هنا ولدت قصص أنطون تشيخوف
أنطون تشيخوف رائد في فن القصة القصيرة، هل تعرفون في أي مكان ولدت قصصه؟ شاركونا هذه الجولة.
مطارات الجنوب المحاذية لجمهوريتي الدونباس الشعبيتين (دونيتسك ولوغانسك) مقفلة أمام الملاحة المدنية. تحط طائرة "سوخوي 100"، التابعة لشركة "آزيموت"، في مطار مدينة "مينفودي" (المياه المعدنية) ليلاً، وهي مدينة صغيرة تقع على بعد 400 كيلومتر شرق روستوف، عاصمة المقاطعة التي تقع أقصى جنوبها مدينة تاغانروغ، مقصدنا.
"آزيموت" وريثة "دون آفيا" بديل هزيل من "آيروفلوت" العملاقة، إلا أن طائرات هذه الأخيرة محظورة في مطارات العالم بموجب العقوبات الغربية منذ بدء العملية العسكرية الروسية الخاصة في أوكرانيا. كأن الحرب أيقظت "مينفودي" فجأة، فدبت فيها الحياة ربيع 2022، وبات مطارها يستقبل الرحلات الدولية.
في قاعة الاستقبال، رجال يستهدفون الوافدين ويقودونهم خارج المطار إلى الحافلات وسيارات التاكسي. أكون من نصيب بافل الستيني: "يأخذون ألفاً، تعال معي أقلك بستمئة". "لا، خمسمئة روبل" (نحو 6 د.أ.). "موافق، تعال، أعطني سيجارة". طلب سيجارة من شخص غريب أمر عادي في الشارع هنا، وهي عادة تُسمى مجازاً "ستريلات" (إطلاق النار)، والمقصود اقتناص سيجارة من مدخن عابر. نقف في عتمة موقف المطار ندخن صامتين، قبل أن نقطع المدينة من مطارها إلى محطة السكك الحديدية.
يبدو أن العقود الثلاثة الأخيرة لم تشهد أي تطوير في العمارة، فكل شيء على حاله كما تركه السوفيات. لم تحظَ "مينفودي" كذلك بتحديث المرافق خلال التحضيرات لكأس العالم الذي استضافته مدن روسية سنة 2018، ولم تقع على خريطة أي أحداث مهمة. سكانها (60 ألفاً) ناموا منذ ساعات، وعدد قليل من المسافرين مع أمتعتهم في مبنى المحطة ينتظرون مرور القطار فيها.
مسقط رأس أنطون بافلوفيتش
نحطّ رحالنا في "البريستول" (تسنترالنايا سابقاً) الذي لا يشبه الفندق الذي يحمل الاسم نفسه في بيروت سوى في كونه شهد لقاءات سياسية مهمّة. فوق جدار المبنى الأثري الخارجي المطل على شارع بيتروفسكايا (نسبة إلى بطرس الأكبر)، ثبتت لوحة رخامية نقشت عليها باللغتين الروسية والأوكرانية عبارة: "في هذا المبنى، خلال يومي 19 و20 نيسان/أبريل 1918، عقد لقاء بلاشفة أوكرانيا الحزبي، الذي أقر ضرورة إنشاء مؤتمر المنظمات البلشفية الأوكرانية وتأسيس حزب بلاشفة أوكرانيا الشيوعي".
إذاً، في هذا المبنى حُدد مصير جمهورية أوكرانيا السوفياتية الاشتراكية لأكثر من 7 عقود من الزمن. وليس غريباً أن بعض القوميين الأوكرانيين طالبوا بضمها إلى أراضي دولتهم آنذاك، فما أهمية هذه المدينة؟
مطلع القرن الثامن عشر، كانت تاغانروغ قاب قوسين من أن تغدو عاصمة الإمبراطورية الروسية، فهي أول مدينة قيصرية بنيت وفق مخطط هندسي مسبق، وميناؤها الأول في العالم الذي بني على البحر المفتوح، وليس على خليج طبيعي.
تكشف مراسلات الإمبراطورة يكاترينا الثانية (1729-1796) مع الفيلسوف والمعلم الفرنسي فولتير (1694-1778) أمراً مهماً حول المدينة.
يقول مؤرخ تاغانروغ بيوتر فيلفيسكي (1856-1951) في قصاصاته: "كتبت يكاترينا رسالة إلى فولتير تفاخرت فيها بعمارة آزوف وتاغانروغ، وهو أمر لم يعجب السلطان مصطفى الثالث (1717-1774) كثيراً. راسلت الإمبراطورة فولتير غير مرة عن تاغانروغ... في 3 آذار/مارس 1771، أبلغته بأن بطرس الأكبر لم يستطع أن يقرر لمدة طويلة ما إذا كان سيعطي الأفضلية لتاغانروغ أو بطرسبورغ لتغدو عاصمته"، إلا أن الكلمة الفصل كانت للجغرافيا، فالمدينة كانت الأقرب إلى موقع الحامية البحرية العثمانية، وهي عرضة للخراب، ما أجبر القيصر على التخلي عن خطط نقل العاصمة إليها عام 1711.
على الرغم من جاذبية احتمال تحول تاغانروغ إلى عاصمة الإمبراطورية أو أن فيها حُدد مصير أوكرانيا، إلا أن هناك ما هو أكثر أهمية حمل هذه المدينة إلى العالمية، فهي مسقط رأس الكاتب الروسي الكبير أنطون بافلوفيتش تشيخوف الذي ترك بصمات لا تمحى في فن القصة القصيرة، والذي يلاقي اسمه الإجلال في العالم.
