رسامون روس عشقوا تونس: كيف أثّر فيهم بلد الضوء؟

كثيرون هم الرسامون الغربيون الذين وقعوا في غرام تونس.. كيف رأى رسامو روسيا بلد الضوء المبهر؟

ضمن أنشطة التظاهرة الثقافية المزمع انعقادها في روسيا من طرف وزارة السياحة التونسية، وعلى امتداد ثلاثة أشهر، تحت عنوان "من قرطاج إلى سان بطرسبرغ"، انطلقت مطلع أيار/مايو الجاري وحتى تموز/يوليو 2022، فعاليات تحتفي بالرسام الروسي ألكسندر روبتزوف حيث ستعرض أعماله التي أنجزها في تونس التي عاش فيها إلى حين وفاته عام 1949.

كثيرون هم الرسامون الغربيون الذين وقعوا في غرام بلد الضوء المبهر، وأبدوا شغفاً كبيراً لتتبع سحر الألوان، حين انعكست عليها شمس بظلال أخرى في هذه البقعة التي تقع في أقصى نقطة من أفريقيا، جنوب البحر المتوسط، ولا تفصلها عن أوروبا سوى كيلومترات قليلة. وقد لخصها بول كلي بقوله "لقد تملكني اللون. لست بحاجة البتة للقبض عليه. لقد غزاني إلى الأبد. أعرف ذلك أنه برهان تلك اللحظة السعيدة. إن اللون هو أنا لقد صرنا واحدا فأنا الآن رسام".

بول كلي الذي كان يشكو من عدم انصياع اللون لفرشاته، تحرّر من خلل كان يمكن أن يعطل بناء عالمه الجمالي المتميز.

ألكسندر روبتزوف ورحلة استكشاف الطبيعة والناس

  • من لوحات أولغا مالاخوف
    من لوحات ألكسندر روبتزوف

لم يشذ الرسام ألكسندر روبتزوف عن معاصريه ممن ضمتهم قائمة الاستشراق في مجال الفنون التشكيلية، وكان علامة مهمة في عالم الرسم في تونس منذ بداية القرن العشرين.

ولد هذا الرسام في 24 كانون الثاني/يناير عام 1884في سان بطرسبرغ، من عائلة نبلاء مولعة بالفن وبالثقافة، حيث كان إبنها كسائر أفراد الأسرة شغوفاً بأشهر الموسيقيين في الأوبرا: فاغنار، موزار وتشايكوفوسكي وغيرهم. وفي سن العشرين التحق بالأكاديمية الإمبراطورية للفنون الجميلة، بعد أن أظهر اهتماماً كبيراً بالمدرسة الانطباعية الفرنسية، وكان تلميذاً للرسامين ديمتري كاردوفسكي وإيان تسيونجلينسكي، الذي تأثر به واصطحبه في رحلاته.

حصل روبتزوف على 6 جوائز، وتكريماً له تم وضع أحد أعماله في متحف الأرميتاج، وحصل على منحة دراسية مدتها 4 أعوام، قادته إلى التعرف على تجارب ومدارس غربية في الفنون البصرية، كما كانت فرصة ليزور الأندلس وطنجة في العام 1913، ثم تونس في 1 نيسان/أبريل من العام 1914، التي وجد فيها كما يقول: "هذه الثروة اللامتناهية من ظلال الأبيض، باستثناء ذلك المطلق الذي لا وجود له".

واقترب من النخبة البورجوازية التونسية المكونة من خليط من الأعراق في أوائل القرن الماضي، بعد أن التحق بمعهد قرطاج، وصوّر بدهشة الغريب القادم من بلد البرد والثلج مناظر طبيعية وحدائق لاقت استحساناً في ذلك الحين.

ففي العام 1920، أقام معرضاً ضمَّ أكثر من 120 لوحة، ومنحه ألكسندر فيشيه لقب "رسام النور"، وكان ذلك في الصالون التونسي، وتميزت لوحاته بلمسة ما بعد الانطباعية، كما تميزت بلمسات مرهفة وجذابة، وكانت تقترب من أعمال صديقه الرسام البارون ديرلونجيه.

