مظفر النواب: الشاعر العربي الحزين خارج الحزن
مثّلت حياة الشاعر الراحل مظفّر النوَّاب رحلةً طويلةً، قادته من الريف إلى السجن إلى المنافي، ليعود اليوم إلى وطنه العراق، حيث احتضنه ترابه.
تقفُ حياةُ مظفر النوّاب الخاصّة بموازاةِ تجربته الشعرية، إنّها رحلةٌ طويلةٌ وعريقةٌ من الريفِ إلى السجن إلى المنافي، أو السجون المتلاصقة كما يعبّرُ هو في قصيدته الشهيرة "الحانة القديمة":
وقنعتُ يكونُ نصيبي في الدنيا
كنصيبِ الطَير
لكنْ سبحانك حتى الطيرُ لها أوطانْ
وتعود إليها
وأنا مازلتُ أطيرُ
فهذا الوطن الممتد مِنَ البحرِ إلى البَحرِ
سجُونٌ مُتَلاصِقةٌ
سَجّانٌ يَمسُكُ سَجّان.
رحلة النوَّاب جعلته قريباً من الكادحين والحزانى والمقهورين، إلى حدِّ أنّه كتبَ القصيدةَ الشعبيةَ بالأسلوب الذي أخرجَ اللهجةَ من محليّتها، إذ أصبحتْ على سبيل المثال قصيدتهُ "مو حزنْ لكنْ حزين" بمثابة أنشودةٍ تُردَّد على امتداد الوطن العربي، ومثلها غنائياته الأخرى لا سيما "حن وأنا حن"، التي لحّنها طالب القرغولي و غناها المطرب ياس خضر، وكذلك قصيدته الرمزية التي حافظتْ على قوّتها وحرارتها بالرغمِ من مرور نصف قرنٍ على تاريخ كتابتها، وهي قصيدة "مضايف هيل"، أو "جرح صويحب" كما يسمّيها عُشّاقهُ، وقد لحّنها و غنّاها الفنان سامي كمال، وهي القصيدة التي ردَّدها المشيّعون في جنازته، التي انطلقت من مبنى اتحاد الأدباء والكُتّاب في بغداد، لتكون أقرب إلى مظاهرةٍ وطنيةٍ وثقافيةٍ منها إلى مراسيم توديع شاعرٍ نحو مثواه الأخير في مدينة النجف، كما طلب في وصيّته:
مَيلن، لا تنكَطن كحل فوكَ الدم
مَيلن، وردة الخزّامة تنكَط سم
جرح صويحب بعطابه ما يلتم
لا تفرح ابدمنه لا يلگطاعي
صويحب من يموت المنجل يداعي.
الاستماع سرّاً إلى القصائد الممنوعة
يُخبر الشاعرُ والمترجمُ العراقي محمد تركي النصار الميادين الثقافية عن علاقتهِ بعالَم مظفّر النواب، الشعريّ والثوريّ في الآن نفسه، فيقول:
"تمتدُّ علاقتي الشعرية بالراحلِ مظفّر النواب إلى أكثر من أربعين عاماً، حينما كنتُ فتىً يافعاً أقرزم الأبيات الشعرية. ففي العام 1977، حدّثني صديقي علي المولع باليسار والشعر عن مفاجأةٍ بانتظاري. قالها وهو خائف بعض الشيء. لم أستطع الانتظار، وأردتُ أن أعرف ماهي تلك المفاجأة، فذهبنا إلى داره القريبة من دارنا، وجلسنا في غرفته ليُسمعني قصيدة مظفر النواب، الممنوعة من التداول والنشر آنذاك، بسبب جرأة آرائه وفضحه للظلم والطغيان والحكومات الفاسدة، ونفوره من كل الأنظمة العربية في تلك الحقبة".
قصائد النواب كانت ممنوعةً، تُهرَّبُ في الأشرطة وتُحفظ من دون قصدٍ حتى قبل التعرفِ على ملامح وجهه الحزينة.
ويرى النصار أنَّ مظفر النواب بالنسبة له "هو شاعرُ التطابق بين الموقف والإنسان، إذ يقلُّ أن تجد شاعراً كرَّسَ حياته للدفاع عن وجدان الناس العُزَّل البسطاء وقضاياهم وهمومهم الحياتية مثله".
قصائده إذن كانت ممنوعةً، تُهرَّبُ في الأشرطة وتُحفظ من دون قصدٍ حتى قبل التعرفِ على ملامحه. فالمرة الأولى التي نشرت له جريدة "الثورة" العراقية مثلاً إحدى قصائده، مرفقةً بتقاطيع وجهه وحزنه الصامت، كانت في العام 1991، قبل أسابيع من "حرب الخليج الثانية".
المباشَرة ميزة شعره لا عيباً فيه
اعترف النواب بأنَّ قصيدته تتصفُ بالمباشَرة، وهو لم يعتبر ذلك عيباً، فالشعر بالنسبة له ينبغي أن يُعبّرَ عن صُلب القضايا الإنسانية، لذلك كانت فلسطينُ حاضرةً منذ قصيدته الشهيرة "وتريات ليلية".
