عزيز نيسين.. "تشيخوف" الأدب التركي

كان نيسين من روّاد الأدب الواقعي، ويهدف لمواجهة الأنظمة الفاسدة التي لا تتوانى عن سحق الفقراء في سبيل مصالح الأغنياء.

  • عزيز نيسين.. تشيخوف الأدب التركي
    عزيز نيسين.. تشيخوف الأدب التركي

يعتبر  الأديب التركي عزيز نيسين (1915 - 1995) الأكثر شهرة في عالمنا العربي، فهو من أفضل كتّاب الأدب الساخر وصاحب الأدب المليء بالإسقاطات السياسية وما يعرف بالكوميديا السوداء في العالم، أو ما تُسمّى بالقصص المضحكة المبكية. والمضحك المبكي في حياته أنه وبرغم شهرته الواسعة في كل أرجاء العالم كمبدع فذّ، إلا أن بلده الأم تركيا لم تعطه من حقه سوى القليل. ففي إحدى المرات سخر من نفسه بقوله: "أنا في الـ 53 من عمري، لي 53 كتاباً، وديوني 40000 ليرة، وعندي4 أطفال وحفيد واحد. كتاباتي تُرجمتْ إلى 23 لغة،كتاباتي المسرحية التي بلغت 17 مسرحيّة تم عرضها في 7 بلدان".

كان نيسين من روّاد الأدب الواقعي، ويهدف لمواجهة الأنظمة الفاسدة التي لا تتوانى عن سحق الفقراء في سبيل مصالح الأغنياء. ولهذا لم يحصل على جواز سفر إلا في عمر الخمسين عام 1965 وحينها ذهب لحضور مؤتمر "كتاب ضد الفاشية" في برلين.

في إحدى حوارته سُئل نيسين عن الهدف من كتاباته، فأجاب: "إني أفكر دائماً في بلدي، وأحاول أن اجعل كتابتي طوبوغرافيا اجتماعية للشعب التركي".

نُقِل لنيسين أكثر من 50 كتاباً إلى العربية، ما بين القصة والرواية والمسرحية، وإن كان ما كتب يفوق ذلك بكثير. وحوّلت بعض أعماله إلى أفلام عربية وعرض البعض الآخر منها بعد نقلها إلى العربية على العديد من مسارح الوطن العربي. ولهذا أُطلق  عليه لقب "موليير الأدب التركي".

  • رواية
    رواية "مغامرات هكلبيري فِن"

وهناك من أطلق عليه أيضاً لقب "تشيخوف الأدب التركي"، ومن سماه "مارك توين تركيا" نسبة للأميركي مارك توين صاحب رائعة: "مغامرات هكلبيري فن" التي وُصفت بأنها "الرواية الأميركية العظمى" التي تمثل تهكماً ونقداً للمجتمع الأميركي في جنوب الولايات المتحدة قبل الحرب الأهلية. وهناك من ضمه إلى نادي كبار الهجّائين الساخرين الغاضبين عالمياً: برنارد شو، وفولتير الذي عُرف بنقده الساخر، وذاع صيته بسبب سخريته الفلسفية الطريفة ودفاعه عن الحريات المدنية.

  • الروائي التركي ريشار كمال
    الروائي التركي ريشار كمال
  • صاحب نوبل التركي أورهان باموق
    صاحب نوبل التركي أورهان باموق
  • الشاعر التركي ناظم حكمت
    الشاعر التركي ناظم حكمت

فطبقاً لقائمة الترجمة العالمية الصادرة عن "اليونسيكو" فإن نيسين هو الأديب التركي الأكثر ترجمة بعد الأدباء الأتراك: أورهان باموق وناظم حكمت ويشار كمال الذي وصفه بقوله: "إن أهم صفة في شخصية عزيز نيسين هي قدرته على الصمود، التي جعلت منه أكبر كاتب ساخر في عصرنا".