في كتاب "فسيفساء تونس الشتات العالمية"، لجاك ألكسندر بولوس وباتريك كابانيل، يقول رئيس "جمعية بروبتزوف للفنون"، بول بوغليو، متحدثاً عن جوانب من سيرة هذا الفنان الذاتية: "كان قليل الكلام وفصيحاً على سطح القماش، وكان يتردد على كبار الشخصيات وأكثر المواطنين فقراً وأكثرهم بساطة، وكان هادئاً ومتواضعاً، وكان موضع ثقة ومحبة الجميع. وكانت مهمته تدوين كل شيء في تونس لتخليده كبلد صغير وغني بالقصص، وهو مفترق طرق أساسي في البحر الأبيض المتوسط. لقد كان روبتزوف يقوم بتثبيت كل شيء في لوحته، وأحب كل تلك الفسيفساء الموجودة في أزمنة تونس، والتي تمتد إلى عصور ما قبل التاريخ إلى يومنا هذا".

ويضيف بوغليو متحدثاً عن ازدواجية الثقافة الغربية والشرقية، وكذلك الجاليات التي كانت تعيش في البلاد، والعادات والتقاليد التي اختفت الآن، وتنوع القرى والمناظر الطبيعية، وبالطبع الألوان أفادته في إنجاز مهمته وإكمال فنه، فقد سافر باستمرار إلى أوروبا، وتعلم لغات ليكون في تعايش تام مع هؤلاء الذين التقى بهم، وكان له دفتر يخط فيه بعض الرسوم، وكان دائماً في متناول يده، فهي أقدر على التعبير وعلى التذكير من الصورة". يُذكر أنَّ أعماله كانت تعرض بانتظام إلى جانب الصالون التونسي، في صالون الشمال الأفريقي.

كان ألكسندر روبتزوف ينتابه شعور يشبه الفاجعة، بسبب التمدن غير المنضبط الذي لا يراعي أصالة هذا الشعب، وكذلك اختفاء الأزياء التقليدية، إذ كان يقول: "مثل هذا العربي في برنسه، ألا يستحق مع طيات هذا اللباس منحوتةً رومانيةً؟ كم نحن بلا ذوق في بدلاتنا".

الواقعية في لوحات روبتزوف 

  • من لوحات ألكسندر روبتزوف
    من لوحات ألكسندر روبتزوف

رسم روبتزوف المرأة في لباسها التقليدي وفي حياتها اليومية، بعيداً من الزخرفية المفرطة التي تمتاز بها أغلب أعمال المستشرقين الحالمين بعالم سحري، يتداخل فيه الحسي بالإيروسي. نساؤه لهن وجوه أصيلة ومعبرة، تشوبها نظرات عميقة لا تخلو من تمثل دواخلهن. وكمثالٍ على هذا هنا كلوحة "عليا"(1937)، ولوحة "فاطمة ومنوبية" (1915)، ولوحة "عائشة" (1942)، وكذلك لوحة "حفصية وفاطمة (1949)"، حيث يقول: "إنهن البدويات، الجبليات، الأميات، هن الجميلات والنبيلات والراقيات، بينما نحن ممثلي الحضارة الأكثر تقدّماً، قبيحون وتافهون، ولسنا رشيقين".

هناك أنوثة فطرية بعيدة عن الإغواء المتصنع، وهناك نساء يتحركن في فضاءات منسجمة مع طبيعة وضعيتهن في مجتمع محافظ، وأخريات من المقاطعات الداخلية للبلاد تغلب عليهن السمة الأمازيغية، حيث رسم عالمهن القديم كنوع الأغطية والأطباق المعدة للأكل والأواني والفخاريات والأردية الصوفية وزينة الوجوه والعيون والأطراف والحلي التقليدي. كما وثق هذا الرسام لصنف آخر من الفن الاستشراقي الكلاسيكي وهو العري، حيث رسم بعض البورتريهات لنساء يمتهنَّ مهناً مهمشة، من دون أن يقع في فخ المبالغة في تجريدهن من سماتهن المتسمة بعدم التكلف، وكما هي الحال في هذا النوع من الرسومات، فقد كان يدفع لهنَّ مقابلاً مادّياً خلال حصص الرسم.

