مصطلح "الأمّة": أسبقية النص العربي على النص الغربي
يعتبر كتاب "مفهوم الأمة بين الدين والتاريخ" فريداً من نوعه في اللغة العربية. كيف تتبّع فيه الدكتور ناصيف نصّار نشوء فكرة الأمة وتحولاتها في التراث العربي الإسلامي الوسيط؟ وما هي الخلاصات التي توصّل إليها؟
تدلُّ الأبحاث الاجتماعية المعاصرة حول فكرة "الأمّة"، نشوءاً وتطوراً ومفهوماً، إلى أسبقية النص العربي على النص الغربي، الذي عادةً ما يدّعي أسبقيةً على سواه، في كلِّ علمٍ وكلِّ فكرٍ وكلِّ فنٍّ وكلِّ فلسفةٍ...الخ.
هذا السبق التاريخي للنص العربي على سواه من النصوص الأخرى، خصوصاً الغربية منها، يُفقد المركزية الأوروبية، هذه المرّة، سطوتها الفكرية والسياسية في مجال العلوم الاجتماعية، ودليلنا إلى هذا الاستنتاج مجموعة دراسات، أجنبية وعربية، لعلماء اجتماع عرب وأجانب. [1]
الأمة في الفكر العربي الإسلامي
تحتلّ فكرة الأمة مكاناً مرموقاً في الفكر العربي الإسلامي، منذ ما قبل العصر الوسيط حتى أيامنا هذه، بينما كان على الغرب الأوروبي أن ينتظر حتى أواخر القرن الـ18 الميلادي لكي يكتشف هذه المفردة الساحرة، ويتنبّه مفكروه إلى وجوب تعريفها تعريفاً خالياً من كل ميل عرقي أو ديني أو عاطفي، آخذين في الاعتبار دروساً أملتها عليهم موجات التطرّف التي كانت تجتاح أوروبا في تلك المرحلة، فتعاقبت التصريحات والتعاريف لهذه المفردة، وكانت متشابهة في معظمها، ومرتكزة في أكثرها إلى نصوص كبار العلماء الغربيين، مثل الألماني فون هردر (1744- 1803)، الذي اقترح تحديداً للأمة يرتكز على "الأرض الواحدة واللغة المشتركة"، وفيخته في خطابه إلى الأمة الألمانية (1807)، الذي أصرّ على "وحدة الشعب وأهمية اللغة".
ثم باسكال منتشيني الإيطالي في خطابه في جامعة تورنتو الكندية (1851)، حيث عرّف الأمة بأنّها "مجتمع طبيعي من الناس، ذو وحدة جغرافية ووحدة عادات ولغة، خاضع للاتحاد في الحياة والوجدان الاجتماعي"، ورنان الفرنسي في كتابه "ما الأمة؟" (1882)، الذي يشدّد فيه على "المبدأ الروحي" للأمة، حيث يلعب اللسان أو اللغة دوراً محورياً.
تحتلّ فكرة الأمة مكاناً مرموقاً في الفكر العربي الإسلامي، منذ ما قبل العصر الوسيط حتى أيامنا هذه، بينما كان على الغرب الأوروبي أن ينتظر حتى أواخر القرن الـ18 الميلادي لكي يكتشف هذه المفردة الساحرة.
وقد تأثّر دعاة "القومية العربية"، لا سيّما البعثيون منهم، بنظرية رنان، ونسجوا نظريتهم العروبية على منوالها.
وفي سنة 1915، عرّف إميل دوركهايم، مؤسّس علم الاجتماع الحديث، القومية بأنّها "جماعة إنسانية تريد، لأسباب إثنية أو تاريخية، أن تحيا في ظل قوانين معيّنة، وأن تُشكّل دولة".
أما م. إيوانوف فقد حدَّد القومية، في كتابه "البلغاريون أمام مؤتمر الصلح" (1919)، بالحدود الجغرافية واللغة والدين والأدب والتقاليد.
وبالرغم من حركة العولمة المتصاعدة التي تجتاح المعمورة، منذ مطلع الألفية الثالثة، متخطّيةً في نظر المتحمّسين لها الدول القومية، فإنَّ المجتمعات المعاصرة، خصوصاً مجتمعات العالم العربي، لا تزال تغفو وتستيقظ على سحر القومية وفاعليتها في النفوس، مؤمنة إيماناً راسخاً بتحققها، عاجلاً أو آجلاً.
هذا ما يذهب إليه الدكتور ناصيف نصار في كتابَيه الرائدين، "مفهوم الأمة بين الدين والتاريخ" [2]، و"تصوّرات الأمة المعاصرة" [3]، حيث يتناول في الكتاب الأول ظاهرة الأمة وتحوّلاتها في الفكر العربي الإسلامي الوسيط، فيما يتناول في الكتاب الثاني ظاهرة الأمة وتطوّرها في الفكر العربي الحديث والمعاصر.
القرآن: النصّ الأول
يتتبّع الدكتور ناصيف نصّار، في كتابه الأول، فكرة الأمة وتحولاتها في التراث العربي الإسلامي الوسيط، منطلقاً من القرآن كنقطة ارتكاز باعتباره "النصّ الإسلامي الأساسي الأعلى على امتداد العصور الوسطى العربية الإسلامية" (ص13)، كما يقول. ويختتم بابن الأزرق الأندلسي، الذي شهد بدايات الانتقال من عصور الدولة الدينية إلى عصور الدولة القومية، في القرن الـ15 الميلادي (ص129).
