عتبات الـ "صَبَا"..حسن المقداد في لعبة الدلالة والإيحاء
عالم عتبات الـ (صَّبَا) على تعدد أنواعه وأشكالها، شأن شعري شامل خصَّه شاعر الـ(صَّبَا) حسن المقداد بدلالات شعرية، وبثَّ في خلاله معاني ذات ثراء فني؛ رؤيةً وخلقاً لمعنى شعري، وتشكيلاً بنائياً.
حين تقرأ تجربة شعرية لافتة، فإن عالم عتباتها هو أوّلُ الدوال التي تصافح بصرك، لتأخذ بأسباب وعيك النقدي إلى متبنياتها، ولتدلَّكَ – على نحو من طرائق شتى - على معجمها بألفاظه وحقولها، وعلى إيقاعها؛ بمكوناته وأساليبها ومعطياتها؛ وعلى تراكيبها في بناء الجمل الشعرية؛ بأساليبها ودلالاتها، وما يرشح عنها من ندى شعري، وعلى فنون رسمها، وطرائق صورها؛ القريب منها والمستجد، وما تنفخ فيه من روحها: تجسيداً أو تجسيماً أو تشخيصاً، أو غير ذلك، مما تحيط به التجارب النوعية اللافتة، ولا تحدده القراءات والنقود وكشوفاتهما، وعلى أشكال بنائها، سواءً ما اتصل بالقصيدة منها، أم ما كان خاصاً ببناء التجربة الشعرية التي بين الغلافين؛ من عنوانها وغلافه الرئيس إلى غلافها الأخير بما انطويا عليه من خطوط ودوال نصية. وعلى المعنى الشعري الذي يميّز - على نحو باعث على التأمل - القصيدة بوصفها شعراً، من المنظومة الشعرية بوصفها صناعة تقليدية.
عالم عتبات الـ (صَّبَا) على تعدد أنواعه وأشكالها، شأن شعري شامل خصَّه شاعر الـ(صَّبَا) حسن المقداد بدلالات شعرية، وبثَّ في خلاله معاني ذات ثراء فني؛ رؤيةً وخلقاً لمعنى شعري، وتشكيلاً بنائياً.
في مجموعته الجديدة "صَبَا" الصادرة حديثاً عن "دار البيان العربي" في بيروت، جمعت عتبة عنوانها أفقاً من الإيحاءات التي تضمر عمق شعرية اللبناني حسن المقداد.
ذلك أن (صَبا) تُحيلُ إلى الانفعال والتغيير وزمنهما، حين نقرأ هذه العتبة على أنها فعل ماض. وإلى الحيوية والتدفق الدائبين حين تستعيد العتبة نفسها على أنها مصدر. وإلى فائض إيحاءات تستجد حين نقرؤها على أنها (اسم علم) مثلاً، فمع العلمية يحضر (الماكث الإنساني في القلب) حضوراً شعرياً أكثر ثراءً، وأغزر إيحاءات، لأن الشاعر هناك ينفعل به؛ رمزاً حيناً، ودالاً مجازياً أحياناً أخرى، بما يجعله مرآة لأوجه المتلقين ذات كشوفات أوسع، وذات تماهيات أعمق.
وإذا التفت – بعد العنوان – إلى عتبة الإهداء تبدّى لك ذلك النزوع الذاتي والمكوث الفردي، والتحول الدلالي، حيث جاء نصها قائلاً: (إلى المؤنّث بالطبع)، وهنا تظهر الذاتية في إخراج عتبة الإهداء بالخط اليدوي المباشر، وليس بالطباعة، والفردية في أنه يوحي للمخصوص بها؛ أنه في المعنى، والإخراج يخصّه فرداً، ويظهر التحول الدلالي في شبه الجملة الثانية، لأن الإهداء تكون من شبه جملة أولى هي (إلى المؤنث)، وأخرى أيضاً هي (بالطبع)، وهو هنا يحيل دلالة الكلام في: (بالطبع) إلى المعنى التداولي الذي قصده حين خط بيده ذلك، لا إلى المعنى الدلالي من شبه الجملة (بالطبع)، لأن المؤنث بالطبع قد يكون ذكراً، ولكن بطبع أنثوي، وقد تكون أنثى بطبع أنثوي، أو غير أنثوي، وهو لا يذهب لهذه الدلالة العامة، إنما قصد المخصوص بالإهداء فقط في قصد (براغماتي خالص)، ثم جاءت قصائد المجموعة الثلاث والعشرون تتنفّسُ ذلك (المؤنث بالطبع) في صوره المباشرة، أم في صور مكانية عبر توظيف المدينة، كما في قصيدة (بيروت)، (بعلبك) أو في توظيف الفن، كما في (القصيدة) في الترميز الشعري، فهي عنده (أنثى بالطبع)، وهناك عتبة المقولة، سواءً التي استهل بها المجموعة كلها، أم المقولة التي قدّم بها لقصيدة معينة، في كلا الشكلين هي تستجيب لمتطلبات الشاعر الذاتية العاطفية ذات البث الوجداني، والفنية الرؤيوية ذات البث الشعري. وهو ما يتمثّل أولاً في المقولة التي قدَّم بها للتجربة كلها، وهي مقولة شعرية مثّلها بيت شهير للشاعر المصري لـإبراهيم ناجي قدّمه مخطوطاً بقلم حسن المقداد، لا بالرسم الصناعي المطبوع، لأنه فيه يستعيد بعض ذاتية الإهداء، وقال ناجي:
وحنيني لك يكوي أضلعي
والثواني جمراتٌ في دمي
والصورتان: الاستعارية في الشطر الأوّل، والتشبيهية في الثاني تحيلان خيال المتلقي إلى معنى (النار) التي يستعيدها في المجموعة كلها على أنها ضرورة خلق، يقدّمها ضرورة واجبة لإيجاد الماء!