يعتبر الناقد الفلسطيني عادل الأسطة، في حديثه للميادين الثقافية، أنَّ "الأسطرَ القليلة التي خصَّ بها النوابُ القدسَ صارت أشهر ما كُتبَ عن المدينة"، ويضيف "ظلّ الهمُ الفلسطيني يؤرقه، ففي الانتفاضة الثانية التي استشهد فيها الطفلُ محمد الدرّة، وحاصرت خلالها القوات الإسرائيلية مخيّم جنين وسوّت أكثر مبانيه بالأرض، كتبَ النوابُ عن الحدث مشيداً بالمقاومةِ الباسلة التي أبداها المحاصرون، فصارتْ قصيدة "جنين" تُستحضر باستمرار، وكلّما حُوصر المخيم وقاومَ أبناؤه وازدادت مقاومتهم ضراوةً، استحضرت القصيدةُ، حتى لكأنَّ كاتبها فلسطيني من مخيم جنين".
كلّما حُوصر مخيم جنين وقاومَ أبناؤه وازدادت مقاومتهم ضراوةً، استحضرت القصيدة التي كتبها النوَّاب، حتى لكأنَّ كاتبها فلسطيني من مخيم جنين.
ليس الهمُّ الفلسطيني فحسبْ، بل الهمّ العربي من بغداد إلى ظُفار ودمشق وأريتريا، التي حمل فيها السلاح أربعةَ أشهرٍ، فهو يرى أنّ هناك بُعداً جمالياً في الثورة إضافةً إلى بعدها السياسي، وعلى حدِّ تعبيره "وجودك على حافة الخطرِ يجعلُ الجسمَ مثل جهاز رادار تختلفُ استقبالاته".
أثر عائلته في غنائية شعره
تعامل مظفر النواب مع الهموم السياسية كما تعامل نزار قباني مع الحبّ، فكلاهما أخرجا القصيدةَ من برجها العاجي وجعلاها تدور على ألسنةِ الناس. وقد كان لتاريخ عائلته الأثر البالغ على غنائية شعره وحزنه اللاذع، فهو من عائلةٍ هاجرت من الجزيرة العربية إلى العراق، ثم إلى كشمير في الهند بعد اضطهاد العباسيين، ثم إلى العراق مرةً أخرى بعد الاحتلال البريطاني للهند، وبعد ذلك أتى الطفل مظفر "ليكمل الرحلة" على حدِّ تعبيره، فيشارك في أوَّل مظاهرةٍ له سنة 1948 ضد "معاهدة بورتسموث"، وهو طالبٌ في صفوفه المتوسطة لا يفهم من المعاهدة إلا ما يدورُ من حديث عائلي في البيت، إذ كان الجو العائلي مشحوناً بالكلام عن النفي وعن الحقوق المهضومة وعن الإنكليز.
تعامل مظفر النواب مع الهموم السياسية كما تعامل نزار قباني مع الحبّ، فكلاهما أخرجا القصيدةَ من برجها العاجي وجعلاها تدور على ألسنةِ الناس.
أتت بعد ذلك تجربته الشهيرة والمريرة في الهربِ من سجن "نقرة السلمان"، إذ كان الهربُ عن طريق تلك الحفرةِ هو الهربُ نحو حريةٍ ظلَّ الشاعرُ يبحث عنها وينشدها في شعره وفي حياته أيضاً، وهذا الهاجس من البحث الدائم عن الحرية هو الذي يمكنُنا من اعتبار أن النواب شاعراً سياسياً .
فالسياسة في شعر النوابِ وفي رؤيتهِ ليست اتجاهاً أيديولوجياً بقدر ما هي نُزوعٌ فطريٌّ و إنسانيٌّ مصدره الكفاح من أجل عالمٍ خالٍ من القهر والظلم، أو خالٍ من تبريره على الأقل، وهذا ما يقصده الشاعر والمترجم التونسي عبد الواحد السويح، في حديثه للميادين الثقافية، بقوله إنَّ "مظفر النواب ليس بشاعرٍ عراقيٍّ رغم الدماء العراقية التي تسري في جسدهِ، وليس بشاعرٍ عربيٍّ رغم اللغة العربية التي كتبَ بها، مظفّر شاعرٌ تخطّى هذه الحدود الضيقة وحلق في الفضاء الإنسانيِّ الرَّحب الذي يضمُّ الفئات المسحوقةَ والشعوبَ المضطهدة، وهي الأغلبية في هذا الكون".
السياسة في شعر النوابِ وفي رؤيتهِ ليست اتجاهاً أيديولوجياً بقدر ما هي نُزوعٌ فطريٌّ و إنسانيٌّ مصدره الكفاح من أجل عالمٍ خالٍ من القهر والظلم، أو خالٍ من تبريره على الأقل.
ويشير السويح إلى أنَّ "قصائد النوَّابِ بمختلف أنواعِها فيها ممارسةٌ ذكيةٌ للتغريبِ البريختي، الذي وإن كان متصلاً بالمسرح إلا أنّه وظّفهُ في الشعرِ، فكتبَ بالعاميةِ والفصحى، واستدعى القواميسَ المحرّمةَ ولغة القاعِ بهدف تسييس الجماهير الشعبيةِ في مختلف أنحاء العالم، فكان شعرهُ تسييسيّاً بالأساس وليس سياسياً، لأنَّ غايةَ الرجلِ إيقاظ العقولِ النائمةِ وحثّها على اتخاذ موقفٍ مما يجري حولها، ومن المؤامرات التي تُحاك ضدها".
ويختم الشاعر التونسي بالقول: "إنِّي أكاد أجزمُ أنَّ شعر مظفر النوّاب خالٍ من الأيديولوجيا، على الرغم من كُلِّ ما قيلَ عنه".