يجب أن نعترف هنا أنَّ كتاب "مفهوم الأمة بين الدين والتاريخ" هو الأول من نوعه، وربما الوحيد في اللغة العربية، الذي يتناول موضوعاً كهذا، فيضيء لنا صفحات مجهولة من تاريخنا السياسي والاجتماعي، ولذلك أصبح هذا الكتاب من المراجع الكلاسيكية في ميدان الدراسة التاريخية للمفاهيم الاجتماعية.
يبدأ نصار بحثه عن مفهوم الأمة في القرآن بالقول إنه "لا يمكن تكوين فكرة متينة عن المكانة التي تتمتّع بها فكرة الأمة في القرون الوسطى العربية الإسلامية، وبالتالي لا يمكن فهم الإشكالية التي تحيط بفكرة الأمة في العالم العربي المعاصر، من دون دراسة مضمونها وموقعها في النصّ القرآني" (ص13). حتّى أنَّ الأيديولوجية القومية التي تجتهد، برأيه، في صياغة تصوّر عصري مستقلّ لمفهوم الأمة، يتجاوز التصوّر القرآني، تقع دائماً تحت تأثير هذا التصور، وذلك لـ"أسبقيته في التراث، وتأصّله في النفوس المتدينة" (ص13).
ويؤكّد نصّار، من ناحية أخرى، أنَّ دراسة مفهوم الأمة في القرآن دونها صعوبات، أهمّها خلوّ النص القرآني من أي تعريف محدّد لمعنى لفظة الأمة. وقد أدرك مفسرو القرآن هذه الصعوبة وعالجوها بطريقة التأويل على الرغم من أنّها "طريقة غير صارمة، ولا تُزيل جميع الالتباسات التي تلازم استعمال لفظة الأمة في كثيرٍ من آيات القرآن" (ص15).
يبدأ نصار بحثه عن مفهوم الأمة في القرآن بالقول إنه: "لا يمكن تكوين فكرة متينة عن المكانة التي تتمتّع بها فكرة الأمة في القرون الوسطى العربية الإسلامية، وبالتالي لا يمكن فهم الإشكالية التي تحيط بفكرة الأمة في العالم العربي المعاصر، من دون دراسة مضمونها وموقعها في النصّ القرآني".
ويحدّد نصّار ورود لفظة "الأمة" في آيات القرآن، بصيغة المفرد، أكثر من 50 مرة، وقد حملت معانٍ عديدةً أهمها: (1) الطريقة المتّبعة. (2) جماعة من الناس. (3) الجماعة المتَّفقة على دين واحد. وهذا المعنى الأخير هو ما يعتقد الطبري بـأرجحيته على سائر المعاني.
أما في ما يخصّ المفسرين للآيات القرآنية المتعلقة بمفهوم الأمة، فيرى نصّار أنّهم لم يتعمّقوا كفايةً في درس مفهوم الأمة، مجرَّداً عن مفهومَي الطريقة والملّة، فاختلطت على أكثرهم هذه المصطلحات ومعانيها، الأمر الذي تنبّه له لاحقاً كلٌّ من الفارابي والمسعودي وابن خلدون، وعملوا على معالجته عن طريق التمييز بين المفهوم الاجتماعي التاريخي الوثيق الصلة بالأمة، والمفهوم الشرعي للطريقة أو المِلَّة.
ويضيف نصار إلى ما تقدّم ملاحظتين، تتعلّق الأولى باستعمال بعض الكتّاب لكلمة "أمة" على الطريقة القرآنية، أو كتقليد لتلك الطريقة، الأمر الذي لا يساعد الفكر الاجتماعي العلمي على التقدّم في التحليل والتفسير. أما الملاحظة الثانية فتتعلّق بفكرة الأمة الإسلامية. فالأمة الإسلامية هي، من جهة، الإسلام نفسه كما هو في القرآن، وهي من جهة ثانية الجماعة الشاملة التي تتخذ الإسلام ديناً لها، كما تطوّرت في الواقع التاريخي.
ما هو تعريف الأمة عند الفارابي؟
يتميّز النص الفارابيّ، بين مجموعة النصوص الواقعة بين النصّ القرآني والنصّ الخلدوني، بخاصيّةٍ قلّما عرفها نصّ آخر في التراث العربي الإسلامي الوسيط، على ما يذهب نصّار في كتابه. فالنصّ يتضمّن كلاماً يتّجه نحو واقعية التحليل الخلدوني، وكلاماً ينحو نحو مثالية الأمر القرآني. ولهذا السبب، تشكّل فلسفة الفارابي المحاولة التي تحمل أغنى وأعمق الدلالات بالنسبة إلى مشكلة التفلسف في الثقافة العربية الإسلامية (ص13).
يلاحظ قارىء الفارابي، خصوصاً قارىء كتبه السياسية، هذا الربط بين المدينة والأمة، الذي تبيّنه نصار في دراسته وتوقّف عنده مليّاً.
لا شكّ أنَّ المدينة تحتلّ مكانة محورية في تقسيم الفارابي للاجتماع الإنساني، بحسب نصّار، بين اجتماعات كاملة وأخرى غير كاملة. والمدينة عنده جماعة تخدمها القرية، وتدخل في تأليفها السكّة والمحلّة، وترتكز عليها الأمة التي هي وحدة طبيعية اجتماعية سياسية متميزة، وليست مجرّد مجموعة من المدن. أما المعمورة فلا يصرّح الفارابي كيف يتصوّرها: وحدة جغرافية اجتماعية سياسية، أم مجموعة أمم؟ فربما كان مشكِّكاً أو غير متيقّنٍ تماماً من إمكانية صيرورة العالم كله أمة واحدة، أو المعمورة كلها مجتمعاً متجانساً! مع أنّه كان يعيش في عصر إمبراطوري عالمي النزعة، شكّلت الدولة العباسية، بوصفها خلافة إسلامية، إحدى محطاته الرئيسة، ما يعني أن النزعة الأممية لم تكن غائبة في زمانه، أقله في المشهد الفلسفي.
