لن نرى موتنا.. نحن نفقد الاتصال بغزة أيها العالم
أيها العالم، سيتوقف الإنترنت عن غزة. لا مزيد من الأخبار والصور لدمنا. لن تجدوا من يسجل المزيد من مقاطع الفيديو المرتجفة لموتنا. لا مزيد من أشلاء الأطفال وأصوات الاستغاثة. سيغيب اللون الأحمر، وعندها، ستكفون عن المشاهدة.
بدأت أفقد الاتصال كلياً بأهلي وأصدقائي. أسرح بالنظر كلما وجدت أن رسائلي لا تصلهم؛ يغيبون لساعات طويلة ثم يعود أحدهم ليكتب "نحن بخير.. لا يوجد إنترنت"، وأرسلت لي صديقتي المفضلة بشرى التي هربت بطفليها "شيرين الإنترنت مقطوع.. أرسلي لي الأخبار لأعرف ما يدور في الخارج". الناس في غزة يعيشون أهوال القصف وترتجف قلوبهم وما تبقى من بيوتهم من دون أن يكون لديهم أدنى علم بما يدور حولهم، ومن دون ماء وكهرباء أيضاً.
لكنهم يستطيعون تخمين بعض الأحداث، يشعرون بالحزام الناري يستمر لساعات ويأكل الأخضر واليابس. يرصدون صوت طائرات جديدة في السماء لم يعتادوا عليه، وهذا يعني أن "إسرائيل" حصلت على المزيد من السلاح لقتل المدنيين. كما يستطيع بعضهم التعامل مع حمم الفوسفور الذي يُلقى عليهم من السماء. لقد سبق أن استخدمتها "إسرائيل" في عدوان عام 2008. نعم، نحن نحفظ هذا جيداً.
أتسمّر أمام شاشة التلفاز طوال اليوم ممسكة بهاتفي المحمول. أرى المجازر التي ترتكب بحق أهلي في غزة وأحاول السيطرة على أطفالي الذين يثيرون الشغب لرؤيتي متوترة ومنشغلة عنهم. مساحات واسعة من الرماد والدمار. عائلات كاملة يتم انتشالها من تحت الأنقاض وبعضهم ما زال متمسكاً بأنفاسه الأخيرة. الناس يهربون حفاة في الشوارع إثر إخبارهم بضرورة الإخلاء تمهيداً لقصف بيوتهم. لكن، احذروا من تزييف "إسرائيل" للحقيقة، لتظهر أمامك أيها العالم بمكياجها القبيح. إنها تبلغ الناس بالخروج فتقصفهم مباشرة في الشوارع، تطالبهم بإخلاء عمارة سكنية لتقصف التي تليها، تماماً كما حصل مع الشهيد الصحفي سعيد الطويل ومحمد صبح وهشام النواجحة.
تُحب "إسرائيل" هذا المشهد .. مشهد تهجيرنا القسري عن منازلنا وأراضينا، إنهم لم يتوقفوا عن فعله منذ العام 1948 وحتى 2023 يتكرر السيناريو نفسه، ولكن بأسلحة أكثر دماراً وفتكاً، ولكن أين يذهب الناس؟ ليس ثمة مكان آمن في غزة وهروب الناس ليس سوى حلاوة روح ليشعروا بأنهم يفعلون شيئاً من أجل أطفالهم.
أعرف هذا المشهد جيداً. لقد خبرته على مدار 33 عاماً مضت. نعم، لقد حضرت كل عدوان مرّ على لحم أطفالنا. رائحة اللحم البشري المحترق والبلاستيك المنصهر تقطر في أنفي. أعيش الرعب كلما دوى صوت في الشارع مهما كان بسيطاً. أسيرُ مبتعدة عن النوافذ. أخشاها. أفزع من صوت الرعد وكلما أُغلِق باب في بيتي الجديد، حسناً هو ليس بيتي، ولكن مُستأجر في كندا، بيتي يوجد في غزة!
بمن سأتصل؟ جدران البيت لا تسعني. أريد مشاركة أحدهم هذا الألم. لكن الذين أعرفهم في هذه المدينة الباردة هم أيضاً من غزة وعوائلهم تقضي تحت القصف، من سيسند رأسه على كتف من؟ تتصل بي خلود، سيدة تعرفت إليها مؤخراً، لقد عاشت طويلاً في الغربة، ولحداثة عهدي هنا رأت من الضروري مواساتي، لتنقلب المعادلة وأواسيها أنا بعد أن دمّر بيتهم والحي بأكمله، وتشتتت عائلتها في مناطق متفرقة بغزة وهي لا تتمكن من الاطمئنان إليهم بسبب انقطاع الإنترنت والكهرباء.
شهر مضى على خروجي من قطاع غزة حين أُعلن العدوان على غزة. أشعر أن كرة النار الملتهبة كانت تعدو خلفي طوال الطريق منذ خروجي من منزلي في حي الرمال الذي تم تدميره وصولاً إلى معبر رفح. كل المشاهد التي كنت أحاول تسجيلها بملء عيوني للمرة الأخيرة صباح السفر كانت وداعاً بالفعل. كانت وداعاً لأهلي وكل إنسان عرفته، وداعاً لذكرياتنا وحياتنا التي اعتدنا عليها في منطقة جغرافية ضيقة لا تتعدى 365 كيلو متراً، محاصرة منذ 18 عاماً، ويسكنها أكثر من 2 مليون إنسان بلا ماء ولا كهرباء ولا مأوى.