مرّ نحو عام ونصف عام على الهجمة الغربية المسعورة المشحونة بـ"الروسوفوبيا" ضد الثقافة الروسية، إلا أنها لم تقوَ على المسّ بعظمة تشيخوف، إلى جانب عدد من أعلام الأدب البارزين.
المتجر والمدرسة
تجذبنا المدينة الصغيرة إليها جذباً صوفياً، كما لو أن كل شيء فيها يلهج بذكر تشيخوف، فننقاد إليها، عدا عن الشوارع والمؤسسات التعليمية والثقافية التي سميت باسمه. هنا ولد وترعرع ولعب وتعلم القراءة والكتابة وأنهى مراحله الدراسية الأولى، قبل أن ينتقل إلى موسكو ليغدو طبيباً وكاتباً قصصياً ومسرحياً شهيراً. هنا الدروب الترابية المظللة بالأشجار الوارفة، وبستان الكرز، والوحول الربيعية، والحر القائظ صيفاً. هنا شخوص قصصه الأولى وناسه الأوائل.
كيف تمكّن أنطون بافلوفيتش من وصف الحياة الروسية في عصره مستخدماً لغة ممتنعة بسيطة خالية من المحسنات اللفظية والتكلف؟ وكيف بات أبرز ممثل للمدرسة الواقعية الروسية في أواخر القرن التاسع عشر؟
يقال إن كل شيء يبدأ من الطفولة، وقد كانت طفولته صعبة، أو كما قال: "حين كنت طفلاً لم تكن لدي طفولة"، فقد تركت هذه المرحلة أثراً مؤلماً عاش معه طوال حياته.
في منزل صغير متواضع مبني بالحجر الطيني، وضعت يفغينيا ياكولفيفنا طفلها أنطون سنة 1860. كان ثالث ستة بين أطفالها، وكان والده صارماً في تربيتهم. اليوم، يحمل الشارع اسمه. تستقبلنا إيرينا، وتدور بنا بين الغرف الضيقة، وترينا موجوداتها القليلة. الطقس ربيعي لطيف، على الرغم من أن الصيف بدأ رسمياً مطلع حزيران/يونيو، إلا أن رطوبة البحر القريبة والأمطار المتقطعة المستمرة صيفاً تمنح الزائرين شعوراً بالانتعاش. نجلس في الخارج في ظل شجرة معمرة فوق المرجة الخضراء الممتدة بين الشارع والمنزل الأبيض ذي القرميد الأخضر.
لم تستمر الحياة هنا طويلاً، فقد افتتح الوالد محل بقالة غير بعيد عن مبنى محطة السكك الحديدية. باتت مساعدة الأب في تجارته إلزامية لأبنائه، كما ألزمهم بالأنشطة الكنسية والاجتماعية، فكان على الأطفال التنقل بين محل البقالة والمنزل الكائن في الطبقة الثانية فوق المحل والمدرسة والكنيسة التي انخرطوا في جوقتها.
تسببت التقوى الظاهرية المفرطة لدى الوالد بنفور عند أنطون الطفل. كتب عن طفولته: "شوه الاستبداد والأكاذيب طفولتنا إلى درجة بات تذكرها مخيفاً ومقززاً في آن"، لكن المتجر أفاد أنطون الفتى، إذ كان عليه أن يناوب فيه يومياً، فاعتاد مراقبة حياة الناس العاديين اليومية، ما مكّنه من الجلوس بهدوء لمدد طويلة مستمعاً إلى أحاديث المشترين ونمائمهم وشكاواهم، ومشاهدة انفعالاتهم في أفراحهم وأتراحهم. وإلى جانب ميزته كمستمع مهتمّ جيد، بات لديه مخزون هائل من "الخبريات" العادية اليومية.
وفّرت ثانوية تاغانروغ للذكور تعليماً كلاسيكياً ممتازاً لأنطون الفتى. كانت مؤسسة تعليمية شهيرة يمكن لخريجيها الالتحاق بأي جامعة في الدولة من دون الخضوع لامتحانات، وكانت شهادتها تمكنهم من الدراسة في الخارج.
شهدت الثانوية بداية أنشطته مع ظهور حبّه للأدب وكتابته أعمالاً إبداعية قصيرة. نشر تشيخوف قصصاً هزلية مضحكة مستقاة من الحياة اليومية ورسومات تخطيطية وتعليقات، ووقعها باسم "تشيخونتي"، كما كان يناديه مدرّس مادة "دستور الربّ" التي كانت إلزامية في الحقبة القيصرية.
حين كان في الــ 16 من عمره، أفلس والده ونقل العائلة إلى موسكو، لكن أنطون بقي في تاغانروغ لينهي دراسته. تحرر آنذاك من العمل في المتجر، ما أدى إلى تحسن مستواه الأكاديمي بشكل كبير. تكونت في الثانوية شخصية تشيخوف، وفتحت أمامه الطريق إلى النضوج الفكري، وتطوّرت الأسس الروحية للكاتب المستقبلي بين أزقة تاغانروغ وشوارعها القليلة.
نترك الثانوية التي لا تزال قائمة، ولا تزال تحمل اسم الكاتب. نسير في تلك الأزقة الطويلة نحو البحر حيث "بريموسكي بارك". نحو خليج تاغانروغ على بحر آزوف، حيث يصب نهر الدون العظيم. نترك أنطون تشيخوف فتى يوضب حقيبة سفره ليلتحق بعائلته في موسكو، حيث سيغدو طبيباً وكاتباً من كبار مبدعي روسيا والعالم.