وكان هذا الفنان الذي يعيش منعزلاً في شقته في العاصمة ينفق بسخاء في سبيل لوحاته. وكما رسم المرأة، فقد رسم فئات اجتماعية متنوعة كالعمال والحرفيين والأطفال، وكان يُطلق عليه صفة "المستشرق الأثنوغرافي"، الذي خلّد تونس في أكثر من 600 لوحة وتخطيطاً.

واهتم روبتزوف برسم تفاصيل الأسواق التونسية وزخرفة المعمار والجليز والأسوار، وأظهر الاختلافات بين جهات البلاد من حيث طبيعة المباني والحرف والأنشطة الحياتية، وزار أغلب المقاطعات التونسية على امتداد 30 عاماً.

وعرف شمال البلاد وجنوبها، من صفاقس إلى قفصة ومطماطة وقابس.. وافتتن بجزيرة جربة، حيث كان يتصيد الضوء وانعكاساته على الشخوص والجدران والماء حوله، وأتقن ترقيم الألوان ذهنياً حسب طبيعة المكان والتوقيت، وكانت بعض رسوماته تعتمد حاسة اللمس، فلا يمكن فهم تموجات البحر ولزوجة كائناته من دون تخيل ملمسها، كذلك في مقاطعات الشمال حيث سهول سليانة والكاف وأما نابل فهي الأحمر في جميع تدرجاته بالتناظر مع الأبيض، بينما تبقى المدينة العتيقة عالماً يعتمد حاسة السمع، فلا يمكن فهم حركة السوق المرسومة من دون تخيل الضوضاء، وبالنسبة إلى الأماكن الصامتة فهي سكون تطبعه ألوان باهتة، كما اهتم برسم العادات والطباع التي اتسم أهل الجنوب بها بشكل خاص، من خلال تمازج الفرح والصرامة والحياء على الوجوه.

رسام خلدته الذاكرة الجماعية 

  • من لوحات أولغا مالاخوف
    من لوحات أولغا مالاخوف

لم ينتمِ ألكسندر روبتزوف إلى أي مدرسة فنية، وكان يرى الرسم تأملاً ذاتياً ناتجاً من أحاسيس، ولا يحتاج إلا انطباعات الفنان وكيفية استخدامه للألوان، وكان فنانا يعتبر الضوء المحرك الأساس لريشته، لذلك عشق تونس رغم سفراته الكثيرة إلى مدن أوروبية أهمها باريس، التي رسم فيها بعض اللوحات القريبة من الملصقات الإعلانية. ورغم شهرته هناك ظل محافظا على الخيط الذي يربطه ببلد تبناه فنياً، وآثر أن يدفن في ترابه في 26 تشرين الثاني/نوفمبر سنة 1949، وتحديداً في المستشفى الفرنسي في مدينة تونس، بعد إصابته بمرض السل، وكان قد اختار أن يعيش حياة بسيطة ومتواضعة، ومات وهو يحلم برسم ضوء الخريف.

وهناك عدة كتب حول مسيرته وحياته نذكر من بينها: "ألكسندر روبتزوف الرسام التونسي"، للكاتبة علياء حمزة، الصادر عن دار المتوسط. وجاك بيريز وبينوس جميلة ألكسندر روبتزوف ومدينة تونس تونس، 2010. وجاك بيريز ، الكسندر روبتزوف، تونس منشورات غوغار. تونس 2017. وأنتجت أشرطة وثائقية تناولت فن روبتزوف، وكذلك غاليري ألكسندر روبتزوف في الضاحية الشمالية في تونس.

كاندينسكي انبهر بانعكاس الضوء على اللون في تونس 

يمكن وصف رحلة الرسام الروسي فاليري كاندينسكي إلى تونس بأنها كانت فرصة لتمتلئ لوحاته بالمنحيات والخطوط والدوائر، وستنعكس هذه التجربة على أعماله التجريدية، كما حدث تماماً مع بول كلي، الذي اقتنص اهتزازات الضوء وحوّلها إلى ألوان، وبذلك صارت الشخوص مجرد نقط عاكسة للزوايا، أو ارتكازات الإضاءة في لوحاته .