تحتل المدينة مكانة محورية في تقسيم الفارابي للاجتماع الإنساني، بحسب نصّار، بين اجتماعات كاملة وأخرى غير كاملة. والمدينة عنده جماعة تخدمها القرية، وتدخل في تأليفها السكة والمحلة، وترتكز عليها الأمة التي هي وحدة طبيعية اجتماعية سياسية متميزة، وليست مجرّد مجموعة من المدن.
ولا بُدَّ هنا، استكمالاً لجلاء الفكرة، من قول كلمةٍ في مفهوم "الِملَّة"، الذي يختلط في الأذهان بمفهوم "الأمة". ففي فلسفة الفارابي يتميز مفهوم المِلَّة، بشكل واضح، عن مفهوم الأمة، فالأمة جماعة معيّنة من الناس، بينما الِمَّلة مجموعة آراء وأفعال مرسومة لحياة جماعة معيّنة (ص48). بهذا المعنى، يصبح مفهوم المِلَّة مرادفاً لمفهوم الشريعة أو الأيديولوجية، بالمعنى العصري، ولمفهوم الدين، وأيضاً لمفهوم السُّنّة.
مفهوم الأمة في نظرة المسعودي إلى التاريخ
من نافل القول إنَّ المسعودي مؤرِّخٌ وليس مفكِّراً اجتماعياً، ما يعني أنَّ الأمة، بمعناها الاجتماعي الدقيق، لا تجد لها تعريفاً واضحاً في كتاباته، مع أنَّها واحدة من المفاهيم الرئيسة في هذه الكتابات، إن لم تكن أهمها على الإطلاق. وبالرغم من عدم اهتمامه بالصياغة النظرية لمفاهيمه، ولمفهوم الأمة بشكل خاص، فإنَّ من الممكن استخلاص عناصر تلك المفاهيم بوساطة التفسير حيناً، والمقارنة حيناً آخر، وبالافتراض حيث يُفيد الافتراض في أحيان أخرى (ص52).
يذكر نصّار، بدايةً، أنَّ الإشارة الأولى إلى تصوّر الأمة في نظرة المسعودي إلى التاريخ، متوفِّرةٌ في عنوان كتابه الأكبر "أخبار الزمان"(*)، حيث يذكر في المختصر الرابع والأخير منه أنَّ التاريخ العالمي هو تاريخ الأمم العظيمة، من دون أن يُهمل الأمم الصغيرة، فهو يتوسّع في الكلام عنها حيث يرى ذلك ضرورياً (ص59).
وفي إشارةٍ ثانيةٍ إلى نظرة المسعودي إلى الأمة، يُبيّن نصّار أنَّ هذا المؤرّخ لم يعتمد النظرة الدينية الضيقة، التي لا ترى في التاريخ سوى المشيئة الإلهية، ولا النظرة القومية المذهبية، التي تردُّ كلَّ الحادثات التاريخية إلى انقسام النوع البشري إلى أممٍ متباينة متنازعة، ويُضيف أنَّ الشيء الأساسي الذي لا بُدَّ من إعطائه حقَّه من الاعتبار هو أنَّ المسعودي "لم يستعمل كلمة أمة بالمعنى الديني، ولم يستعمل عبارة الأمة الإسلامية. فالمسلمون هم "أهل المِلَّة"، وليسوا وحدهم أصحاب مِلَّة. فالمِلَّة والدين لفظتان مترادفتان على وجه العموم تحت قلم المسعودي. أما الأمة، فإنه يستعملها فقط بالمعنى الاجتماعي التاريخي" (ص61).
والأمم السبع التي يذكرها المسعودي هي: الفرس، الكلدانيون، الروم، الأفارقة، الترك، الهنود، والصينيون.
أما المقومات التي تجعل من الواحدة من هذه الأمم أمة، فيحصرها المسعودي في اللسان وفي الوحدة السياسية، وكأنه "يحدّد مفهوم الأمة باللسان الواحد والدولة الواحدة" (ص66).
يشكُّ نصّار في أن يكون المسعودي يميّز تمييزاً واعياً بين السياسي والاجتماعي في تكوين الأمم، ولكنّه يجد أنَّ الوحدة السياسية ظاهرة بارزة في أخبار المسعودي عن الأمم، ولكنّها لا ترقى، برأيه، إلى أن تكون شرطاً من شروط تكوين الأمة، وإنّما يراها شرطاً من شروط بروزها وانتصارها، أو صمودها في معترك الأمم (ص68).
يشكُّ نصّار في أن يكون المسعودي يميّز تمييزاً واعياً بين السياسي والاجتماعي في تكوين الأمم، ولكنّه يجد أنَّ الوحدة السياسية ظاهرة بارزة في أخبار المسعودي عن الأمم، ولكنّها لا ترقى، برأيه، إلى أن تكون شرطاً من شروط تكوين الأمة.
