مئة عام على رحيله.. كافكا عرَّاب القلق والاغتراب
حقق أدبه رمزية مقنعة تصف عوالم القلق والاغتراب في القرن العشرين، وأصبح اسمه مرتبطاً بمدرسة في الأدب لها سماتها وخصائصها. من هو فرانز كافكا؟
حظيت قصص فرانز كافكا ورواياته (1883- 3 حزيران/يونيو 1924)، والذي يصادف اليوم الاثنين مئوية وفاته، بطيف واسع من التفسيرات. إذ بينما رأى بعض علماء اللاهوت في هذا الكاتب التشيكي "آخر أنبياء إسرائيل"، سعى آخرون لـ"هِدايَته" بعد أن شعروا بتمزقات روحه الساعية للخلاص، في حين رأى غيرهم أنه سلك في أدبه مضمار اللاهوت السلبي.
من جانب آخر، رأى الوجوديون أن مناخات كافكا المليئة بالذنب واليأس هي الأساس الذي يمكن بناء وجود حقيقي عليه، لذا أدخلوه في نطاق الجهود العبثية لسيزيف، أو في إطار القلق الطاغي عند مارتن هايدغر، كما "ظهرت بعض التفسيرات التي تدّعي التمسُّك بالماركسية، وترى في كافكا إما برجوازياً صغيراً متردياً في تشاؤمية ناخرة كالسوس، وإما رجل الثورة، إن لم يكن رجل الاشتراكية"، بحسب الفيلسوف الفرنسي روجيه غارودي في كتابه "واقعية بلا ضفاف".
في الوقت ذاته، كان السورياليون سعداء باللمحات المستمرة للعبث في كتاباته، أما اختصاصيو التحليل النفسي فأغرتهم "رسالة إلى الوالد" واعتقدوا أنهم اكتشفوا في شخصه نموذجاً مثالياً لعقدة أوديب.
لكل من تلك التفسيرات أدلة في هذه القصة أو تلك الرواية أو حتى ضمن مذكراته، لكن ما اشتغل عليه كافكا يتجاوزها جميعاً، وربما أصاب أحد النقاد حين عبّر عن الأمر بدقة أكبر عندما كتب عن أعمال صاحب "المحاكمة" كونها "أمثلةً مفتوحة" لا يمكن أبداً الوصول إلى معانيها النهائية.
التماهي بين الأدب ومبدعه
لعل النقطة الأهم في أدب كافكا هي التماهي اللامحدود بين ما كتبه وشخصيته ووجوده ككل. والدارس لحياته ونتاجه يكتشف مدى اندغامه القوي مع أسلافه من الأمهات اليهوديات بسبب روحانيتهم، وتميزهم الفكري، وتقواهم، وتعليمهم الحاخامي، ومزاجهم الكئيب، وتكوينهم، جسدياً وعقلياً، من دون أن يشمل ذلك علاقته بوالدته جولي لوي، بسبب خضوعها وخنوعها أمام زوجها الغاضب دائماً هيرمان كافكا، التاجر العملي والمستبد، والذي لا يعبد سوى النجاح المادي، الأمر الذي جعل كافكا في أهم محاولة لكتابة سيرته الذاتية، والمقصود "رسالة إلى الوالد" (1919)، يُرجِع فشله في الحياة، والانقطاع عن الروابط الأبوية وعدم الثبات في الزواج والأبوة، وكذلك هروبه إلى الأدب، إلى شخصية أبيه التي غرست فيه الشعور بالعجز وبأن إرادته كسرها طغيان والده.
ومن المعروف أن كافكا كان طفلاً خجولاً، مشبعاً بالذنب ومطيعاً، وأبلى بلاءً حسناً في المدرسة الابتدائية وفي مدرسة المدينة القديمة الحكومية الثانوية. لذلك، حظي باحترام أساتذته ومحبتهم، ومع ذلك تمرد داخلياً ضد المؤسسة الاستبدادية والمناهج المدرسية المجردة من الإنسانية، وتركيزها على التعلم عن ظهر قلب من دون التركيز على الجوهر والمعنى، وأصبحت معارضة صاحب "المسخ" للمجتمع راسخة في مراهقته عندما أعلن نفسه اشتراكياً وملحداً.
وبعد المراهقة ودخول مجال الحياة العملية، عُرِف عن كافكا أنه كان شخصاً ساحراً وذكياً ويمتلك روح الدعابة، لكنه وجد وظيفته المكتبية الروتينية، والحياة المزدوجة المرهقة التي أجبر عليها، موظفاً في النهار وكاتباً في الليل، سبباً في عذاباته، وانعكست على علاقاته الشخصية، الأمر الذي جعلها مضطربة إلى حدّ كبير. وبسبب شخصيته المعقدة والمتناقضة، فإنه لم يستطع الثبات في علاقته بالنساء اعتباراً من فيليس باور التي خطبها مرتين قبل انفصالهما الأخير في عام 1917، مروراً بعلاقة الحب التي جمعته بميلينا جيسينسكا بولاك التي لم تستمر طويلاً، ولاسيما بعد تشخيص إصابته بالسل وإمضائه فترات متكررة في المصحات، وأخيراً مع زوجته دورا ديمانت التي التقاها خلال إجازته في ساحل بحر البلطيق عام 1923، وعاش معها في برلين حتى تدهورت صحته بصورة ملحوظة خلال ربيع عام 1924، وتوفي بسبب مرضه في مستشفى بالقرب من فيينا.