من 25 كانون الأول/ديسمبر إلى نيسان/أبريل من العام1905 كانت زيارة فاليري كاندينسكي مع رفيقته الرسامة غابريالا مونتيرز، وإقامتهما في نزل سان جورج ونزل سويسرا في العاصمة تونس كفيلة بأن يرسم القيروان وسيدي بوسعيد ومدينة تونس والقصبة، ويفتتن بقبة حديقة البلفدير، حيث اكتشف أنَّ قباب روسيا التي كانت على شكل مصابيح قد صارت في تونس أكثر استدارةً، كما تفطّن إلى أن المعمار الإسلامي له هندسة مميزة مشبعة بالروحانيات، وانتبه إلى الأضرحة ومقامات الأولياء والأحياء الشعبية، كالقلالين وباب سويقة، وألعاب الأطفال وألعاب السحرة القريبة من تلك الموجودة في الحياة الروسية، لكنها تتباين معها في البناء الذهني للفضاء، كما انبهر بالفسيفساء وستتبلور مشاهداته فنياً نحو إلغاء شبه كلي للأشخاص لتتحول بدورها إلى علامات وأشكال هندسية تعبر عنها الألوان، والتي سيفسرها بطريقته التجريدية في كتاب له يحمل الإسم نفسه،"الروحانيات في الفن"، يقول فيه إنه" على الفنان ألا يلقي بالاً إلا إلى اتجاه الحاجة الباطنة، وأن يصغي إلى كلماتها من دون كلام، وحينئذ سيستخدم وسائل يعترف بها معاصروه، أو يمنعونها ويحرّمونها".

كما أقتنص كاندينسكي نعومة انعكاس النور على الماء، ليرسم مائياته بطريقة أقرب إلى تخفيف حمل الريشة من ثقل المواد المستخدمة. ومما يلاحظ لوحته "الفارس العربي"، التي تشبه تخطيطاً بعيداً وشفيفاً، يُظهر نصاعة الأبيض أمام السواد، حيث تتسيد لطخات الألوان الفاقعة. وظهرت أعماله أكثر تبسيطاً .

كانت تونس، كما أغلب مدن الشرق، نقطة يمكن تسميتها بالحج الفني الذي سحر رفاق كاندينسكي، الذي أنجز فيها حوالى 130 عملاً فنياً إضافة إلى صور فوتوغرافية التقطتها رفيقته، وسيعود إليها بعد سنوات للاستلهام من تفاصيلها.

غرام الأمكنة 

  • من لوحات أولغا مالاخوف
    من لوحات أولغا مالاخوف

رسامون من روسيا عاشوا في تونس، وكانت إقامتهم تبدأ عادة بزيارة قصيرة لتتحول إلى إقامة دائمة. ونذكر في هذا السياق ستانيسلاف مالاخوف، المولود سنة 1935 والذي تخرج من كلية تالين في أستونيا. وقد عرضت أعماله في روسيا وأستونيا ويوغسلافيا، وكانت آخر معارضه الفنية "أضواء وألوان تونسية" سنة 2015، فقد عاش في واحة قفصة على حافة عالم فارغ مقارنة بسهول بلده الممتدة، ووضع أساس فضاء الواحة جاذباً مكوناتها إلى اللوحة، واهباً إياها نظرة جمالية تتناوب بين البعد والقرب للشخوص، مبرزاً قيمتها اللونية بدمج الألوان التي تشير إلى الخصب مع مشاهد أقرب إلى الواقع، وبينما تتحول الصحراء إلى جسد مكتمل بذاته، يعاضده الصمت الذي يتلاشى مع البحر في مدن الساحل.

وكذلك أولغا مالاخوف، فهي فنانة تشكيلية بنت عالمها من التمازج بين مظاهر الحياة التقليدية الروسية بما تحمله من رموز، وبين مثيلتها في تونس حيث تحولت لوحاتها إلى تناغم بين حضارتين.