بين الشاعر والمجنون!
من شدة ما صار الشِّعر بعيداً عن العامة صرنا كثيراً ما نسمع ونقرأ، ومنذ فترة غير وجيزة، مصطلح "موت الشِّعر".
نحيا زمناً باتت فيه الثقافة العميقة والجادة على هامش الحياة. أسباب كثيرة أوصلتنا إلى ما نحن فيه، منها ما هو عامّ يشمل الكوكب برمّته، ومنا ما هو خاصّ يتعلّق بظروف هذا المجتمع أو ذاك. بات الاستهلاك يطغى على كل شيء، ومنطق السوق هو السائد والمسيطر. كل ما يخاطب العقل يُنحّى جانباً لمصلحة حاجات الكائن الاستهلاكية بفعل "قيم" العولمة التي لا تقيم وزناً للفكر والأدب، لأنهما لا يصلحان أن يكونا سلعة محكومة لقواعد البيع والشراء، ولا أن يركبا موجة الرداءة التي تضرب العالم.
أحياناً يبدو الشِّعر أكبر المتضرّرين من عصر الاستهلاك، لأنه الأقل طواعية بين سائر فنون التعبير، والأكثر تمرّداً على كل مَن وما يُسلّعه ويفقده قيمته ومعناه.
لقد ولّى الزمن الذي كان فيه الشاعر لسان حال القبيلة والناطق "الرسمي" باسمها ومسطّر بطولاتها ومعاركها، بل إن كثيراً من الشعراء انكفأوا وترفّعوا عن كل ما يشغل الجماعة أو يُعبّر عنها، وانصرفوا إلى مشاغل وهموم فردية. ومن شدة ما صار الشِّعر بعيداً عن العامة صرنا كثيراً ما نسمع ونقرأ، ومنذ فترة غير وجيزة، مصطلح "موت الشِّعر". فيما تعلو أصوات عربية معلنة أن الشِّعر لم يعد ديوان العرب، وأن الرواية هي ديوانهم في العصر الحديث.
تلك مقولات قابلة للنقاش والسجال، سوف نتوقّف عندها لاحقاً، لكن ما نودّ التوقّف عنده الآن هو تلك الصورة النمطية للشاعر التي ترسَّخت في أذهان البعض، وخلاصتها أنه أشبه بالمجانين، منكوش الشعر، طويل اللحية، لا يستحمّ إلا نادراً وملابسه باليةٌ رثّة. صورةٌ تقليدية أو فولكلورية يتداولها العامة، وتكرّسها بعض البرامج التلفزيونية الهزلية، والأعمال المسرحية بما فيها أعمال المبدع زياد الرحباني الذي قدّم في مسرحية «بالنسبة لبكرا شو» نموذجاً لشاعر يردّد كلاماً مبهماً بوصفه شعراً حديثاً على شاكلة: «هوت سنونوتي على الرماد، تناثرت صوراً وأوراقَ اعتماد»، وكذلك في أعمال الفنان الكبير عادل إمام الذي قدّم صورةً للشاعر مثيرة للضحك والسخرية.
كما ساهم في صناعة تلك الصورة بعض «الشعراء» أو «المستشعرين» ممن يكتبون جُملاً لا معنى لها، عصيِّة على الفهم والتأويل بذريعة أنها شعر حديث، ما ينمّ عن فهم سطحي للشعر وللشاعر معاً، الأمر الذي جعل الشاعر محمود درويش يصرخ يوماً: "أنقذونا من هذا الهراء".
وقد أدى هذا النموذج، فضلاً عن إسهامه في تعميم صورة للشاعر شائعة وخاطئة، إلى نفور كثيرين من الشِّعر والشعراء، وابتعادهم عن قراءة الشِّعر أو ارتياد الأمسيات الشعرية. علماً أن الشِّعر لا يموت، ويبقى ما بقي الإنسان وبقيت الحياة. كلّ ما في الأمر أن أشكاله وأساليبه تتغيّر من عصر إلى عصر ومن شاعر إلى آخر.
صحيح الفنون جنون، والمبدع سواء أكان مبدعاً في الفكر والأدب أو في سواهما هو كائن غير مألوف، وغالباً غير منسجم مع العلاقات التقليدية. وفق تعريف الشاعر طلال حيدر فإن الفارق بين المجنون والشاعر أن الأول يذهب إلى الجنون ويبقى هناك، بينما يذهب الشاعر إلى الجنون ثم يعود ليخبرنا بما عاشه ورآه (!)، وبحسب الدكتور قيس كاظم الجنابي في كتابه "معجم الشعراء المجانين": "اعتقد العرب بوجود علاقة متينة بين الجن والشياطين من جهة، وبين الشعر والعبقرية والإبداع من جهة أخرى. وأن للجن أشعارها ورواتها حتى أنهم رووا الكثير من الأشعار على لسان الجن ورووا شعراً لإبليس، لأن الشعر كلام غير عادي في نظر العرب فقد عزوا قوله إلى الجن والشياطين".
ثمّ إنّ ظاهرة الشعراء الصعاليك ليست طارئة ولا جديدة، لعلها قديمة قِدم الشعر نفسه، هم أولئك الذين اختاروا الهامش رفضاً للمتن، وأعلنوا العصيان وعدم الطاعة، عبّروا عن أفكارهم وقناعاتهم ورؤيتهم للحياة شعراً وسلوكاً. نتحدث عنهم بصيغة الجمع إلا أنهم أفراد لم يستطيعوا "التقولب" ضمن جماعة، ولعل الصعلكة نفسها لا تقوم إلا على الفردية، لأنها متى صارت حركة أو تياراً صارت متناً لا هامشاً.