كانت حياة نيسين سلسلة من المعاناة والشقاء بسبب نشاطه السياسي والفكري. فقد وُلد لعائلة فقيرة وبسبب عدم امتلاك عائلته للمال الذي يمكّنها من إدخاله مدرسة عادية اضطروا لإرساله إلى مدرسة عسكرية داخلية مجانية، ما جلب عليه الشقاء طيلة حياته.

سيرة ذاتية مصغّرة

يقول نيسين عن بداياته في قصته "قصتي"، والتي تعتبر سيرة ذاتية مصغّرة: "كتبْتُ أكثر مِنْ 2000 قصة. لا تندهشوا حيث لا شيء يدعو للاستغراب، فأنا ملتزم بدعم عائلتي وأجد أنّني ملتزم بكتابة أكثر من 4000 قصة".

في عام 1935 أنهى نيسين الإعدادية العسكرية، وفي العام نفسه دخل الكلية الحربية وتخرّج منها في العام 1937، وفي العام 1939 تخرّج من الكلية العسكرية الفنية برتبة ضابط في الجيش، وخلال الفترة نفسها درس لمدة عامين في كلية الفنون الجميلة.

يقول نيسين: "كنت عسكرياً في قارص وكنت أكتب الشعر والقصص القصيرة، ولما كانت كتابة العسكريين غير مستحبة استعملت منذ ذلك الوقت اسم (عزيز نيسين) المستعار، وصرت أنشر قصصي القصيرة بهذا الاسم، أما أشعاري فقد كنت أنشرها منذ عام 1937 باسم وديعة نيسين".

استخدم اسم عزيز نيسين (المستعار) والذي اشتهر به في ما بعد كنوع من الحماية ضد مطاردات الأمن السياسي في تركيا، إلا أن هذا الأسم المستعار لم ينفعه، فقد دخل السجون مرات عديدة. لدرجة أنه كان يُقبض عليه عند إصدار أي من مؤلفاته، ومن كثرة المطاردات السياسية لـعزيز نيسين قرّر تنظيم وقته وتحديد جدول أسبوعي لذلك:

الاثنين: استجواب في قضية نشر.

الثلاثاء: تفتيش البيت، الأربعاء والخميس: جلسات محاكمة.

الجمعة والسبت: استيفاء المحاضر، الأحد: إجازة.

ويبيّن نيسين ذلك بقوله: "بدأتُ كتابة القصة أثناء فترة خدمتي العسكرية. ومنذ ذلك الوقت نعمت بالحنق والاستياء من قبل رؤسائي كجندي يكتب للصحافة. لم أكتب باسمي الصريح إنما باسم أبي: عزيز نيسين، أما اسمي الحقيقي "نصرت نيسين" فقد حجب وأصبح طي النسيان. وبسبب سجني عام 1944 سُرّحت من الجيش، فجئت إلى إسطنبول وكانت بداياتي الصحافية".

محاكمة ونفي.... ومجلة بأسماء متعددة

كتب نيسين في العديد من الصحف التركية كما عمد إلى إصدار مجلة أسبوعية خاصة به باسم (السبت) لم تستمرّ أكثر من ثمانية أسابيع. وفي كانون الثاني/يناير 1946 تمكّن بالتعاون مع الأديب التركي صباح الدين علي من إصدار جريدته الشهيرة (ماركو باشا) التي وصلت مبيعاتها إلى (60000) نسخة يومياً، كما اعتقل في العام نفسه بسبب مقالاته في الجريدة التي سبق ذكرها، وعام 1947 حوكم أمام محكمة عسكرية عرفية وحكم عليه بالسجن عشرة أشهر وبالنفي إلى (بورصة) ثلاثة أشهر ونصف الشهر بعد انقضاء المدة، وذلك بسبب انتقاده في أحد مقالاته الرئيس الأميركي هنري ترومان.

