بلاد التانغو وهَوَسها بالمُستديرة: نافذة على أدب كرة القدم
"وُلدت في الأرجنتين، أرض دييغو وليونيل". ما سرّ عشق الأرجنتينيين لكرة القدم؟ وكيف أنتجوا أدباً خاصاً بها؟
الطوفان البشري والمشاهِد الجنونية الآتية من مختلف الميادين في العاصمة الأرجنتينيّة، بوينس آيرس، وجموع المحتفلين من الشعب الأرجنتيني، بهتافاتهم المُبهِجة في شوارع الدوحة، حتماً ستحرّك شيئاً ما في داخلك، كأن شغفهم ينتقل إليك، يلامس أعماقك ويجعلك في حيرة من أمرك، فتتساءل: ما سرّ هذا الجنون وهذا الشغف؟ ما الذي يدفعهم إلى شراء تذاكر سفر باهظة الثمن على رغم الأزمة الاقتصادية التي تعصف ببلادهم؟ ثم السفر في رحلة تستغرق أكثر من 20 ساعة من أجل مشاهدة منتخبهم الوطني؟ ما سرّ هذا الهَوَس؟
وأنا اسأل نفسي أيضاً: لماذا أشجّع هذا المنتخب من دون غيره وأبتهج بفوزه؟ وكيف بدأت أصلاً علاقتي به، أنا الفلسطينية التي لا يربطني شيء به، للوهلة الأولى؟ وعلى الرغم من أن التجربة الشخصية ليست جوهر هذه المادة، فإنها قد تؤكّد أن حبّنا لمنتخب ما هو شيء عابِر للكُرَة والمباريات، وثمّة روابط أخرى نتشارك فيها مع مُنتخبٍ ما أكثر من غيره، أو شخصيّات نتعلّق بها ونعلّق عليها آمالنا وأحلامنا، نحن البسطاء، سكّان ما يطلقون عليه وفق التقسيم الاستعماري الغربي: "عالمَ الجنوب".
في ذكرى دييغو أرماندو مارادونا
حبّي لهذا المنتخب هو حبّ قديم، وليس وليد الساعة، وقد يكون متوارَثاً. فعندما أعود بالذاكرة 20 عاماً على الأقل، أتذكر قلادتي السوداء التي حملت صورةً بالأبيض والأسود لوجه قائد الثورة الكوبيّة، أرجنتينيّ المولِد، تشي غيفارا؛ تلك القلادة التي اشتريتها من سوقٍ في البلدة القديمة في القدس المحتلة. وعلى الرغم من أن طفلة في عمري لا تعرف تماماً ما هو اليسار الماركسي، بالمعنى الأيديولوجي، إلّا أنني أحببت قصّة هذا البطل الذي يسكن في مكان بعيد، في الجهة الأخرى من الكرة الأرضيّة، ويدافع عن بلاده. أمّا العَلَم السَّماوي التي تتوسّطه "شمس مايو"، نسبة إلى ثورة أيار/مايو التي هبّ فيها سكّان أميركا اللاتينيّة، وخصوصاً الأرجنتين، في وجه الاستعمار الإسباني، من أجل انتزاع استقلالهم، فكان معلَّقاً لأعوام طويلة داخل بيت عمي في قرية صغيرة، اسمها "المَكِر"، شماليّ فلسطين المحتلة، وهنا كان أصل السؤال وبداية الاهتمام.
لاحقاً، بدأ يتردّد على مسمعي اسم "مارادونا"، لاعب كرة القدم الساحر، والذي أبهر الجميع، وتحدّى ظروفه الصعبة. سمعت اسمه مِراراً في أحاديث الكبار. أمّا المرة الأولى التي رأيته فيها، فكانت من خلال صورة له مطبوعة على ملابس رياضية للأطفال والشبيبة، تُباع في سوق "البعنة"؛ القرية التي وُلدتُ وكبرت فيها. وكان لافتاً، بالنسبة إليّ كطفلة، الوشمُ الذي كان يتوسّط ذراعه. يا إلهي، هذا نفسه الوجه على قلادتي، هذا غيفارا من البلاد البعيدة، فلماذا نحبّ الشخص ذاته؟
لم يكن مارادونا لاعباً رياضياً فقط، ولا الرقم الأصعب في ملاعب المستديرة فحسب، بل كان أيضاً لاعِباً سياسياً أحرَزَ أهدافاً فخمة في شِباك السياسة المحليّة والدوليّة؛ أهدافاً ولّدت لنا، نحن الفلسطينيين، شعوراً بالتضامن والنصر والحبّ المتبادل، حتى أصبح هذا الشعور متوارثاً من جيل إلى جيل، ناهيك بتصريحاته العلنيّة وتضامنه مع الشعب الفلسطيني، وعبارته الشهيرة، "أنا قلبي فلسطيني"، في أثناء وجوده في مونديال روسيا 2018، والتي يتذكّرها الفلسطينيون دوماً.
