جنوباً بصحبة النبع والعصفور
العلاقة بين الجنوبي وأرضه عصية على الشرح والتفسير. كأن حبل السرة بينهم وبين التراب لا ينقطع أبداً، إما أعزاء فوق الأرض أو شهداء في باطن الأرض.
ولدتُ في بيت من حجر وطين، في قرية عيناثا، أقصى الجنوب اللبناني، على مشارف فلسطين. أذكر في فصل الربيع ينبوع ماء يتفجّر داخل البيت كلّما جاء الربيع. كانت المرحومة أمي تحفر له مجرى كي تتدفق المياه إلى الخارج. وكنت أسمع سقسقة المياه كمن يقيم على ضفة نهر صغير.
في ذاك البيت الريفي العابق بحنان الأم وغياب الأب في صقيع الغربة والمهجر، المسكون بالأنبياء والأولياء يصعدون من كفّيّ أمي المرفوعتين نحو السماء صلاةً أو ابتهالاً، كانت عصافير السنونو تبني أعشاشها داخل البيت. تستهويها البيوت الترابية لأنها تبني تلك الأعشاش بمزيج من القش والتراب والماء، فتصنع عشّاً يشبه بتكوينه البيت نفسه.
صديقا طفولتي ينبوع ماء وعصفور سنونو. لطالما رددت هذه الجملة بكثير من الحب والاعتزاز. وبالمناسبة، تكثر في قريتنا الجبلية الينابيع وعيون الماء، حتى اسمها لا يخلو من عين تدمع حيناً وتعشق كل حين. تعشق الأرض والتراب والحياة الحرّة الكريمة، قال فيها الشاعر يوماً:
على عين عيناثا عبرنا عشيةً
عليها عيون العاشقين عواكف
باكراً احتضنت فدائيي فلسطين وناصرت كفاح شعبها لأجل الحرية والاستقلال، فيها ارتقى أول شهداء المقاومة اللبنانية ضد الاحتلال الإسرائيلي شهيد الحرس الشعبي المناضل علي أيوب (25 شباط/فبراير 1972)، لها غنى مرسيل خليفة وفرقة الميادين، إليها ذهب المسرحي الكبير روجيه عسّاف ليقدّم مع أبنائها مسرحية "القانون ختم وبرنيطة"، فيها قدّم كبير آخر هو جلال خوري مسرحية "جحا في القرى الأمامية"، ومنها تخرّج فقهاء وأدباء وشعراء ومناضلون كبار.
احتلها "جيش" الهمج الصهيوني 22 عاماً وحررتها سواعد المقاومين في العام 2000. خلال عدوان تموز 2006 قدّمت عشرات الشهداء مقاومين ومدنيين، وكذلك فعلت الآن حيث ارتقت نخبة من أبنائها في مواجهة "جيش" الاحتلال، بينها وبين الشهادة عهد ووعد ألا ترضى الذل والهوان وألا تستكين لغاصب أو محتل.
أستعيدها الآن لا من باب الفخر والمباهاة، وهي تستحق، بل لأنها تمثِّل نموذجاً لقرى الجنوب وجبل عامل وامتداداً طبيعياً لقرى الجليل الفلسطيني حيث يمتزج الماء والهواء والدم المسفوك على مذبح الشهادة والتحرر.
أستعيدها وأنا في طريق العودة إلى الجنوب، أشاهد قوافل الجنوبيين العائدين إلى بيوتهم وقراهم، مسبوقين بالشوق والحنين إلى أرض رووها بدمائهم المباركة وعرق جباههم العالية. فالعلاقة بين الجنوبي وأرضه عصية على الشرح والتفسير. كأن حبل السرة بينهم وبين التراب لا ينقطع أبداً، إما أعزاء فوق الأرض أو شهداء في باطن الأرض. هكذا هم، مرّت عليهم حروب وغزوات واجتياحات همجية فما استطاعت أبداً أن تقطع حبل سرّة مع أهل الأرض والتراب.
جنوبيون يعشقون ترابهم المجبول بدماء الشهداء، وأرضهم الواقفة دوماً على خط النار، وهضابهم الحرة السمحاء، وزيتونهم المقدّس كالأنبياء، وتبغهم المبارك بالكدح والكفاح، وينابيعهم العذبة الصافية كصفاء قلوبهم التي تضخّ دوماً ماء الحياة.
***
في الجنوبِ (*)
تستلقي الشمسُ على الجباهْ،
يطلعُ الصباحُ من مناديلِ الأمهاتْ.
تستيقظُ الأرضُ في محاريثِ الفلاحينَ
وتُغنِّي النهاراتُ العتابا.
في محاريبِ الغيبِ يُقيمُ الشهداءُ الصلاةْ.
تناجي الروحُ أطيافَهم وَتُشَرِّعُ للذكرياتِ الأبوابَ.
في الجنوبِ،
يطيبُ الحبُ، الوردُ، الخبزُ، النصرُ والأغنياتْ.
ينزوي الموتُ ذليلاً خائباً، تنتصرُ عصافيرُ الحياةْ.
في الجنوبِ،
رائحةُ أنبياءْ،
وترابٌ تنحني لعناقِهِ السماءْ.
في الجنوبِ،
أَصْدَقُ ما كتبَ العربُ:
أبجديةُ نصرٍ بدماءِ الشهداءْ.
في الجنوبِ،
يجوزُ التَيَمُّمُ بالترابِ
حتى وإن حضرَ الماءْ.
(*) من كتاب الشاعر "ليلُ يديها".