يبقى اللسان. فاللسان في نظر المسعودي مقوِّم رئيس من مقوِّمات الأمة، ولكنّه ليس المقوِّم الأهمّ. ويُميّز المسعودي، أيضاً، بين اللسان واللغة، ويجعل اللغة شيئاً أخصّ من اللسان (ص69). فما هو المقوِّم للأمة عنده: اللسان أم اللغة؟ إنَّ قسماً من نصوص المسعودي يقول إنه اللغة، وقسماً آخرَ يقول إنه اللسان. فهذه النصوص تدلُّ على أنَّ رأي المسعودي في دور اللسان في تكوين الأمة يشوبه غموضٌ كبيرٌ.
وحدة الأمة عند البغدادي والماوردي
عاش عبد القادر البغدادي وأبو الحسن الماوردي في ظل السيطرة البويهية على الخلافة العباسية، وعاصرا الدولة الفاطمية في مصر وتوسُّعها في بلاد الشام. وقد "حدّد هذا الوضع توجُّههما الفكري، فصرفا جهودهما في سبيل نصرة المذهب السني والخلافة العباسية" (ص79).
ولذلك، كان تصورهما للأمة تصوراً دينياً محضاً، بعيداً عن آفاق الفكر التاريخي والفكر الاجتماعي. وعليه، لم يكن تصوراً معرفياً بقدر ما كان تصوراً أيديولوجياً، كما يقرأ فيه نصّار (ص80).
أمام هذا التحدّي الكبير، حاول البغدادي أن يجمع بين السلفية والواقعية، فقال بجواز عقد الإمامة على شخصٍ ثانٍ، وربّما ثالثٍ، في الأصقاع البعيدة عن مركز الخلافة.
عاش البغدادي والماوردي في ظل السيطرة البويهية على الخلافة العباسية، وعاصرا الدولة الفاطمية في مصر وتوسُّعها في بلاد الشام. وقد "حدّد هذا الوضع توجُّههما الفكري، فصرفا جهودهما في سبيل نصرة المذهب السني والخلافة العباسية".
أما الماوردي، فقد وُصف بأنّه" فيلسوف الأمر الواقع"، ولكنَّ واقعيّته لا تعني مطلقاً تقديم الواقع على المبدأ. إنّه يتعامل مع الواقع انطلاقاً من تسليمه بوجوب وجود إمامةٍ واحدةٍ في دار الإسلام (ص85).
يحدّد الماوردي في تمهيد "الأحكام السلطانية" مكانة الإمامة في حياة الأمة، فهذه الأمة تحتاج إلى زعيم يسوسها ويحقق مصالحها. وعليه، فالإمامة ضرورية للدين والأمة. ولكنَّ الماوردي لا يُحدّد مقوِّمات الأمة، ولا يميّزها عن المِلَّة. وبعض العبارات الواردة في كتاباته تدلُّ على نوعٍ من الترادف بين الأمة والمِلَّة، كما يستنتج نصّار.
الملّة والأمة عند الشهرستاني
يُجمع الباحثون على أنَّ كتاب "المِلَل والنِّحل" للشهرستاني يمتاز عن غيره من الكتب المماثلة في عصره بكونه تاريخاً، موضوعياً، شاملاً للمذاهب الفكرية، الدينية والفلسفية، التي ظهرت قبل الإسلام وفي الدول الإسلامية (ص93).
في المقدمة الأولى من كتابه، يذكر الشهرستاني أربعة تقسيمات لأهل العالم، فيُهمل التقسيمين الأوَّلَين لكونهما مبنيين على أساس جغرافي، بحسب الأقاليم، ويتبنّى التقسيمين الثالث والرابع لتداخلهما، حيث قال: "كبار الأمم أربعة: العرب والعجم والروم والهند". ثم زاوج بين أمة وأمة، فذكر أنَّ العرب والهند يتقاربان على مذهب واحد، والروم والعجم يتقاربان على مذهب واحد (التقسيم الثالث). ومنهم من قسّمهم بحسب الآراء والمذاهب، إلى أهل الديانات والمِلَل، وأهل الأهواء والنِّحَل (التقسيم الرابع).
يفرّق الشهرستاني في هذا النصّ بين الأمة والمِلَّة، وبين المِلَّة والنِّحلَة. فمفهوم الأمة هو مفهوم اجتماعي تاريخي، ولكنَّه استعمل كلمة أمة بمعنى ديني أيضاً، بحيث تعني أتباع نبي معيّن (ص96). أما التعارض بين المِلَّة والنِّحلَة عنده، فهو صيغة أخرى للتعارض الذي يراه بين الدين والهوى. وعلى الرغم من نزعته الدينية الانقيادية، لا يُظهر الشهرستاني احتقاراً لمنكري النبوات، وأصحاب النِّحَل العقلية الحرّة، ويصف علاقة التقابل بين أهل الديانات والمِلَل، وأهل الأهواء والنِّحَل، بأنَّها "تقابل التضاد"، ولا يستعمل كلمة التناقض (ص99).
يفرّق الشهرستاني بين الأمة والمِلَّة، وبين المِلَّة والنِّحلَة. فمفهوم الأمة هو مفهوم اجتماعي تاريخي، ولكنَّه استعمل كلمة أمة بمعنى ديني أيضاً، بحيث تعني أتباع نبي معيّن.
ما يستوقفنا في نظرة الشهرستاني إلى الأمة والمِلَّة تفسيره لكلمة الأميين. فهو يعطي كلمة الأميين معنى مختلفاً عن المعنى المتداول في معظم كتب التفسير. فالأميون، عنده، هم أولاً الناس الذين يجهلون الكتابة، وثانياً، الناس الذين لا كتاب لهم، أي لا دين لهم.
