صرح حضاريّ.. ما قصّة البيمارستان النوري في دمشق؟
"من شرطه أنه للفقراء والمساكين"، هكذا وصف ابن كثير البيمارستان النوري في دمشق. ماذا تعرفون عن هذا الصرح الذي بُني منذ نحو 900 عام؟
في منطقة الحريقة بالقرب من الجامع الأموي، وفي زقاق متفرع من سوق الحميدية، بناء تتقدمه واجهة خارجية حجرية بارزة تعلوها قبة مقرصنة حمراء. في أثناء الاقتراب منه، تستقبلك لافتة معلقة على جانب الباب مكتوب فيها بلغتين عربية وأجنبية "البيمارستان النوري: بناه نور الدين محمود بن زنكي سنة 549 ه= 1154 م".
وكان هذا المبنى - منذ قرون مضت - مستشفى ومدرسة مزدهرة للطب. يعد البيمارستان النوري، أو ما يسمى اليوم "متحف الطب والعلوم عند العرب"، من أبرز المباني التاريخية في دمشق القديمة، وهو واحد من 3 بيمارستانات شيّدت فيها قديماً.
يلي الباب الرئيس مدخل مربع الشكل علقت على جدرانه لوحات فيها شرح لأقسام المكان ومقتنياته، ثم فسحة سماوية واسعة. في صحن المتحف، وعلى جوانب البحرة تنتشر أشجار ونباتات متنوعة، تتوزع في أطرافه قاعات متخصصة ذات أبواب خشبية.
أغلق المتحف أبوابه أمام الزوار لأعوام تزامناً مع اندلاع الأزمة السورية، ثم افتُتح مجدداً في نيسان/أبريل 2019.
وتعني كلمة البيمارستان "دار المرضى"، ثم اختصرت في الاستعمال فصارت مارستان، كما ذكرها الجوهري في صحاحه. وهي كانت من أول عهدها إلى زمن طويل مستشفيات عامة، تعالج فيها جميع الأمراض والعلل من باطنية وجراحية ورمدية وعقلية، إلى أن أصابتها الكوارث ودار بها الزمن، وفق ما يشير أحمد عيسى بك في كتابه "تاريخ البيمارستانات في الإسلام".
البيمارستان النوري عبر التاريخ
بنى الملك نور الدين محمود بن زنكي البيمارستان، الذي وصفه، ابن كثير، بأحسن ما بني من البيمارستانات بالبلاد. ويروي ابن كثير في كتابه "البداية والنهاية": "ومن شرطه أنه على الفقراء والمساكين، وإذا لم يوجد بعض الأدوية التي يعز وجودها إلا فيه فلا يُمنع منه الأغنياء، ومن جاء إليه مستوصفاً فلا يُمنع من شرابه".
كما دونت المراجع التاريخية معلومات عن هذا البيمارستان. ففي سنة 580 هجرية زار ابن جبير دمشق، وخلال زيارته وصف أبوابها ومساجدها ومدارسها، كذلك ذكر فيها مارستانين قديماً وحديثاً. ورأى ابن جبير أن الحديث أهمهما وأكبرهما، حيث له أناس يحملون سجلات المرضى وما يحتاجون إليه من نفقات في الأدوية والأغذية وغير ذلك. ودأب الأطباء على تفقد أحوال المرضى في كل يوم. ويوثق ابن جبير في كتابه "الرحلة" عن (دار صادر للطباعة والنشر) عمل الطاقم الطبي في ذلك الوقت، بالقول: "يبكّرون إليه في كل يوم، ويتفقدون المرضى ويأمرون بإعداد ما يصلحهم من الأدوية والأغذية وغير ذلك حسبما يليق بكل إنسان منهم".
وفي سنة 1427 م، دخل غرس الدين خليل بن شاهين الظاهري دمشق بصحبة رجل عجمي، فلما قصد الرجل العجمي البيمارستان، ورأى ما فيه من المآكل والتحف واللطائف، تضاعف (تمارض) وأقام به 3 أيام، ورئيس الطب يتردد إليه ليختبر ضعفه، فلما جس نبضه وعلم حاله وصف له ما يلائمه من الأطعمة والأشربة والفواكه المتنوعة، ثم بعد ذلك كتب له ورقة من معناها: "أن الضيف لا يقيم فوق 3 أيام".