وأغلقت في إثر مواقفه هذه جريدة (ماركو باشا) مع اعتقال صاحبها عزيز نيسين، فعاود إصدارها باسم (معلوم باشا) وهكذا راح عزيز نسين يعيد إصدار المجلة مع تغيير اسمها في كل مرة يتم فيها اعتقاله وإيقاف الجريدة عن الصدور، وكانت من بين هذه الأسماء: "معلوم باشا"، "مرحوم باشا"، "علي بابا"، ثم "باشاتنا"، ثم "ماركو باشا الحرّ "وأخيراً جريدة "مَدَدْ".

عام 1950 حكم عليه بالسجن 16 شهراً بسبب ترجمته لأجزاء من كتاب ماركس، وفي العام 1951 خرج من السجن لكنه لم يجد عملاً في الصحافة، فعمد إلى فتح دكان لبيع الكتب لكنه لم ينجح، وبين الأعوام ( 1952 -1954 ) عمل مصوّراً، وفي العام 1955 اعتقل من دون أن يعرف سبب اعتقاله وأمضى بضعة أشهر في السجن.

قُدّم نيسين للمحاكمة في 200 قضية بعضها لم يعرف فيها تهمته، وقضى ما يقرب من نصف عمره في السجون. ويوضح ذلك قائلاً: أثناء سجني الأول عام 1946 كان السؤال المتكرّر من قبل الشرطة لمدّة ستّة أيام: "من الكاتب الحقيقي لهذه المقالات التي تُنشر باسمك؟".

الحبس بسبب مقال لم يكتبه!

حتى رجال الشرطة لم يصدّقوا أنه كاتب هذه المقالات. ولكن لم يستمرّ الشك طويلاً حتى اتهمته الشرطة بعد سنتين بأنّه كتبْ مقالات أخرى بأسماء مستعارة.

في المرة الأولى حاول إثْبات أنّه كتب، وفي الثانيةَ بأنّه لم يكتب، وبهذا شهد أحد الخبراء أنه كتب مقاله باسم مستعار لذا سُجنْ 16 شهراً بسبب مقال لم يكتبه.

ويكرّر نيسين الحديث عن معاناته مع اسمه المستعار فيقول إنه عندما ذهب لتسلم نقود حقوقه المحفوظة عن نقل كتبه إلى لغات أجنبية، اكتشف بأنه يتعيّن عليه إثْبات أنه الكاتب عزيز نيسين ذاته، لأنّ أوراقه الرسمية وهويته تقول بأنه "نصرت عزيز".

وبسبب موقفه المعارض لسياسة الدولة التركية حيال الكرد هدده مدعي الدولة العام 1994 بعقوبة الإعدام. ولم يقتصر نقده على سياسة بلده، بل امتد ليهاجم السياسة الأميركية في العالم الثالث.

وتقول "دارسلان" مسؤولة العلاقات العامة في "دار عزيز نيسين" الذي تحوّل إلى دار للأيتام: "حاول إرهابيون إحراق فندق "ماديماك" في مدينة "سيواس" عام 1993، أثناء وجوده هناك في مؤتمر مع 35 من الأدباء والنقّاد المشهورين".

وتضيف: "كان صادماً له محاولة قتله، خاصة أنه طوال عمره يعمل لصالح الناس والفقراء منهم بالذات". وتستدرك: "حتى الآن مرتكبو ذلك الحادث مجهولون، لكنني أكاد أجزم أنهم جهلة".

