستعمارية، ونكوص مدوٍ حتى عن القيم التي تبناها مؤسسوها أو فلاسفتها في ظروف تاريخية محددة. مع التأكيد أن أغلب السياسيين والعسكريين لا يأبهون أصلاً بما يطرحه الفلاسفة والشعراء إلا اجتزاء وانتهازاً واستثماراً لمصالحهم، بل إنهم مهمشون أمام كلاب الحراسة المأجورين.
إن بايدن وأشباهه لا يقرأون إلا حسابات بنوكهم، ويتكهنون قرب المدفأة وهم يتلمظون نكهة المثلجات، كم عدد الجماجم التي سيحصدونها لإشباع نهمهم اللامحدود. ومن الوهم أن يعتقد البعض أن باريس مسكونة بفلاسفة الأنوار، بل إنها مسكونة بجماجم المستعمرات وأسرار المؤامرات، أما الأدب والشعر والفلسفة والفن فلم يُدشّن بعدُ مساره، إلا حين يتخلص من الأذن الانتهازية لمرضى السياسة والعسكر والاقتصاد.
عموماً، حتى الفكرة التي يتبناها مؤسس ما، في مرحلة التأسيس أو الثورة أو المقاومة، يتبدل مضمونها مع مرور الوقت، لتصبح حمّالة أوجه، بفعل تبدل المواقع والمصالح. فالاستعماري يجتزئ كل شيء لخدمة أغراضه المنحطة؛ إنه يحوّل الحرية إلى مسخ يصادر به حرية الآخرين شعوباً وأفراداً، يحوّل العلم من منقذ للأرواح إلى مبيد لها، يحول التكنولوجيا من فرصة للبشر إلى كارثة مُحْدقة به، يحول حقوق الإنسان إلى يافطة لإبادة هذا الإنسان نفسه، وهذا يسري على كل أيديولوجية، غربية أو شرقية أو ما بينهما، إذا اتخذت مسار الطغيان نفسه، الاستعمار، الفاشية.
هذا الانهيار متعدد الأوجه، مُعْد كالطاعون الأسود، يعبّر عن انهيار ما يسمى بالمنظومة الدولية؛ انهارت المؤسسات الدولية من رأسها إلى أخمص قدميها، من مجلس "الحرب" الدولي إلى المنظمات الإنسانية والحقوقية التابعة لها. غدت مجرد أدوات ناعمة في يد الصهيونية، تستخدمها متى وكيف شاءت، ثم تتخلى عنها في رمشة عين. لا قيمة لقراراتها حتى لو كانت قرارات إيجابية، فهي مفصلة ضد أعدائها، كطفل الحي صاحب الكرة، كلما سُجل ضده هدف يغضب ويحمل كرته معه، تاركاً فريقه وخصمه على ملعب لا معنى له من دون هذه الكرة الوحيدة.
لقد تحوّلت منظماتها إلى خردة من المؤسسات، تآكلت كلياً بسبب رطوبة بحار الدماء المسفوكة.
إن العالم قاطبة، من الجزء إلى الكل، ومن الخاص إلى العام، يعيش صراع خطين حادين متناحرين، عمودياً وأفقياً، معركة طاحنة، يتداخل فيها المحلي بالعالمي. خط ثوري تحرري يساند القضية الفلسطينية مقابل خط فاشي يساند الصهيونية الاستعمارية العالمية، صراع سيولد من خلاله عالم جديد عاجلاً أم آجلاً، سيتحدد شكله بميزان المنتصر والمنهزم. فيا أحرار العالم اتحدوا من أجل فلسطين، لتحرير أنفسكم، لتحرير البشرية جمعاء!