كلمة كحدّ السيف
سياسة الاغتيالات ليست جديدة ولا غريبة على "دولة" الاحتلال، التي اغتالت عشرات المبدعين الفلسطينيين والعرب الذين قاتلوا وقاوموا بالكلمة المتوهجة المضيئة الملتزمة.
(لذكرى شيرين أبو عاقلة ورفاقها)
تمر هذه الأيام الذكرى السنوية الأولى لاستشهاد الصحافية والمناضلة الفلسطينية شيرين أبو عاقلة التي اغتالتها قوات الاحتلال الاسرائيلي في وضح النهار، وعلى مرأى من مشاهدي التلفزيون، مثلما اغتالت عشرات الصحافيين في غزة وجنوب لبنان، ومنهم الزملاء عصام العبد الله وفرح عمر وربيع معماري.
سياسة الاغتيالات ليست جديدة ولا غريبة على "دولة" الاحتلال التي اغتالت عشرات المبدعين الفلسطينيين والعرب الذين قاتلوا وقاوموا بالكلمة المتوهجة المضيئة الملتزمة. لم يكن اغتيالهم مجرد عمل إرهابي أرعن من دولة الإرهاب الأولى في العالم، بل كان عملاً مدروساً بعيد المدى يهدف إلى حرمان القضية الفلسطينية من نخبة المدافعين عنها وخيرة المساهمين في تشكيل وعي جمعي فلسطيني عربي عالمي مدرك لحقيقة الكيان الغاصب ولعدالة القضية الفلسطينية.
مَن غير الأدباء والفنانين والإعلاميين قادر على مثل هذه المهمة الجسيمة التي تصدى لها مبدعون مثل غسان كنفاني ونظرائه بوعيٍ وإدراك قلَّ نظيرهما! ولو أعدنا قراءة أدب كنفاني في ضوء ما يحصل الآن في فلسطين والوطن العربي، لاكتشفنا مجدداً كم كان رؤيوياً واستشرافياً ومدركاً لأبعاد القضية وللمخاطر المحدقة بها. ولعل جملته الشهيرة: "إذا كنا مدافعين فاشلين عن القضية فالأجدر بنا تغيير المدافعين لا تغيير القضية"، تختصر الكثير مما نحن فيه الآن ثقافياً وإعلامياً.
نكتب بالحبر فيما تكتب فلسطين بالدم، وتعيش غزة تحت وطأة ووحشية العدوان الإسرائيلي الذي يستفرس عليها ويستفرد بها مرةً تلو مرة فيما الشعوب العربية غارقة في حروبها ومآسيها أو في خوفها وخشيتها، ولئن كان ما يصيب الكثير من أمكنة الجراح العربية النازفة يفجعنا ويوجعنا، فمن غير الجائز أبداً أن يقودنا الوجع أو الخيبة إلى فقدان الإدراك والبوصلة، وإلى مواقف أقل ما يقال فيها إنها نافرة لا يجوز أن تصدر عن عربي أياً كان موقفه وموقعه. نحترم كل الآراء والمواقف وحق الاختلاف ما دام هذا الاختلاف لا يقود إلى الاصطفاف خلف المحتلين المجرمين القتلة.
نتيجة للتفتت الحاصل في جسد الأمة، والتشظي الذي أصاب الكثير من مجتمعاتنا العربية، يبدو أن الوعي الجمعي الذي كان يوماً أشبه بقلب واحد نابض على إيقاع فلسطين أصيب بنوع من الحوَل أو العمى حتى اختلط الأمر على البعض ولم يعد قادراً على التمييز بين الاحتلال ومقاوميه، بين المعتدي والمعتدى عليه، وهل ينبغي التذكير دائماً بأن مجرد وجود الاحتلال على أرض فلسطين هو عدوان يومي مستمر، فكيف الحال وهو يقتل البشر، ويدمِّر الحجر، ويقتلع الشجر، ويبيد كل ما استطاعت آلته العسكرية المتغولة الوصول إليه!
