روحانيات مشرقية سريانية.. ترانيم الرجاء
المميّز هو قدرة فرقة "منفردو دمشق" على استلهام الروح الصافية للألحان السريانية، بما فيها من خصوصية على صعيد المقامات، وتقديمها بأناقة قلّ نظيرها.
أن نشهد ميلاد يسوع المسيح في بيت لحم، ونتتبع مع المجوس النجمة إلى المغارة، ثم نطلب المغفرة والرحمة من ابن مريم، ونتلو تضرّعاتنا للبتول الممتلئة نعمة، ونتلمَّس دموع بطرس وندمه بعد أن ضيَّع مفاتيح السماء، وكيف بات بعدها الصخرة التي بُنيَت عليها الكنيسة، ثم نبكي مع العذراء عذابات وحيدها، ونترحّم على الشهداء، ونترجَّى السلام،... أن نشهد كل ذلك من خلال ألحان شفيفة لأشعار سريانية هو شيء مميز.
وأن تتحوّل الموسيقى من كونها بشارة إلى ابتسامة، فدمعة ثم رجاء، عبر تراتيل وأناشيد تنتمي لـ"روحانيات مشرقية سريانية" مبنية على سلالم موسيقية تعود أصولها إلى ملحمة جلجامش، وشكَّلت في ما بعد الركيزة الأساسية للموسيقى العربية، دينيةً ومدينية، فهذا نبش في جَمال تراثنا الموسيقي الذي يستحق أن نفتخر به.
والمميّز هو قدرة فرقة "منفردو دمشق" على استلهام الروح الصافية للألحان السريانية، بما فيها من خصوصية على صعيد المقامات، وتقديمها بأناقة قلّ نظيرها، انتقلت بشفافية إلى جمهور صالة الدراما في "أوبرا دمشق"، الذي شعر بقرب تلك الموسيقى منه، حتى أن حاجز اللغة لم يقف عائقاً أمام استمتاعه بهذه الترانيم والأناشيد، خاصة مع الترجمة على الشاشة في عمق الخشبة.
ورغم أن أمسية السبت بدأت بسماعي نوخرويو بمعنى "غريب" للملحن غابي ماسو، إلا أن حساسية تشيللو محمد نامق الذي مهّد الطريق أمام ناي ربيع عزام وإيقاع شفيق ياغي، أزال معالم تلك الغربة، ولا سيما بعد اندغام تلك الآلات الثلاث مع كمانَي جورج طنوس وآندريه مقدسي، وقانون ماهر خضر، وبزق باسم جابر، وبيانو تالار كعكجيان، لنكون أمام مدخل بناء موسيقي زاخر بالجماليات، صمّمه الموزّع الموسيقي ناريك عباجيان، وأشرف عليه المايسترو ميساك باغبودريان.
تلك الجماليات لم تلبث أن تعززت بصوتي سناء بركات وميشيل سنونو اللذين جاءا كأصداء لأصوات موغلة في القدم، تغلغلت في لا شعورنا الجمعي، وغذَّت جذور الصوت السوري وفرادته في التعبير، وأعطت فكرة واسعة عن تمكُّنه في زخرفة البناء الموسيقي التراثي الذي يعود لآلاف سنوات خلت.
مما قُدِّم في الأمسية كانت ترنيمتي عال بيت لحيم (على بيت لحم) ومشيحو إيثيليد (وُلِد المسيح) بصوت سناء بركات من كلمات بيت كازو على لحن طقوسي قديم، تلتهما "قورينان لوخ" كلمات وألحان مار يعقوب السروجي، و"موران اتراحام علين" كلمات وألحان ماري أفرام السرياني، وفي جميعها برزت أهمية الأصوات على تقاطعات من الصمت، ضمن سرديات موسيقية بدأت بالفرح لميلاد يسوع ثم انتقلت إلى طلبات الرحمة من الرب المُتحنِّن.
وبصوت ميشيل سنونو سمعنا السلام عليك يا مريم (شلو مليخ بثلتو مريم) ألحان جورج دودوش، وما تحمله من تبريكات للبتول التي ولدت نور العالم، ثم تستمر التطويبات بترنيمة لقد ولدت البتول (طوباكِ بثلتو يولداث دومورو) وهي من طقوس الميلاد العجائبي.