لطالما انتقد مارادونا سياسات الولايات المتّحدة، وكان أبرز انتقاداته عندما انضمّ إلى التظاهرات المناهِضة لزيارة جورج بوش، عام 2005، على هامش القمة الرابعة للأميركيتين، والتي استضافتها الأرجنتين في مدينة مار ديل بلاتا، في محافظة بوينس آيرس العاصمة.
آنذاك، ارتدى مارادونا قميصاً أسود طُبعت عليه صورة الرئيس الأميركي الأسبق جورج بوش، تحيط بها بقع من الدماء، كُتب أعلاها: "مجرم حرب". لم يكتفِ مارادونا بهذا، بل جلس إلى جانب صديقه الرئيس الفنزويلي الراحل، هوغو تشافيز، والذي عارض أيضاً سياسات الولايات المتّحدة، وصرخ مارادونا من على المنصّة: "اطردوا تلك القمامة البشرية، التي تُدعى جورج بوش".
في عام 1986، في مونديال "مكسيكو سيتي"، دفع هذا اللاعب منتخبه إلى مباراة حاسمة مع المنتخب البريطاني، وذلك بعد 4 أعوام من اشتعال الحرب بين البلدين، بسبب الصراع على جزر "فوكلاند"، كما تسمّى بالإنكليزيّة، أو "مالفيناس"، كما تسمّى بالإسبانية، وهي مجموعة جزر تبعد مئات الكيلومترات عن الشواطئ الأرجنتينية الجنوبية، لكنها خاضعة للسيادة البريطانية منذ عام 1833. أمّا الأرجنتين فتعدّها جزءاً من أراضيها.
لذلك، في عام 1982، شنّت الأرجنتين عمليَّة عسكرية هاجمت فيها جزر" مالفيناس"، فاندلعت في إثر ذلك حرب بين البلدين، انتهت بهزيمة القوات الأرجنتينيَّة وبقاء الجزر مجدداً تحت سيطرة السلطة البريطانية. في تلك المباراة، عام 1986، أحرزَ مارادونا أشهر أهدافه التي هزّت شِباك الإنكليز، وكأنه بإحرازه هذا الهدف زاد في نيران الحرب اشتعالاً، ونغّص فرحة الإنكليز بانتصارهم العسكري. الهدف الأول أثار جدلاً واسعاً، بعد أن سجّله بيده اليسرى، وبشأن ذلك عقّب مارادونا بعبارة دخلت التاريخ: "لقد سُجل الهدف بشيء قليل من رأس مارادونا، وشيء قليل من يد الله". أمّا الهدف الثاني فحقّقه بعد أن راوَغ 6 من لاعبي المنتخب الإنكليزي.
هذه القصّة سمعتها أيضاً في أحاديث الكبار، وتناقلت من جيل إلى جيل، وفحواها كيف أن الأرجنتينيين آنذاك شعروا بنوع من النصر واسترداد الكرامة بعد هزيمة قوّاتهم في الحرب مع بريطانيا، لكّني كنت محظوظة أيضاً عندما قرأتها قبل 3 أعوام، مترجمة إلى العربية في قصة "نعم لمارادونا.. لا لغالتييري"، للكاتب والصحافي الأرجنتيني، أوزفالدو سوريانو، ضمن كتاب "حكاية عامِل غُرف: مختارات من أدب كرة القدم الأرجنتيني"، ترجمة محمد الفولي، والتي أعدّها مدخلي الأوّل لجنس أدبي خاص بكرة القدم.
الهَوس الأرجنتيني بالمستديرة
كرة القدم في الأرجنتين ظاهرة ثقافية - اجتماعيّة، وجزء من الهوية الأرجنتينيّة. هي أسلوب حياة في إمكان كل أرجنتيني تبنّيه. فهي لعبة في متناول الجميع، فيبدو كأن الجميع يتساوون أمامها في سلّم الطبقات الاجتماعي. وقد يذهب البعض أكثر في المبالغة، باعتبارها ديانة أخرى يعتنقها السكان في هذا البلد. فالأغلبية العظمى تحبّها وتمارسها، كأن المستديرة روحٌ تسكن الأرجنتيني، ويمكن اعتبار المشجّعين الأرجنتينيين جيشاً شغوفاً من ملايين الأوفياء، لا يكلّ من الهتاف والغناء في المدرّجات وفي أندية كرة القدم، التي تملأ الأرجنتين، بطولها وعرضها.