وللصعلكة عند العرب ما يشبهها عند سواهم، ولعل أكثر الأمثلة شبهاً بالصعلكة كما نفهمها هي ظاهرة "الهيبيز" التي شاعت وانتشرت في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، احتجاجاً على «النظام الرسمي» في مختلف تجلياته السياسية والفكرية والثقافية والفنية والاجتماعية، وعلى قيم الرأسمالية وثقافة الاستهلاك.
تلك الظواهر والحركات تفيد أن الإنسان لا يترك وسيلة للتعبير إلا ويلجأ إليها، بما في ذلك جسده ومظهره وهندامه. فالهندام والسلوك يعبّران أحياناً عن حالة ثقافية احتجاجية، لا مجرد زيٍّ أو رداء. لكن الفارق بين الصعلكة والهبّيّة أن الأولى ظلَّت حالة فردية، ولم تتطوّر إلى حركة أو تيار، فيما تحوّلت الثانية إلى حالة جماعية وانتشرت في أوساط التيارات والحركات الفنية والشبابية.
ظاهرة الشعراء الصعاليك التي شهدها العصر الجاهلي كان يمكن أن تتبلور في حركة أو تيار لو قُدِّرَ لها أن تنشأ في العصور الحديثة، لكن مفهوم الجماعة آنذاك لم يكن متحقّقاً أو متبلوراً خارج إطار القبيلة، من هنا كانت أولى علامات الصعلكة الخروج عن القبيلة، وأحياناً عليها.
المظهر ليس مجرد شكل، هو في حالات كثيرة انعكاس للجوهر. جاء في القرآن الكريم: «سيماهُم في وجوههم من أثر السجود» (الفتح 29)، وذهب معظم المفسِّرين الى أن المقصود ليس العلامة الظاهرة على الجبين من أثر السجود، بل انعكاس الحالة الإيمانية والروحية الداخلية على المحيّا، بمعنى أن ما يعتمل في أعماق النَّفْس البشرية ينعكس على الملامح والقسمات، لو وسّعنا المقولة قليلاً لقلنا إنه يتجلى في خيارات الانسان لزيّه وهندامه ومظهره العام.
من هذه الزاوية يمكننا القول إن الصعلكة المعاصرة ليست فقط موقفاً احتجاجياً على العالم، بل أيضاً حالة نفسية وشعورية تدفع صاحبها إلى هذا الخيار، وكلُّ خيار إنسانيّ جدير بالاحترام، لكن قراءة شعر الصعاليك تجعلنا نستنتج أن الموهبة هي شرط الشعر الأول لا المظهر أو الشكل، وبرهان ذلك أن بعض أشعَر شعراء العرب هم من أولئك الصعاليك الذين ضاقت الجماعة بمواهبهم ومواقفهم. فأعطونا برفضهم وعصيانهم وخروجهم على القبيلة أجمل القصائد، ومنهم: عروة بن الورد ومالك بن الريب وتأبط شراً وسواهم العشرات.
طبعاً ليست الصعلكة نموذج الشاعر الوحيد، ثمة نماذج كثيرة تتفاوت بتفاوت البشر، لكن ما نستخلصه من فهمِنا لظاهرة الشعراء الصعاليك أن إهمال المظهر ليس أمراً عبثياً ومجانياً، بل هو موقف من قيم الاستهلاك على مدار الأيام، وتعبير عن حالة فكرية نحتاج كثيراً مضامينها العميقة في عصر العولمة، حيث قيم السوق تطغى على كل ما عداها مُطيحةً بكثير من القيم الإنسانية النبيلة التي تقيس قيمة الإنسان بجوهره لا بـ "تمظهره"، إذ ثمة بونٌ شاسع بين المظهر التلقائي العفوي الذي يعكس حالة صاحبه وبين «المظاهر» الاستهلاكية الزائلة التي يظنها البعض ميزة أو مرتبة اجتماعية.
وأجمل ما في الشِّعر أنه نمط حياة وأسلوب عيش قبل أن يكون مجرد قصيدة. وهنا بيت القصيد أو مربط الفرس، إذ لا يمكن حصر الشاعر في شكل أو هيئة أو مظهر. الشِّعر هو إبداع فرديٍّ، وكل شاعر هو حالة قائمة بذاتها. ولئن أردنا توصيفاً شكلياً للشاعر، فإن أبرز الشعراء كانوا غاية في الأناقة وحُسن المظهر: عمر أبو ريشة، سعيد عقل، نزار قباني، محمود درويش وسواهم.
الخلاصة، ما من شكل نمطي للشاعر، لأنّ لكل شاعر ذائقته الخاصة ومظهره الخاص. أما "جنون" الشعراء فلا علاقة له بمظهرهم وهندامهم، بل هو بحثهم الدائم عمّا هو غير عادي وغير مألوف. النثر يقول العادي والمألوف، أما الشِّعر فيحلّق بنا عالياً حتى حين يقول العادي والمألوف، لأنه يقوله بطريقة غير عادية ولا مألوفة. ألم تقل العرب: الفنون جنون؟!