مستشفى ومدرسة
لم يكن البيمارستان مكاناً لمعاينة المرضى ومعالجتهم، بل كان أشبه بمدرسة طبية، فعندما عيّن نور الدين أبا المجد محمد بن أبي الحكم رئيساً للبيمارستان، اعتاد أبو المجد الجلوس في الإيوان الكبير للبيمارستان بعد انتهائه من تفقد أحوال المرضى. وكان نور الدين وقف على هذا المكان جملة من الكتب الطبية، وكان أبو المجد يجري مباحث طبية مع الأطباء وينظر في الكتب ويقرئ التلاميذ مقدار 3 ساعات كل يوم. وهو ما ذكره ابن أبي أصيبعة في كتاب "عيون الأنباء في طبقات الأطباء".
ومن أشهر أطباء البيمارستان النوري، عماد الدين الدنيسري، الذي خدم في البيمارستان، وكذلك الحكيم موفق الدين ابن المطران، وبدر الدين ابن قاضي بعلبك "عيون الأنباء".
يقول معاون وزير الثقافة، وأمين "متحف الطب والعلوم عند العرب" سابقاً، علي القيم في تصريح لـ "الميادين الثقافية": "إن البيمارستان كان بحق صرحاً حضارياً؛ إذ كانت الطبابة فيه مجانية للناس كلها. وإلى جانب ذلك، كان فيه مدرسة كاملة لتعليم الطب"، مشيراً إلى أنهم استعملوا الموسيقى في معالجة المصابين بالأرق. ويذكر القيم أن من بين الأطباء علاء الدين أبا الحسن علي بن أبي الحزم القرشي الشهير بابن النفيس، والذي درس وعمل في البيمارستان قبل أن يغادر إلى القاهرة لاحقاً.
ويضيف القيم: "استمر البيمارستان مستشفى يعالج فيه المرضى حتى إنشاء مستشفى الغرباء (1899)، بعدها تحول إلى مدرسة، ثم استملكته ورممته المديرية العامة للآثار والمتاحف، وأعدته مقراً لمتحف الطب والعلوم عند العرب"، وكان ذلك عام 1978.
أما الأمينة السابقة لمتحف الطب والعلوم (البيمارستان النوري)، ورود إبراهيم، فتوضح لـ "الميادين الثقافية" أن البيمارستان يُعَدّ من أقدم المستشفيات التي عالجت الأمراض الجسدية والنفسية، واستعملت الموسيقى في العلاج أيضاً، مشيرة إلى تعرض البناء لزلازل في فترات زمنية متعددة.
وتقول إبراهيم: "بعد أن تحول المكان إلى متحف، قسمته المديرية العامة للآثار والمتاحف إلى 3 قاعات، وهي: قاعة الطب، وقاعة الصيدلة، والأخيرة للعلوم".
حالة البناء ومقتنياته
يصف صلاح الدين المنجد في كتابه "أبنية دمشق التاريخية: بيمارستان نور الدين - 1946"، شكل البيمارستان، بحيث يشكّل مستطيلاً عدا البناء الحديث، ويفضي الباب إلى مدخل مربع، رفعت فوقه قبة مقرنصة من الداخل ومن الخارج، ثم صحن واسع مستطيل تتوسطه بحرة، ويحيط بالصحن إيوان شرقي كبير وإيوانان متناظران صغيران في الشمال والجنوب.
ويؤكد المنجد أن بيمارستان نور الدين من أغنى آثار الدولة النورية بالزخارف التي كانت فيه زمن بنائه، أو أضيفت إليه فيما بعد. وهذه الزخارف هي: المقرنصات، وزخارف على النحاس، والخشب المنقوش، ونقوش في الرخام وفي الحجر، وزخارف من الجص، ودهانات زخرفية على الجدران. و"نجد المقرنصات في هذا البيمارستان فوق الباب الخارجي، وفي القبة التي فوق المدخل، وفي نصفي القبة على كتفي المدخل"، وفق وصف المنجد.
أما ورود إبراهيم فتقول إن المقرنصات تضفي جمالية على البناء، كما تتميز جدرانه بالسماكة، فلا ينزعج من في داخله بضجيج الأسواق التجارية في الخارج.
وتعدد إبراهيم بعض مقتنيات المتحف، بحيث تحتوي قاعة الطب على أدوات طبية من فترات زمنية متعددة، مثل القميص الطبي، ومكاحل للعين، وتضم قاعة الصيدلة أدوات من قبيل قارورات زجاجية متعددة الأحجام لوضع الأعشاب الطبية فيها. أما قاعة العلوم فتضم أدوات فلكية، وفي داخل البيمارستان أيضاً مكتبة تحتوي على كتب نادرة ومخطوطات ورسائل طبية وفلكية وغيرها.