وقد يستذكر البعض أيضاً تلك اللافتة الشهيرة، التي لقيت رواجاً كبيراً عبر مواقع التواصل الاجتماعي، في عام 2018، والتي حملتها مجموعة من المشجّعين الأرجنتينيين في أثناء لعبة ودّية بين منتخبَي الأرجنتين وهاييتي، كتبوا فيها: "ميسي: لأتمكّن من رؤيتك، لم أدفع ثمن الكهرباء". وقد تختزل هذه العبارة القصيرة كل هذا الشغف الكبير.
أدب كرة القدم في الأرجنتين
حقيقة أن الكرة جزء متجذّر في الهوية الأرجنتينيّة، كان لا بدّ لها من أن تدخل عالم الأدب بطبيعة الحال. فالأدب مرآة الشعوب التي تعكس التسلسلات والتطوّرات والمظاهر الثقافيّة والاجتماعية والسياسيّة للبلدان. وبناءً عليه، فإن أبرز الكتّاب والأدباء في الأرجنتين تناولوا مسألة الهَوَس والشغف بالمستديرة، من خلال أعمالهم الأدبية، لينتج من ذلك جنس أدبي خاصّ فرض نفسه في الساحة الأدبيّة اللاتينيّة، يُعرَف باسم "أدب كرة القدم".
وأدب كرة القدم، في الإمكان تعريفه بأنه نوع أدبي يجعل من الكرة نافذة على الحياة، اجتماعياً وثقافياً، وعلى العلاقات الإنسانية بين شخوصها في المدن وضواحيها والحارات الفقيرة. وعلى الرغم من أن الكرة تمثّل هذا المدخل الرئيس لتلك العوالم، فإنّها ليست العنصر الوحيد الثابت في القصّة، ولعلّ الفضاء المشترك لهذه القصص القصيرة هو المستطيل الأخضر. فداخل الملاعب تدور أغلبية الأحداث وتبلغ ذروتها. ويشمل هذا الصنف الأدبي أيضاً هتافات المشجّعين وأصولها، كما يتمتّع كتاب هذا الصنف بأسلوب "المراوغة" بالكلمات تماماً، كما يراوغ اللاعب خصمه بالكرة، ويجعلك تشعر كأنك فعلاً تجلس في أحد المدرّجات وتشاهد مباراة ما.
قد يكون من الصعب تحديد أول عمل أدبي يندرج ضمن خانة "أدب كرة القدم"، إلّا أننا يمكننا اليوم قراءة هذا الأدب المُعاصر بفضل خدمات الترجمة إلى العربيّة والولوج إلى عوالم بأكملها، من خلال بوابة كرة القدم. فقامات أدبية أرجنتينيّة بارزة أنتجت أعمالًا لتثري هذا الصنف من الأدب، أمثال أوزفالدو سوريانو وروبرتو فونتاناروسا وإدواردو ساتشيري وخوان ساستوريان.
بالعودة إلى هدف مارادونا المعروف بــــ "يدّ الله"، كان الكاتب أوزفالدو سوريانو وثّقه من خلال القصة القصيرة، "نعم لمارادونا.. لا لغالتييري"، الأمر الذي يؤكّد أن هذا الجنس الأدبي ليس إلّا انعكاساً لأحداث واقعية، وجاء في مقدّمة القصّة: "حينما قفز دييغو مارادونا أمام الحارس شيلتون، ومرر الكرة بيده من فوق رأسه، تعرض رئيس المجلس لويس كليفتون لإغماءته الأولى في لاس مالبيناس. أمّا الثانية فجاءت حينما راوغ دييغو نصف دستة من الانكليز ليسجل الهدف الثاني للأرجنتين. في الخارج، كانت رياح باردة تهب في شوارع بورت ستانلي الخاوية بينما تستمع القوات البريطانية الموجودة في القاعدة بذعر، كيف كان لشيطان نابولي الصغير أن يفسد احتفالاتهم بالذكرى الرابعة لاستيلائهم على ما يسمونه فوكلاند".
كما أن العلاقة بين الشعب الأرجنتيني والكرة اكتسبت أبعاداً وطنية بسبب الصراع على جزر "مالفيناس"، إذ كتب سوريانو أيضاً: "اصطفت في شوارع بوينوس آيرس مئات السيارات وهي ترفع رايات تطالب بإعادة جزر مالفيناس التي خسرها الجنرال غالتييري بالكامل عام 1982. ومن أعلى الشاحنات المليئة بفتية أحياء المدينة، تردد الهتاف باسم مارادونا".