مفهوم الأمة في مقدمة ابن خلدون
يأخذ الدكتور ناصيف نصّار على دارسي ابن خلدون - وهم كُثُر - عدم إيلاء مفهوم الأمة عنده ما يستحقُّ من الاهتمام، على الرغم من كثرة الدراسات الخلدونية [4]. ولعلّ السبب، برأيه، عائدٌ إلى أنَّ ابن خلدون لم يستعمل مفهوم الأمة بصورة مثيرة، كما استعمل مفهوم العصبية.
وينبّه، من جهة ثانية، إلى أنَّ الإطار العام الذي تنتظم فيه مفاهيم ابن خلدون هو ما أسماها "الواقعية الاجتماعية التاريخية". فعندما يتكلّم ابن خلدون عن الأمة كواقعة تاريخية، فإنه، بهذا المعنى، يتكلّم كمؤرخ اجتماعي، لا كفيلسوف أو منظِّر سياسي، مستبعِداً كلَّ اهتمام فلسفي بالإصلاح الاجتماعي والسياسي (ص110). وهو ما توسّع الدكتور نصّار في تحليله في أطروحته الجامعية عن "الفكر الواقعي عند ابن خلدون"، في العام 1966.
في "مقدمة ابن خلدون"، يتبيّن اقتران ثابت بين تصوّر الأمة وتصوّر الجيل، لذلك يبدأ بتوضيح العلاقة بين هذين المفهومين، خصوصاً أنّهما يأتيان معاً في معظم فصول "المقدمة" على سبيل العطف أو البدل. فالعمران البشري الخلدوني أجيال وأمم، ولا يوجد في أبواب "المقدمة" خروج عن هذا المُعطى، أو ما يشير إلى أنَّ الارتباط بين المفهومين هو ارتباط عارض.
فما هو معنى "الجيل"؟
إذا توسّعنا في "المقدمة"، نحصل على أربعة ألفاظ مرادفة للجيل، هي: جماعة، أمة، شعب، عرق. فمعنى لفظة "الجيل"، هنا، ليس متوسط عمر الشخص الواحد، وإنما الجماعة من البشر.
هذا بالنسبة لمفهوم الجيل، فما هو مفهوم الأمة؟
يرى ابن خلدون، بدايةً، أنَّ النوع الإنساني مؤلَّف من أمم، لكنَّ هذا القول لا يعني بالضرورة أنَّه يفهم الاجتماع الإنساني، والتاريخ الإنساني، من وجهة النظر القومية، كما يذهب إلى القول بعض الكُتّاب، كساطع الحصري مثلاً.
في "مقدمة ابن خلدون"، يتبيّن اقتران ثابت بين تصوّر الأمة وتصوّر الجيل، لذلك يبدأ بتوضيح العلاقة بين هذين المفهومين، خصوصاً أنّهما يأتيان معاً في معظم فصول "المقدمة" على سبيل العطف أو البدل.
إنَّ ابن خلدون لم يوحِّد تعريفه لتصوّر الأمة، فبقيت اللفظة من دون ضابط موضوعي موحَّد. فالإفرنج تارة أمة واحدة، وطوراً أمم. والتُرك في الغالب أمم، وفي بعض المواضع أمة واحدة (ص121).
ولكنَّ ابن خلدون، في "المقدمة"، لم يقرن الأمة بالجيل والقبيلة فقط، بل قرنها أيضاً بـالوطن: "إنَّ كلَّ أمةٍ لا بُدَّ لها من وطنٍ هو منشؤها، ومنه أولية ملكها" (مقدمة، ص882). فمفهوم الوطن ملازم لمفهوم الأمة، وهذه الفكرة علامة بارزة في تاريخ ابن خلدون، وقد يكون سابقاً بين أقرانه في إبراز فكرة الوطن، وربط الأمة بالوطن الخاص بها.
تصوّر الأمة في سياسة ابن الأزرق
شَهِد العصر الذي عاش فيه ابن الأزرق تغيرات كبرى على صعيد العالم الإسلامي.
- خارجياً، سقطت القسطنطينية في أيدي العثمانيين، والأندلس في أيدي الإسبان، فيما عُرِفَ بـ"حرب الاسترداد"(La Reconquista).
- داخلياً، لم يطرأ أيُّ تغييرٍ على خارطة الدول والإمارات، التي تتنازع وتتهادن بحسب منطق القوة. وعلى الرغم من تجواله الواسع في العالم الإسلامي، وما شاهده في ترحاله من تقلّباتٍ في السياسة والاجتماع والمذاهب الفكرية والدينية، فإنَّ فكره السياسي لا يشتمل على مساهمة أصيلة في موضوع الأمة، ولا في موضوع الإمامة، فبقي في كتابه "بدائع السلك في طبائع الملك" تحت تأثير ابن خلدون. ولعلَّ السبب في هذا النقص هو طبيعة المرحلة التاريخية التي عاش فيها ابن الأزرق، وهي مرحلة الانتقال من عصور الدولة الدينية إلى عصور الدولة القومية، كما يعبّر الفيلسوف نصّار (ص129).
وعليه، استعمل ابن الأزرق لفظة الأمة كما استعملها ابن خلدون، أي بالمعنى الاجتماعي التاريخي، وفي بعض المواضع النادرة بالمعنى الديني. ولسنا نجد تحت قلم ابن الأزرق، يُضيف نصّار، أيَّ توضيحٍ لمفهوم الأمة يُمكن إضافته إلى ما جاء عند ابن خلدون، أو المسعودي، أو الفارابي (ص127).
استعمل ابن الأزرق لفظة الأمة كما استعملها ابن خلدون، أي بالمعنى الاجتماعي التاريخي، وفي بعض المواضع النادرة بالمعنى الديني.