اللحن الأنصع والأكثر روحانية، والمُمْتَلك كل مقومات التصعيد الدرامي، كان بتوقيع الملحن السوري نوري اسكندر لترتيلة الإيمان (هيمونوثو)، الذي عزز من خلال فهمه العميق لجماليات الموسيقى السريانية الصرفة صفاء النَّغم ورجاءه، إضافة إلى سعيه للارتقاء بدرجات الصوت الذي أتقنته سناء بركات، ليصبح تسبيحاً خالصاً، وعصارة فكر صافٍ، كما أشارت كلمات غابرييل أفرام وجاء فيها: "إن لم نؤمن سوف نصبح ضحايا وذبائح للقساة، الإيمان يُبنى من العدم للوجود، الإيمان يغزل ويضفر تاجاً جميلاً من الورود، الإيمان يحرّر الذين هم تحت نيرٍ مُقيَّدين، الإيمان هو عصارة الفكر الصافي".
وبمزج بين اللغتين السريانية والعربية غنت بركات "عال هو ترعو" بمرافقة التشيللو والإيقاع، لنتلمَّس من خلال هذه الترنيمة التي تنتمي لطقس النهيرة، نَدَم بطرس تلميذ المسيح بعدما أنكره ليلة الصلب، ومن كلماتها: "على الباب البرّاني، وقف شمعون يبكي، ربّي افتح بابك، أنا تلميذك، السماء والأرض عليَّ يبكون، مفاتيح السماء ضيَّعْتْ".
وبترتيلتي "عال ترعك عيتو" و"موشبيحات عيتو" اللتين تُمجدان الكنيسة وتطلبان الرحمة وقبول الغفران، أكمل ميشيل سنونو مع تفريدة كمان لجورج طنوس اندغمت مع طقوسية الرجاء، وسعت لأن تكون رجاءً موسيقياً موازياً، قبل أن ندخل في طقوس أحزان الصلب بترتيلة "وا حبيبي" المعروفة التي غنتها بركات باللغتين، ثم تلاها سنونو بترنيمة "اخ تارغوريه" التي تمجد الشهادة والشهداء.
"اوسيو طعين" ترنيمة تحكي عن يسوع الطبيب الشافي وفادي خطايا البشر، غنتها بركات وكلماتها من كتاب "زميروثو دعيتو"، لننتقل بعدها إلى 3 أناشيد سريانية بصوت ميشيل تحكي عن مدن سريانية هي بيت نهرين "بيث ناهرين" كلمات الأب شمعون جبريل أسمر، ويوحانون قاشيشو، وألحان فلكلورية، وفيها هيام بتلك المدينة من كلماتها: "يا بيت نهرين الأسمى.. تعالي شُقِّي صدري واسكنيه.. سترين قلباً مثل السراج.. لم يعرف الفرحة حتى الآن".
ومن الأناشيد أيضاً يا قنشرين المربية "قنشرين مربيونيثو" كلمات جبريل أسعد ودنحو مقدسي الياس، وفيها تمجيد بدور هذه المدينة بهدي العقول وإيصال اللغة السريانية إلى العُلا، أما نشيد "دوري ديلان" من كلمات شمعون جبريل أسمر، فيُحيي الشباب المولعين بلغتهم وقصة تاريخهم، وفيه دعوة لاتحاد السريان والآشوريين والكلدان والآراميين.
ختام الأمسية كان بالصلاة الربانية "ابون دبشمايو" التي أداها كل من سناء وميشيل، وكانت مع بقية الحفل بمثابة رسالة سلام كما أوضح آندريه مقدسي الذي قال إن: "فكرة الأمسية بدأت بدعوة معهد تشايكوفسكي للموسيقى بموسكو لــفرقة "منفردو دمشق" كي تقدّم شيئاً سورياً صرفاً، وبناءً على ذلك اختارت الفرقة الموسيقى السريانية باعتبارها من الأساس والجذور الموسيقية السورية التي نبتعد عنها شيئاً فشيئاً. بدأ التحضير منذ شباط/فبراير الماضي، وأردنا أن تكون البداية من دمشق قبل أن نقدّم هذه الترانيم والأناشيد في موسكو".