"عين الطّاووس" لحنان الشيخ: بين جفون الغربة ورموش الأنا والآخر
في روايتها الجديدة "عين طاووس"تظهر لنا حنان الشيخ عقد جميع اللبنانيين الذين عانوا من الخيبات في وطنهم وذكريات الحرب بالتوازي مع مرارة الهجرة والمشاكل الاجتماعية.
ربما هناك مواضيع محدّدة رائجة لفترة زمنية معينة ينشغل بها الكتّاب كمثل موضوع رواية "عين الطّاووس" (دار الآداب)، التي تعالج النزاع بين الغربة والعودة إلى الوطن مع إدخال عنصر الموسيقى والدور الذي تؤديه عند بطل الرواية من تهذيب النفس وإطلاق طموح كسب المال والشهرة. يأتي هذا الاستنتاج كنتيجة لسلسلة روايات صدرت مؤخراً ولا سيما في عامي 2022 - 2023 عن دور نشر متعدّدة لكتّاب وكاتبات وتحديداً لبنانيات عالجن المواضيع نفسها وبأساليب مختلفة.
"عين الطّاووس" للروائية اللبنانية المقيمة في باريس حنان الشيخ، تروي قصة ياسمين التي هاجرت إلى فرنسا مع ابنها ناجي بهدف اللحاق بحبيبها (بعد هجرة زوجها لها مع ممرضة فلبينية). ترصد فيها الشيخ حكاية 3 أبطال: ياسمين، ابنها ناجي وربكا ابن أخيها صاحب البشرة الداكنة (من أم سنغالية).
في كلّ حكاية نكتشف ازدواجية في الذات البشرية لكل شخصية، كأنّ كلّ شخصية في حالة تنازع مع ذاتها في بعدين جغرافيّ ونفسيّ، بين الهجرة والوطن، بين الغربة والاندماج، بين الضحك والبكاء، بين الذات المستسلمة العاطلة من العمل والأخرى الكادحة المناضلة من أجل حياة أفضل. ولا ننسى نجاح لوحة الغلاف للفنان نجاح طاهر في عكس مضمون الرواية.
لمّاحة هي رواية الشيخ في عناصرها، عميقة في رسائلها ومتمكّنة من أدواتها، متنوّعة المواضيع عن العائلة والتفكّك الأسريّ والعنصرية والاندماج في الغربة، طارحة الحبّ والأمومة والجنس والمخدرات وموسيقى الراب... كلّها في قالب واحد كتنوّع ألوان الطاووس وريشه المخطّط الذي يشبه شكل العين، جامعة المضمون في رواية الحياة بحلوها ومرّها.
للغوص أكثر في المضمون، ترصد الكاتبة في بداية الرواية انفعالات ياسمين العمّة التي ذهبت مع ابنها ناجي إلى ألمانيا بحثاً عن ابن أخيها ريكا (النصف أفريقي) لتأتي به إلى نيس (فرنسا) فيعيش معها في مجمّع للمهاجرين.
ونعود بالزمن إلى تلك المرأة اللبنانية ياسمين الشّعار ابنة بيروت التي احتمت مع عائلتها في قرية جدتها في جبل لبنان خلال الحرب الأهلية، هذه الفتاة "الذي دخل أزيز الرصاص ودويّ القنابل والصواريخ أذنيها وسكن هناك" (ص: 115). هي نفسها المرأة التي ذاقت المرّ مع خيانة زوجها لها، بعدها هاجرت إلى فرنسا للحاق بحبيبها رامي، ثم أصبحت طبّاخة ماهرة في أحد الفنادق الفرنسية.
في أحوال ياسمين المتأرجحة بين الأم الحنون والقاسية في آن، وما يظهر للقارئ شيئاً فشيئاً صورة المرأة العاملة والعاشقة، وكأنّ بالكاتبة تكسر الصورة النمطية للمرأة الشرقية لتعبّر بصراحة عن حاجة المرأة للحرية مهما كان عرقها أو نشأتها فتقول على لسان بطلة الرواية: "أجمل سنوات الحياة هي بعد الطلاق" (ص: 70).
في "عين الطّاووس" تسلّط حنان الشيخ الضوء على ضعف شخصية الشابين (أي ناجي وريكا) في غياب المرأة، وكأنّ الكاتبة أرادت القول بأنّ المرأة المنتجة تستطيع أن تؤدي كل الأدوار مقابل عجز الرجل عن ذلك.
نمتلك الشيخ خبرة وباعاً طويلاً في الرواية لتمرير رسائل بطريقة غير واعظة، كاشفة عن علائق الشخصيات وارتباطها مع بعضها البعض على الرغم من كلّ التحديات في مجتمع عنصري وإن نادى بحقوق الإنسان، مجتمع منفصم وإن بدا متحكّماً بالأمور.