انكسارات روحية
رسم كافكا شخصياته بغرائبية فائقة، وبلغة غامضة وموحية في آن، تعكس الانكسارات الروحية لأبطاله، وحيرتهم الوجودية في بحثهم الدؤوب عن الحقيقة والمعنى والأمان. والمشترك في جميع قصصه ورواياته أن شخصياته تفشل في إقامة تواصل مع الآخرين، وتتبع منطقاً مغايراً يستهزئ بالمنطق اليومي العادي، الأمر الذي يجعلها تندفع نحو حوادث وأعمال عنف بشعة، بحيث إن كل شخصية تبدو مجرد صوت حزين، يبحث عبثاً عن معلومات وفهم للعالم وعن طريقة للإيمان بهويته وهدفه.
في "الحكم" ينتحر الابن بناءً على طلب من والده المسن، وفي "التحول" يستيقظ الابن غريغور سامسا ليجد نفسه تحول إلى حشرة وحشية مثيرة للاشمئزاز، وذلك حتى يموت ببطء، ليس فقط بسبب عار عائلته وإهمالها له، بل أيضاً بسبب يأسه المديد. و"في المستعمرة العقابية" يقدم كافكا ضابطاً يُظهر إخلاصه للواجب من خلال إخضاع نفسه لعمليات تشويه مروعة وموصوفة سريرياً لأداة التعذيب الخاصة به.
ويظهر في حكاية "قبل القانون" عدم إمكان الوصول إلى المعنى وشوق البشرية العنيد إليه، بينما يبدو في مجموعة كتاباته في العام الأخير من حياته تركيزه على كفاح الفرد العقيم، والشجاع، من أجل الفهم والأمان. ومن ذلك شخصية "جوزيف ك" في "المحاكمة" الذي اعتقل فجأة وتحولت محاكمته إلى مهزلة قذرة، وخصوصاً في ظل عدم وجود تُهَم موجهة إليه، ليصبح بحثه عن براءته من جريمته المجهولة أمراً صعب المنال. حتى احتجاجاته تميل إلى كونها علامات للذنب، كأن كافكا يعكس في هذا العمل رؤيته للشر الذي يسود في كل مكان، في حين أن البراءة أو الخلاص من المتعذَّر الوصول إليهما، ضمن تصوير بليغ للعجز الحقيقي للفرد أمام سطوة جماعات الظلام، والتي تظهر أيضاً في "القلعة" التي يتوقف الزمن فيها على الظلم الذي يتعرض له أبناء القرية التي تهيمن عليها تلك القلعة.
شكل من أشكال الصلاة
يعزو بعض الدارسين لأدب كافكا مصدر يأسه إلى شعوره المرير الناجم عن العزلة المطلقة، في ظل عدم قدرته على التواصل الحقيقي مع جميع البشر، بمن فيهم أصدقاؤه الذين كان يعتز بهم، والنساء اللواتي أحبهنّ، والوظيفة التي كان يكرهها، والمجتمع الذي عاش فيه، وحتى مع الله، الذي وصفه مرةً بأنه "كائن حقيقي غير قابل للتدمير"؛ أي أنه كان في تعاسة مديدة سببها انقطاعه الروحي شبه التام عن العلاقات الاجتماعية والثقافية والسياسية والدينية.
وبقدر ما ربط الباحثون عزلته بسطوة أبيه عليه، والتي رافقته طوال حياته، فإن بعضهم رأى أن يهوديته هي التي حددت غرائبية أطواره، وليس فقط تأثره بالسلطة الأبوية. وتبريرهم ذلك أن كتاباته كلها اتصفت بالإحباط والذل الإنسانيين، والروح المنهزمة الخائرة، ودونية النفس البشرية، لتصبح هذه الصفات الخطوط الرئيسة لأحداث رواياته المتأثرة باعتقاده اليهودي. وذكر أكثر من مرة أن كتاباته لا تخرج عن الطقوس الدينية التي يؤمن بها، وهي أيضاً "شكل من أشكال الصلاة" كما عبَّر عنها هو بكلماته الخاصة، كأن الفعل الإبداعي الذي كرَّس به اسمه كان بمثابة وسيلة للخلاص، يمكن من خلاله أن يتصالح مع العالم، أو على الأقل يساعده على تجاوز تجربته السلبية فيه.
لذلك، يمكن النظر إلى أعمال كافكا وكابوسيتها غير القابلة للتفسير على أنها انعكاس لصراعات شخصيته المحبطة، التي دفعته إلى مطالبة صديقه، ماكس برود، عبر مذكَّرتين، بأن يحرق جميع مخطوطاته غير المنشورة، وأن يمتنع عن إعادة نشر أعماله المطبوعة.
لكن برود خالف الوصية، ناقلاً كافكا من اسم حظي بتقدير متواضع من جانب زمرة أدبية صغيرة قبل وفاته، إلى شخصية أدبية عالمية بعد وفاته، إذ نالت أعماله شهرة ابتدأت من فرنسا والدول الناطقة باللغة الإنكليزية خلال نظام أدولف هتلر، في الوقت نفسه الذي تم ترحيل أخوات كافكا الثلاث وقتلهن في معسكرات الاعتقال النازية.
ثم، بعد عام 1945، أُعيد اكتشاف صاحب "أبحاث كلب" في ألمانيا والنمسا، وبدأ يؤثر بصورة كبيرة في الأدب الألماني بحلول ستينيات القرن الماضي، ثم أصبح هذا التأثير عالمياً وامتد حتى إلى الحياة، فكرياً وأدبياً وسياسياً، في كثير من دول العالم. أي أنه من خلال شخصياته العاجزة والحوادث الغريبة التي تصيبها، حقق رمزية مقنعة تصف عوالم القلق والاغتراب في القرن العشرين، حتى أصبح اسمه مرتبطاً بمدرسة في الأدب، لها سماتها وخصائصها المميزة وتأثيرها المديد.