ويستوقف القارئ استعمال ابن الأزرق لفظة "مِلَّة" بدلاً من لفظة "أمة"، في الحديث عن الإسلام وجماعة المسلمين. فالمسلمون يشكّلون مِلَّة، ولا يشكلون أمة، إذ إن الرابط الموحِّد لهم هو العقيدة القرآنية، وفيما عداها هم غير موحَّدين. أما الأمة فهي جماعة تتميز بالنَّسب، أوالجهة والسمة، أو العوائد والشعار، أو غير ذلك من الأحوال، كما يقول ابن خلدون (ص128).
استنتاجات
نتيجة القراءة التحليلية لهذا الكتاب، نستخلص مجموعة خلاصات، أهمها:
1- إنَّ الرجوع إلى ماضي الفكر الاجتماعي، بما هو علم هدفه التعريف بالأمة، وكيفية نشوئها، ومحلّها في سياق التطوّر الإنساني، وعلاقتها بمظاهر الاجتماع، كما اتُّفق على تحديده لاحقاً، هو (أقلّه بالنسبة إلى الدكتور ناصيف نصّار) ليس هدفاً، في حدِّ ذاته، كما أنَّه ليس مقصوداً لمجرّد الاطّلاع أو زيادة المعرفة به. إنَّه مقصود لغرض محدّد هو تنمية الوعي العلمي العربي المعاصر بـ"الأصول البعيدة والقريبة"، التي حدّدت في الماضي، وتحدّد اليوم، التحرّك الراهن للفكر الاجتماعي القومي في مختلف المجتمعات العربية (ص8).
2- إنَّ فكرة الأمة، بشكل عام، فكرة تاريخية، أي أنّها فكرة تكوّنت في التاريخ البشري، ورسمت فيه خطوط تاريخها الخاص. وهذا يعني أنَّ تاريخ الفكرة لا يتطابق دوماً مع تاريخ الأشكال الاجتماعية الواقعية التي عرفتها بصورة ما. إلا أنَّ دراسة تحوّلاتها ترشد إلى طبيعة التحوّلات المعاصرة التي كانت تجري في تلك الأشكال، وتُضيء جوانب مظلمة أو مطمورة في طبقات الذاكرة الجماعية عند الشعوب التي تأثّر تاريخها بفكرة الأمة، وعلى الأخص الشعوب التي لا يزال للعقيدة القومية دورٌ أساسٌ فيها (ص5).
3- إنَّ فكرة الأمة فكرة أصيلة في التراث العربي، بدليل هذا الحيّز الذي تحتلّه في كتب التراث، وهذا الاهتمام الذي تحظى به لدى أعلام الفكر العربي الوسيط، ما يعني أنّها ليست فكرة مستمدَّة من التراث الليبرالي الغربي (ص7)، كما يزعم بعض الكُتّاب المتطفّلين على العلوم الاجتماعية، المخدوعين بما يُسمّى"المركزية الأوروبية"، التي تنظر إلى أوروبا، وبالتالي إلى الغرب، كـ"مركز للعالم"، وتنظر إلى بقية العالم كـ"أطراف" أو "ضواحي". إنَّ فكرة الأمة، إذن، فكرة متجذّرة في التراث الفكري العربي الوسيط، وليست اقتباساً من الخارج، أياً يكن هذا الخارج.
إنَّ فكرة الأمة فكرة أصيلة في التراث العربي، بدليل هذا الحيّز الذي تحتلّه في كتب التراث، وهذا الاهتمام الذي تحظى به لدى أعلام الفكر العربي الوسيط، ما يعني أنّها ليست فكرة مستمدَّة من التراث الليبرالي الغربي، كما يزعم بعض الكُتّاب.
4- إنَّ مفهوم الأمة في النص القرآني، وفي كتابات الفارابي وابن خلدون، وسواهما من مفكري العصور العربية الوسيطة، يفتقر إلى صياغة نظرية دقيقة تحرّره من فوضى المصطلحات والتأويلات التي تلازمه في مواضع كثيرة، كما يستنتج الدكتور نصّار في دراسته. وهذه، برأينا، ثغرة في كل فكر جديد يشقّ طريقه وسط فوضى المفاهيم السائدة في عصره، هذه الفوضى التي تنتج عادةً من الاضطرابات السياسية والاجتماعية والدينية والثقافية، التي يتعرّض لها مجتمع ما، أو ثقافة ما، أو عصر من العصور التاريخية.
إّلا أنَّ هذا المفهوم يبقى، مع ذلك، جسراً يعبُر عليه الفكر، صعداً، من ثقافة القرون الوسطى إلى ثقافة العصور الحديثة، ولقد شكَّل، على ضعفه، ذلك "الممر" الذي عبَره بالفعل علماء عرب كبار، كساطع الحصري (1880-1968)، في تصوره اللغوي التاريخي للأمة، أنطون سعاده (1904-1949) في تصوره الإقليمي المتحدّي، حسن البنا (1906-1949) في تصوره الديني السياسي، سيّد قطب (1906-1966) في تصوره الديني التوفيقي، وجمال حمدان (1928-1993) في تصوره الإقليمي التكاملي.
هذه التصورات لفكرة الأمة، وتحوّلاتها، تجد جذورها في التراث العربي الإسلامي الوسيط، ما يعني أنّها ارتكزت، بطريقة أو بأخرى، إلى التصورات العربية الوسيطة، وهذا ما عرضناه في متن هذا البحث.