شخصيات مصابة بعقد نفسية وجسدية وإن بدت متماسكة: ناجي (ابن ياسمين الوحيد) الذي فقد في طفولته إحدى عينيه فحلّت عين زجاجية محلها أطلق عليها عين الطاووس، كما وعانى من فقد أبيه، وبالتالي راح يسأل نفسه: "تُرى، هل اختفاء والده من حياته هو ما ترك جرحاً في روحه أم أنّ رؤيته لعينه وهي تذوب أمامه وهو يضجُّ من الألم؟" (ص: 114).
هذا الشاب العشريني العاطل من العمل والمدمن على المخدرات يرى في تأليف أغاني الراب فرصة للنجاة من عالمه الحزين، هو العاشق المتيم المفلس وغير المستقرّ في علاقاته العاطفية، بدءاً من الحبيبة الأولى ماغي ونزواته الجنسية (مع التطرّق إلى أهمية الكلب في حياة ماغي)، ثم الحبيبة الثانية باسكال (واختراعه لقصص غير واقعية معها).
نفتح القوسين هنا لنشير إلى قدرة الكاتبة على تصوير المجتمع الفرنسي بتفاصيله خصوصاً لناحية التناقضات الاجتماعية والدينية المتمثلة في حبيبات ناجي. معرّيةً (أي الكاتبة) أوضاع رجال الدين "بأثوابهم الفضفاضة التي تثير بأجسامهم الرغبة في التملّص من أيّ عائق... فهم لا يعانون من شجن، أو حيرةٍ أو مشاكل عائلية أو اقتصادية" (ص:155). حتى ينتهي الأمر بناجي في غناء الراب أمام مجمّع المهاجرين وبالتالي لفت نظر قناة التلفزيون الفرنسي لتعرض معه مقابلة ومشروعاً فنياً مستقبلياً.
أمّا الشخصية الرئيسية الثالثة فهو ريكا ذو البشرة الداكنة الذي عانى في طفولته من تمييز عنصري في لبنان، وقد تبرّأ منه والده بسبب لونه فرفض تسجيل ابنه في الجامعة ليتعلّم الطيران. كما عانى ريكا من الإحباط والتشرّد، وانتقل من لبنان إلى أفريقيا ثمّ إلى مجمّع للمهاجرين في ألمانيا.
لكنّ ريكا حافظ على خيط تواصل مع عمته ياسمين التي لطالما حنّت عليه في صغره، وظلت تدفق حنانها عليه في شبابه، مما دفعها للذهاب إلى ألمانيا لتدعوه وتصرّ عليه بضرورة العيش معها في فرنسا. هناك سيتقرّب ريكا أكثر من ابن عمته ليعيشا المغامرات فيكتشفا عمق المحبة بينهما خصوصاً بعد حادثة مدينة الملاهي. هنا أيضاً تلقي الكاتبة الضوء على خطوات الشباب الضائعة إزاء الحياة، كلّ ذلك بأسلوب سلس فيه الكثير من التلميح مع إضفاء المحكية اللبنانية على الحوارات.
استعملت الكاتبة الحوارات بكثافة بين الشخصيات وإن غلب على القصة في النصف الثاني منها الحوار الداخلي الذاتي (عند ناجي مثلاً)، مما أدى إلى الملل بعض الشيء. مما لا شكّ فيه بأنّ أسلوب الشيخ جريء عبر استعمال مصطلحات تفاجئ القارئ في قوتها خصوصاً في توصيف الأشياء (ص: 29-53-69-77...) وفي الأشخاص خاصة الأم (ص:146-224...) وفي استعمال نعوت جريئة.
"عين الطّاووس" رواية فيها الكثير من الوجع وإن بدت في الظاهر مضحكة، فيها الهروب من الحياة التي نخالها عادية لكنها معبّدة بكثير من المرارة، حياة تعلو فيها الصعوبات كجدران يحاول الإنسان تسلّقها وتخطيها وما إنْ يتنفّس الصعداء حتى يعود ليسقط من جديد.
عبر الشخصيات المحورية الثلاث، أظهرت لنا الشيخ عقد جميع اللبنانيين الذين عانوا من الخيبات في وطنهم وذكريات الحرب بالتوازي مع مرارة الهجرة والمشاكل الاجتماعية، كاشفة عن حياة الناس بمختلف انتماءاتهم وجنسياتهم في مجمّع المهاجرين الذي كما قال ناجي: "يشبه بؤرةً تحت الأرض سحبتني إليها وطمرتني" (ص:250). رواية تدخلنا في دوامة التفكير علّنا نعود إلى مرفأ الذات سالمين.