وهناك عتبة التقديم الموضوعي الشارح، كما في التعريف ببعض (مقام الصبا) في علم الموسيقى والألحان، عند التقديم لـ(قصيدة صَبَا)، وكما في التقديم لقصيدة (المؤنسة) بتوضيح موضوعي لـ(ريح الصبا) صادراً في ذلك عن مقولات الجغرافية وعلماء المناخ، ملتفتاً إلى ما قاله العرب القدماء في مفهومها وصفاتها، وقد عني بتوظيف معنى (الطارئ المؤقت غير الأمين فيها)، وهو ما تبنّى بعض إيحاءاته في قصائد المجموعة الرئيسة.
وقد عني بإخراج (عتبة التقديم)، وكذلك (الإهداء) خطيّاً بقلم الشاعر، وليس طباعياً (بقلم المطبعة)، لأنه يقصد ذلك جزءاً من المعجم الجامع لكلام القصيدة في الإيحاء والإشارة.
وهناك (عتبة الشطرين) التي يرد إخراج البيت عبر معطياتها وروداً يستجيب لحدود الشكل في خلق المعنى الشعري، ولممكنات ذلك في المعجم والإيقاع والتركيب، وهي عتبة تقليد في النظم، ولكنها عتبة خلق مستجد دائم الجريان في الشعر بمعناه الإبداعي الذي جاءت فيه قصيدة (صَبا) لحسن المقداد، حيث يجترح لمتطلبات الشكل بُعْداً ذا نزوع للإضافة في كل قصيدة، بدءاً من القصيدة الأولى هنا:
لا بأسَ أنْ قتلت صَّباً رهافته
لطالما قُتل الحلاج وانتصرا
هذا هو الحب في أقصى تجرّده
لا فَرقَ إن ربح القبطان أو خَسرا
وقد ظهر أنه يُعنى بإخراج البيت في صورته البصرية التقليدية بحدود الشطرين إخراجاً طباعياً ملتزماً، على الرغم من خلوص لغته وفضائهِ الشعري لثراءٍ ذي إضافات، في مجازات الكلام وانزياحات الوحدات الشعرية. وقد يُعنى بعتبة (السطر الشعري) حين يعمل بقصدية دلالية على إخراج (حدود الشطرين) إخراجاً طباعياً سطرياً، بحسب رؤيته في الإيحاء بالمعنى الشعري، كما في القصيدة الأولى نفسها:
بيني وبين فضائي
نصفُ أنملة
ما زال سطران حتى أبلغ القمَرا
هذا الفصل الطباعي عند الإخراج بين (الخبر) في السطر الأول، والمبتدأ في السطر الثاني، إيحاء بغياب المسافة يستدعي أن يقيم الجملة من الخبر والمبتدأ في شطر واحد بصري مضاف (لغياب المسافة: نصف أنملة)، وهذا النهج في الإيحاء البصري عمل عليه في مجموعة (صبا) كلها.
ومن اللافت أن الشاعر في القصائد التي تبدأ من عتبة العنوان وفي عالم القصيدة مسكونة بالأجوبة وبالرؤى الماكثة في المكان وبالنأي عن الحيرة، يعنى كثيراً (بعتبة الشطرين)، ولا يلتفت لـ(عتبة السطر)، من ذلك إخراج قصيدة (الحيرة) التي جاء على صورة الشطرين موحياً بأن (الحيرة) تسكن (نظاماً ما)، وتجد مستقرها فيه! إيحاء يجعل الإخراج الطباعي جزء المعجم الجامع لكلام القصيدة في الدلالة والإيحاء.
ومن العناية بالعتبات والإخراج الطباعي الفني الدال أن عنوان المجموعة (صَبَا) واسم الشاعر: (حسن المقداد) قد ورَدَ مطلع كل صفحة في المجموعة لا لتوثيقها على نهج القدماء، إنما لأن دلالة (عتبة العنوان) جرت في قصائد المجموعة كلها، كما أن الشاعر في رؤيته الشعرية وفي ممكنات وعيه؛ تخيّلاً ورؤى وأساليب خلق، قد امتد منتمياً لتجربته في هذه المجموعة كلها، من دون أن ينزاح إلى تقليد تجربة ما، بقي خالصاً لنهجه في التخيّل والاستشراف الشعريين، منجزاً خصوصية خلق أسلوبي في التراكيب، وقدرة على الاستشراف في البناء التصويري مجتهداً في الإضافة، منتمياً لتجربته التي ينتسب لها بخصوصية شعرية لافتة.