المستغرب أنه بينما يسقط مقاومو فلسطين ولبنان شهداء بنيران الاحتلال ويسقط معهم آلاف الأطفال والنساء والشيوخ المدنيين، تتعالى أصوات ناشزة تلقي اللوم على الفلسطينيين وتحمّلهم مسؤولية المجازر والمذابح التي يرتكبها الاحتلال بحقهم. كأنهم لو لم يقاوموا المحتل لكانوا ينعمون الآن بالحرية والاستقلال، علماً أن تجارب الشعوب كلها تعلّمنا أن ما مِن شعب تحرر بالهين ومن دون تضحيات هائلة وجسيمة.
الأنكى أن تلك المواقف لا تصدر فقط عمّن يمكن إدراجهم في خانة الدهماء التي غُسلت أدمغتها وبلغ بها الجهل مبلغاً خطيراً، بل تصدر عن أناس يحملون صفات وألقاباً تضعهم في مصاف النخب المثقفة، وبينهم كتّاب وصحافيون وناشطون في مواقع التواصل الاجتماعي والميديا الحديثة يعودون للنفخ في بوق الفتن الطائفية والمذهبية كلما لاحت لهم بشائر وحدة أو تلاقٍ بين أبناء الأمة على قضية حق وحقيقة هي قضية الشعب الفلسطيني الذي يعيش منذ قرابة قرن من الزمن ظلماً لا مثيل له.
نفهم أن تكون بعض الخيبات والخيارات ناجمة عن عقود من القهر والاستبداد، أو عن فشل الحركات القومية والوطنية، أو عدم تقبِّل واستيعاب لمرحلة صعود التيارات الإسلامية، أو نتيجة أخطاء ارتكبتها بعض القيادات الفلسطينية قبل أوسلو وبعده، وهي أخطاء مرفوضة بطبيعة الحال، وتلك القيادات مدعوة اليوم قبل الغد إلى مراجعة تجاربها والاعتراف بما أصابها من خلل أو زلل على امتداد مسيرة نضالية تغطي عقوداً من الزمن. لكن ما لا يجوز أبداً، ومهما كانت أخطاء القيادات الفلسطينية أو خطايا الأنظمة العربية أو مناوئيها، أن نحاسب شعباً يناضل ويجاهد ويقاوم في سبيل حقه المشروع بالحرية والاستقلال بجريرة خطأ ارتُكِب من قِبل هذا أو ذاك.
لا جدال في حق النقد والاعتراض على سياسات الأحزاب والمنظمات، وعلى مواقف القادة هنا أو هناك، لكن ما لا يقبله عقلٌ أو ضمير أن ينبري ممن يدَّعون الثقافة والمعرفة إلى إدانة الضحية وتأييد الجلاد، وإلى الشماتة المقززة بفلسطين وأهلها الذين يقاومون باللحم الحي والصدور العارية أعتى آلة عسكرية متوحشة، وذلك في سبيل حقهم المشروع بوطن حر مستقل أسوة بكل شعوب الدنيا، وهم يستحقون منا جميعاً ومن دون استثناء ما هو أكثر من التصفيق والدعاء.
ألا ندرك جميعاً أن الكلمة أحياناً أشدّ وقعاً من الرصاصة! فلا يستخفنَّ أحد بأثر كلمته وتأثيرها. ولولا أهمية الكلمة ومرادفها من صورة ولوحة ونوتة لما كان الاحتلال ليقتل غسان كنفاني وكمال ناصر وناجي العلي والمئات من الصحافيين والإعلاميين، ولما كان يجن جنونه اليوم من طلاب الجامعات في العالم، ويسعى إلى التضييق على كل ما ينشر في الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي.
إن التضييق الذي تواجهه الكلمة الحرة هو البرهان الساطع على مدى ضرورتها وقوتها وتأثيرها. لذا، سنظل نردد ونؤكد أن الكتابة عن فلسطين والمقاومة ليست فعلاً بلا طائل، بل هي رد ضروري على محاولات غسل الأدمغة ومسح القضية من الذاكرة وتزييف الوعي وتزويره، وسنظل نتذكر شيرين وعصام وفرح وربيع وكل مَن بذل عمره وحياته في سبيل فلسطين.
الكلمة مضادة للنسيان وحارسة للوجدان وتتمة للحجر والرصاصة.