بالإضافة إلى ذلك، لم ينسَ الأرجنتينيون قضيّة جزر "مالفيناس"، وما زال الجمهور الأرجنتيني يردّدها في المدرّجات، مؤكّداً تمسّكه بهذه القضيّة من خلال هتافه الشهير "موتشاتشوس"، الذي كان حاضّراً بقوّة مؤخّراً في المدرّجات والشوارع في الدوحة وبوينس آيرس:
"وُلدت في الأرجنتين، أرض دييغو وليونيل،
وأطفال مالفيناس الذين لن أنساهم أبداً،
لا أستطيع أن أشرح لك ذلك، لأنك لن تفهم".
أمّا بشأن تعلّق هذا الشعب بالمستديرة وشغفه بها، كأنهما أمر طبيعي يولد مع جينات المرء ولا حاجه أصلاً إلى تعلّمه، فوثّق الكاتب روبيرتو فونتاناروسا ذلك في مقدّمة عمله الأدبي، "مذكّرات جناح أيمن"، وقال: "وها أنا هُنا. كما كانت الحال دائماً، أتمركز جيّداً أمام خطّ التماس لأفتح الملعب. لم يعلّمني أحد المسألة. إنها أمور يعرفها المرء وحده، إلى جانب إرسال العرضيات، أو إسكان الكرة في المرمى بأيّ شكل. هذه هي مهمّة الأجنحة".
كما يأخذ النصّ بُعداً فلسفيّاً، بحيث يصوّر أن "كرة القدم" هي الحقيقة الوحيدة التي لا تتغيّر، كأنها بالفعل دين يعتنقه المرء، بحيث جاء على لسان الراوي: "لا يزال الفتية يأتون، سمعتهم يقولون أنهم سيذهبون إلى اللعب بآلات الفيديو. دائماً ما يتحدّثون عنها. تمنّيت أن أعرف ما هي. أحضروا واحدة ذات مرّة إلى النادي. كنت أسمع ضوضاء غريبة؛ أشياء مثل "بلوك"، "بلينك"، "كلون"، وبعض الاهتزازات. كانت هناك أضواء أيضاً، لكن بعد فترة لم أشعر بوجودها. يقولون إن هناك شيئاً فسد داخل الآلة. يتعلّق الأمر بوصلة لا توجد أموال كافية لشرائها. إنّها آلات حسّاسة، من تلك التي يصنعها الأميركيون. ولهذا، يعود الفتية دائماً، لأن كرة القدم هي كرة القدم. هي الحقيقة الوحيدة. لا تأتوا لي بمثل هذه الأشياء. إنّها موضة تصبح موضة ثمّ تنتهي. كرة القدم هي كرة القدم يا صديقي. كرة القدم هي الحقيقة الوحيدة، وكفى هراءً!".
حتّى الآن، لا نعرف كيف تطور هذا الصنف الأدبي، ومن الصعب تحديد نشأته، الأمر الذي أشار إليه ديفيد وود، من كليّة اللغات والثقافات في جامعة شيفيلد، في كتابه: "كرة القدم والأدب في أميركا الجنوبية"، والذي أكّد أن أول عمل موثق متّصل بأدب كرة القدم كان قصيدة تعود إلى عام 1899. لكن المؤكّد أن أدب كرة القدم بدأ ينتشر أكثر في ثمانينيات القرن الماضي، ولعلّ الأرجنتين هي صاحبة أكبر إنتاجات أدبية في هذا المجال.
في النهاية، قد يتباين الناس بين وجهات النظر بشأن كرة القدم، فلكل شخص فلسفته ورؤيته الخاصتان تجاهها، فبعضنا يجد فيها شيطاناً أكبر ووسيلة لإلهاء الشعوب عن قضاياها المهمّة، لأنها تمنحهم شعوراً بالرضا ونشوة النصر الموقّتة، أو حتّى إنّها مجرّد صناعة تدر المال على أصحابها. من جهة أخرى، يرى آخرون أنّ في إمكان أبطال الكرة الجمع بين مهارة اللعب وحمل القضايا المهمّة، وتسخير الملاعب من أجلها. فالتاريخ يعلّمنا بأنه لا يمكن الفصل بين حبّ الساحرة المستديرة والقضايا السياسية، تماماً كجمهور الارجنتين الشغوف، والصراع على جزر "مالفيناس"، أو أي جمهور آخر يحمل قضاياه إلى الملعب.