5- إنَّ انعدام وجود نظرية متكاملة في مفهوم الأمة إشكالية ورثها الفكر العربي الحديث، لا سيّما الفكر القومي، عن العصور الوسطى، بحسب الدكتور نصّار. غير أنَّ هذه النقيصة لا يُفهم منها أنَّ هذه الإشكالية هي مجرّد امتداد لما كانت عليه في القرون الوسطى، فقد ساهم في ترسيخها، على مرّ السنين، تخلّف الوعي النظري بها (ص8). وهذا، برأيي، افتئات من إسهامات كبيرة قام بها علماء عرب معاصرون، طوّروا مفهوم الأمة، وردموا إلى حدّ كبير تلك "الهوّة" التي تفصل بين الفكر العربي المعاصر والحديث، من جهة، والفكر العربي الوسيط، من جهة ثانية، مستندين في أبحاثهم إلى نظرية الفارابي والمسعودي في مفهوم الأمة، ولا سيّما إلى نظرية ابن خلدون.
إنَّ انعدام وجود نظرية متكاملة في مفهوم الأمة إشكالية ورثها الفكر العربي الحديث، لا سيّما الفكر القومي، عن العصور الوسطى، بحسب نصّار. غير أنَّ هذه النقيصة لا يُفهم منها أنَّ هذه الإشكالية هي مجرّد امتداد لما كانت عليه في القرون الوسطى، فقد ساهم في ترسيخها، على مرّ السنين، تخلّف الوعي النظري بها.
وإنصافاً لأولئك الأعلام، نشير هنا إلى كتاب "نشوء الأمم" (1938) لأنطون سعاده، فهو كتاب اجتماعي علمي بحت، يشتمل على نظرية جديدة ومتكاملة في مفهوم الأمة والقومية، نظرية لم يسبقه إليها أحد في العالم العربي، حتى الآن، فضلاً عن تخطِّيها، بل تجاوزها، لنظريات أوروبية كثيرة في معنى الأمة وصفتها، جرمانية وفرنسية وإنكليزية. وقد برّر سعاده تأليفه لهذا الكتاب بندرة علماء الاجتماع العرب، من جهة، وفقر اللغة العربية بالمؤلفات الاجتماعية التي يُمكن الاعتماد عليها، من جهة ثانية، خصوصاً أنَّ الجَهَلة الواغلون على هذا العلم يؤوّلون موضوعاً خطيراً، كموضوع الأمة، وفقاً للنعرات التي رُبّوا عليها، فخبطوا في هذا التأويل خبط عشواء، وخلطوا بين المسائل الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية خلطاً عظيماً. لذلك رأى سعاده، بثاقب نظره، أنَّ الحاجة إلى أساس علمي لهذا الموضوع الاجتماعي الخطير ماسّة، وأنّه لا بُدَّ من وضع كتاب في علم الاجتماع يوضح الواقع الاجتماعي والقضايا الاجتماعية، ويُرينا كيف نشأت الأمم من تطور الاجتماع الإنساني.
وقد قدّم سعاده كتابه للقراء فور صدوره، بقوله: "إنَّ نشوء الأمم هو الكتاب العلمي الذي يُشرَح فيه نشأة النوع الإنساني، والاجتماع البشري وتطوّراته، حتى عصر الأمم الحاضر، فيرى القارىء أسرار الاجتماع الإنساني منكشفة لعينيه، ويدرك حقيقة المسائل الاجتماعية، وماهية الأمة، وكيفية نشوء هذه الشخصية الاجتماعية"(1)، لافتاً الانتباه إلى أنّه في كتاب "نشوء الأمم" وضع أساس علم الاجتماع الحديث، كما وضع مبادئه القومية في "كتاب التعاليم"، والتي تُعتبر أساس بناء الأمة السورية القومي.
6- إنَّ التمييز بين الأمة بمعناها الديني، والأمة بمعناها الاجتماعي - وإن اختلط المعنى أو تداخل، أحياناً، عند بعض المفسِّرين للآيات القرآنية - كان واضحاً وقاطعاً في بعض الكتابات العربية الوسيطة، ولو تجاهل ذلك السلفيون أو أنكروه. هذا الخلط، أو هذه الإزدواجية في مفهوم الأمة، الذي وقع فيه بعض المفسِّرين، حَمَلَت بعض كبار المؤرِّخين والفلاسفة، كالمسعودي والفارابي وابن خلدون، على حلِّها، وذلك باستعمال لفظة "الأمة" بالمعنى الاجتماعي التاريخي، ولفظة "المِلَّة" أو لفظة "الشريعة" للدلالة على المعنى الديني الذي تنطوي عليه لفظة الأمة في النص القرآني (ص29).
وعلى الرغم من أنَّ هؤلاء المفكِّرين الكبار لم يُدركوا تماماً المضامين الحقيقية التي بلغوها في هذه الناحية، إلا أنّهم خطوا خطوة حاسمة في نقد الالتباسات التي تنطوي عليها فكرة الأمة الإسلامية، بالنسبة لواقع الأمم أو الدول الإسلامية الراهنة.
7- في ردّه على عددٍ من منتقدي كتابه، بعد صدوره في طبعاتٍ متتاليةٍ، يؤكّد الدكتور نصّار أنّه:
أ- لم يُسقط مفاهيم الأمة الحديثة التي تطوّرت في الغرب، في القرنين الأخيرين، على النصوص الواردة في كتابه، كما اتّهمه الكاتب محمد أحمد خلف الله [5]، فهذه النصوص تنتمي جميعها إلى نطاق الثقافة العربية السابقة للعصور الحديثة، فكيف يضعها على مبضع النقد والتقييم؟ لم يتّخذ نصّار من معنى الأمة في العصر الحديث معياراً ولا مرجعاً لتقييم ما كتب أولئك الذين عرض لهم في كتابه، كما أنّه لم يقصد نقد المفاهيم التي درسها بقصد تقييمها وإصدار حكم عليها، وإنّما قصد إلى تبيينها وتحليلها من الوجهة التاريخية فقط (ص11). لقد تناول تلك النصوص بلغة المؤرخ لتطور فكرة الأمة، لا بلغة الناقد لها، أو المقارن معناها بمعنى ما تطورت إليه لاحقاً.