أهز زوجي وأسأله بذعر "هل نجونا بأطفالنا؟"، فيجيبني "لا .."، أسمع بكاء أطفالي من الغرفة الثانية فأهرع إليهم ليعودوا مجدداً إلى النوم. أحدث نفسي "يا الله، أطفال غزة أيضاً يستحقون النوم ولو لمرة واحدة تحت سماء آمنة". أحسد أطفالي على الأمن المؤقت الذي انتزعناه لهم من هذه الحياة. سينتهي أمن أطفالي بمجرد انتهاء زوجي من دراسته في إحدى جامعات كندا.
نبتعد الآن عن غزة نحو 8000 كيلو متر ونشعر بكل هزة ووخزة تصيبها، أيها العالم لقد تركنا خلفنا أهلنا، أبي وأمي وإخوتي، وبيتي، مقتنياتي العزيزة وأشيائي التي تعاقدت معها على انتظار عودتي، أشعر أكثر بلسعات البرد هنا كلما سقطت حمم النار على جلود أهل غزة. هذه المرة، لم أتلق العقاب معهم كما أعجز عن عد الضربات، أتفقد هاتفي، هل تصل رسائلي إليهم عبر الواتساب؟ في بداية العدوان، كنا ندعم بعضنا بالمكالمات والرسائل، لكننا الآن، وإن استطاع الإنترنت المتقطع إيصال صوتنا، فإننا نتجنب فعلها، لم يعد ذلك متحملاً.
الليلة الماضية، كتبت شقيقتي الصغيرة شيماء، وبالرغم من أنها أم لطفلين ولا تكبر بنظري، فتبقى عقدة السكر في عائلتنا، كتبت على "غروب" العائلة عبر الواتساب: "تصبحون على خير". لم يجرؤ أحد منا أن يجيبها. يبدو أن قواها خارت بشكل كلي وتريد النوم. لطالما كانت شقيقتي هذه، اليد التي توجعني عند كل عدوان وتصعيد، فهي تسكن إلى الشمال من قطاع غزة ودائماً ما تتلقى هذه المنطقة الحظ الوافر من القصف.
ها هي تظهر بعد ساعات من الانقطاع، تخبرنا أنها ما زالت بخير، أسألها عن حال طفليها وعن مشاعرها. استدرجها لتبقى أكبر وقت ممكن. تخبرني برغبتها في الموت مع زوجها وطفليها، ثقيل عليها أن تعيش بحسرتهم. تقول إن صوت القصف غير محتمل وترجح أن يكون براميل متفجرة. لا أعرف كيف خمنت ذلك، ولكنني أصدقها فوراً. تخبرني عن الصحفية سلام ميمة التي وجدت حية هي وأطفالها الثلاثة بعد قضائهم أكثر من 24 ساعة تحت الأنقاض، بينما تم استخراج جثة زوجها مبكراً.
"نحن بخير ادعوا لنا". يرسلها لنا أبي كلما عاد الإنترنت إلى هاتفه. والداي اللذان تجاوزا 63 عاماً ويعيشان في بيت عامر بالأحفاد الصغار، بلا كهرباء ولا ماء منذ بداية العدوان، وهذا هو تكريم الحياة لهما.. لأبي الذي قضى عمره يعمل مقاولاً في غزة، يبني ويشق الطرق حتى صارت مدينة، ويشارك في إنشاء مينائها، ويشهد على تفانيه وإخلاصه في عمله المشاريع التي خاضها من أقصى شمال القطاع من بيت لاهيا وحتى جنوبه في رفح؛ يا أبي كيف ترى المدينة الآن؟
"الحمدلله يابا ادعولنا".
"الوضع صعب جداً.. هالمرة غير". هذا ما يصلني من أهلي وأصدقائي، لقد توقفوا عن المكابرة ومحاولة طمأنتنا، إنهم أشبه بمن وقع في حفرة عميقة ويمد يده بذعر محاولاً النجاة ولا يبلغها. لدي رغبة عارمة باحتضان أحمد، ابن أخي، بعدما فقد خاليه الاثنين وفقد بيت جده وطفولته، ترى كيف حاله الآن؟ من يجفف دمعه؟ هذا الطفل الذي يبلغ من العمر 12 عاماً، يحفظ الشعر والعديد من القصائد عن الوطن والشهيد، والأسير، لقنتها له والدته، لكنها اليوم بالتأكيد لا تجد وقتاً لتكفكف دمعه، إنها منشغلة بمواساة عائلتها.
الآن، بينما أكتب، تصلني رسالة من بشرى بعد أن زودتها ببعض الأخبار وتعمدت إبلاغها بأن مناطق القصف بعيدة عنها، لكنها لا ترى، إنها تسألني بصوت مرتجف أسمعه جيداً: "ما في أخبار عن هدنة ولا تدخلات لحدا؟"، بماذا أجيبها أيها العالم الأصم؟ ألا ترى؟ ألا تسمع؟
أيها العالم، سيتوقف الإنترنت عن غزة. لا مزيد من الأخبار والصور لدمنا. لن تجدوا من يسجل المزيد من مقاطع الفيديو المرتجفة لموتنا. لا مزيد من أشلاء الأطفال وأصوات الاستغاثة. سيغيب اللون الأحمر وعندها ستكفون عن المشاهدة. الصحفيون وصلوا مبلغاً من التعب. لن يتمكنوا من المتابعة، خاصة وأن كثيراً منهم فقد عائلته ومنزله وترك الميدان ليتعرف على جثثهم، أو ليجمع ذكريات وصور أبنائه المتناثرة في الشارع. أيها العالم المتخاذل تجاهل معاناتنا كما شئت، لكن لن يرحمك هذا الدوي لرصاصة أُطلقت في العالم كان اسمها غزة.