  • قصة اَه منا.. معشر الحمير
    قصة اَه منّا.. معشر الحمير

قصص نيسين الساخرة: الكوميديا السوداء

عن هؤلاء الجهلة والأفّاقين، جاءت قصص نيسين الساخرة التي تدخل ضمن ما يُعرف بالكوميديا السوداء في العالم، أو ما تُسمى بالقصص المضحكة المبكية، ومنها قصة بعنوان "آه منا..نحن معشر الحمير" وملخّصها أن حماراً كان يأكل فى الغابة، ثم لمح ذئباً فوق الجبل، فوضع وجهه فى الأرض قائلاً: لا، لا، ليس ذئباً!، ثم نزل الذئب من الجبل، ورآه الحمار، فقال لنفسه:يقيناً ليس ذئباً!. ويقترب الذئب أكثر، ولكنّ الحمار كلما لمحه ردّد مع نفسه جملة: ليس ذئباً،ليس ذئباً!. حتى إن الذئب اقترب بشدة حتى بدأ يلامس أنفه لحم الحمار تمهيداً لالتهامه، ولكن الحمار ما زال مصراً أن مصدر الشم هو كائن آخر غير الذئب(؟!). ولم يعترف الحمار بالخطر أو بوجود الذئب، الحقيقة، إلا بعد أن قضم الذئب قطعة كبيرة من لحمه، ليخرّ ساقطاً من الألم وهو يلفظ أنفاسه فى طريقه إلى الموت!...والقصة تبدو بسيطة وساخرة إلا أنها تعبّر عن رفض البعض الاعتراف بالخطر أو اقتراب الشرّ رغم وضوح الرؤية.

وبالطبع كلنا قرأ حكاية الجاسوس الأميركي في بنية الاتحاد السوفياتي القديم التي وردت أول مرة في روايات نيسين، وتسبّب في دماره، فاختفت الدولة العظمى عن الوجود فى كانون الأول/ديسمبر 1994. فجاسوس في صلب السلطة، فيروس ساكن صامت، بلا كتاب شيفرة ولا حبر سري، ولا جهاز استقبال في نصف كف اليد، ولا أسرار طائرة، فقط عليه أن يدفع بأسوأ العناصر إلى كل الوظائف المرموقة، وغباؤها أو تفاهتها هو  قنبلة ذرية نظيفة، تنشطر في الدولة وتجعل عاليها واطيها بهدوء وشمول.

وفاة نيسين: لا أريد أن يكون مكان دفني معلناً

لم ينسَ نيسين فضل تربيته في دار أيتام لمدة عامين عندما اختفى والده ولم تستطع أمه الإنفاق عليه، حيث يقول: "لولا دار الأيتام لما تعلّمت الكتابة ولا صرت كاتباً". فحين أصبح لديه بعض المال قام عام 1972 بتحويل منزله الموجود في ضاحية من ضواحي إسطنبول، تدعى "تشاتلجا"، إلى وقف ينفق على الأطفال الفقراء والأيتام وتعليمهم. وإلى الآن يُنفَق على الوقف من مبيعات كتبه، وعوائد إيجار العقارات التي كان يملكها، وتبرعات محبيه وقرّائه من كل أنحاء العالم.

عاش نيسين حياته بعيداً كل البعد عن النمط الاستهلاكي وحب الشهرة، فقد أوصى قبل وفاته "لا أريد إعلان موتي في الصحف، لا أريد مراسم جنائزية، لا أريد أن يكون مكان دفني معلناً، ليظل الأطفال يلعبون فوقي". ولا يُذكّرهم بالموت وهم أحوج ما يكونون إلى تذكّر الحياة.

وبالفعل تم تنفيذ وصيته وتم إحضار عامل دفن من خارج البلدة، لإجراء مراسم الدفن ولم يكن هناك معه إلا صديق عزيز نيسين الذي أُؤتمن على سر مكان الدفن و7 أشخاص من أسرته وأصدقائه المقرّبين. وأوصى نيسين بأن من يُريد زيارة قبره، كل ما عليه فعله فقط هو الوقوف ولو للحظة واحدة أمام الآلة الكاتبة التي قضى معها أكبر جزء من وقته. 

نال نيسين عدة جوائز عالمية مثل جائزة السعفة الذهبية من إيطاليا عامي 1956 و1957. وجائزة اللوتس الأولى من اتحاد كتّاب آسيا وأفريقيا 1975 وغيرها.

توفي نيسين في 6 حزيران/يونيو 1995 بأزمة قلبية بعد أن ترك إرثاً أدبياً كبيراً. من أهم مجموعاته القصصية: "أسفل السافلين"، "الطريق الطويل"، "صراع العميان"، "الحمار الميت لا يخاف الذئب"، و"الهدّاف".