ب- من جهة ثانية، ينتقد نصّار بعض المنظرين العرب، كساطع الحصري وأنطون مقدسي، الذين صوّروا ابن خلدون كداعية للقومية العربية، معتبراً أنهم، بفعلتهم هذه، أساؤوا إليه أكثر ممّا أفادوه. فمقدسي و"غُلاة الخلدونيين العروبيين" ظلموا ابن خلدون عندما وصفوه بأنّه "الفيلسوف العربي القومي الأول"، بحجّة أنَّ الأمة عنده، بخلاف الدولة، لا عمر لها لأنّها مستمرة [6]، مؤكِّداً، في الوقت نفسه، أنَّ فكر ابن خلدون الاجتماعي خطا خطوة واضحة في اتجاه التخلّص من مقولة الأمة بالمعنى الديني، إلا أنّه لم يتوصّل إلى حدّ تفسير الاجتماع والتاريخ تفسيراً قومياً (ص116)، كما يزعمون.
ينتقد نصّار بعض المنظرين العرب، كساطع الحصري وأنطون مقدسي، الذين صوّروا ابن خلدون كداعية للقومية العربية، معتبراً أنهم، بفعلتهم هذه، أساؤوا إليه أكثر ممّا أفادوه.
كذلك، لم يوافق نصّار طريف الخالدي [7] في قوله إنَّ "اللسان"، للمسعودي، هو المقوِّم الأهم للأمة، من بين المقومات الأخرى، ولكنَّ اللسان في نظرة المسعودي للأمة، بحسب نصّار، هو مقوِّم رئيس من مقومات الأمة، من دون أن يكون المقوِّم الأهم.
أما في يخصّ فكرة الاجتماع الواسع الشامل المعمورة، في قاموس الفارابي، وكذلك فكرة الاجتماع الأوسط الذي هو الأمة، ورداً على المفكر إروين روزنتال (Erwin Rosenthal)، الذي اعتبر أنّه يمكن أن تكون هذه الفكرة حصيلة جمعٍ للفكرة الإسلامية والتصوّر اليوناني للمسكونة [8]، فيفند نصّار هذه المعادلة بالقول:
* إنَّ روزنتال يجمع تحت عبارة واحدة تصورَيْن مختلفَيْن، ليست لهما الأصول التاريخية نفسها. فتصوّر المعمورة يمكن أن يُفهم كحصيلة للفكرة الإسلامية، التي عاش في دائرتها الفارابي، وللفكرة الرواقية المسكونية، التي قال بها الفيلسوف السوري زينون الرواقي، والتي تأثّر بها الإسلام كما تأثّرت بها، قبله، المسيحية.
* لكنَّ تصوّر الأمة ليس كذلك، إذ لا يجوز إرجاع فكرة (الاجتماع الأوسط)، الذي هو الأمة، إلى الفكرة الإسلامية، لأنَّ هذه الأخيرة فكرة عابرة للأمم والقوميات، ولا يجوز إرجاعها إلى الفكر اليوناني، إذ لا يوجد في الفكر اليوناني ما يوازي فكرة الأمة في اللغة العربية. وعليه، ينبغي البحث عن أصول فكرة الأمة في كيفية صياغة مفهومها عند الفارابي، وفي كيفية اشتقاقها من الناحية اللغوية (ص38 – 39).
المراجع
[1] Pascal Ory, Qu’ est ce qu’ une nation, ed.Galimard, Paris, 2020 .
-Robert Laffont, la nation,l’etat,les regions, ed.berg international, Paris, 1993
-Edgar Morin,Terre-Patrie,ed. Seuil, Paris 1993.
- سعاده، أنطون، الأعمال الكاملة، م 3، مؤسسة سعاده للثقافة، ط 1، بيروت 2001، ص453، 454.
[2] نصّار، ناصيف: مفهوم الأمة بين الدين والتاريخ، دراسة في مدلول الأمة في التراث العربي الإسلامي، طبعة خامسة، دار الطليعة، بيروت، 2003.
[3] نصّار، ناصيف، تصورات الأمة المعاصرة، دراسة تحليلية لمفاهيم الأمة في الفكر العربي الحديث والمعاصر، طبعة ثالثة، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، بيروت، 2017.
(*) "أخبار الزمان ومن أباده الحدثان من الأمم الماضية والأجيال الخالية والممالك الدائرة".
[4] الحصري، ساطع: دراسات عن مقدمة إبن خلدون، القاهرة، 1961.
[5] خلف الله، محمد أحمد: القومية العربية والإسلام (ندوة)، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 1981، ص21.
[6] مقدسي، أنطون: مجلة المعرفة، عدد 150، دمشق، آب 1974.
[7] Khalidi,T,Islamic historiography, the histories of Masoudi, S.U. of New York Press,1975.
[8] Rosenthal E,Political Thought in medieval Islam, Cambridge, 1958.
- روزنتال، إروين: الفكر السياسي في العصور الوسطى الإسلامية، كامبردج، 1958، ص126.