الموصل: صِلَةُ قلب!
الحكومات والمؤسسات المحلية والدولية تستطيع إعادة بناء الجسور والشوارع والمباني، أما مسؤولية إعادة بناء الإنسان ورفع منسوب الوعي والمعرفة وتنوير الفرد والجماعة فتلك أولاً مهمة المفكّرين والمثقّفين.
في الطريق الطويل من بغداد إلى الموصل تتداعى أفكارٌ، وتُستعاد صور ومشاهد مُرَّة مرّت على المدينة التي لا تزال تنفض عنها غبار الحروب وركام المعارك، في إثر تعرّضها لواحدة من أقسى التجارب والمحن بفعل سيطرة تنظيم "داعش" عليها لمدة 3 سنوات متتالية، منذ وقف على منبر مسجدها "أبو بكر البغدادي" معلناً خلافته التي لم تعمّر طويلاً، لكنها جرّت على المدينة وأهلها المصائب والويلات، قبل أن تخاض معركة تحريرها، لتبدأ من جديدة دورة حياة تليق بمدينة اعتادت النهوض مرّة تلو مرّة.
السيارة تنهب الأرض نهباً، والصور المستعادة تنهب الذاكرة والمخيّلة مسبوقة بعلامة استفهام عمّا سيكون عليه حال المدينة المستلقية على ضفتي نهر دجلة. فهذه زيارتك الأولى لها على أرض الواقع، بعد أن زرتها مراراً في كتب التاريخ ووسائل الإعلام، قارئاً عن ماضيها العريق وتعاقب الفصول والإمبراطوريات على نينوى الخصبة بسهلها المترامي وموقعها الاستراتيجي الموصل بين المدائن والبلدات.
"أُمّ الربيعين" اسمٌ على مسمّى. ففي عزّ الشتاء تستطيع أن تشمَّ عطر ربيعها الذي يمتد على فصلين كاملين، وهي المستحقة ربيعاً دائماً بعد الذي مرّ عليها واستطاع أن يدمّر الكثير من بنيانها التاريخيّ والأثري، لكنه ما استطاع اقتلاع الربيع من قلوب أبنائها المصرّين على ضخ ماء الحياة في أوردة مدينتهم.
حين تجول في أزقة المدينة العريقة والعتيقة تشعر أنها أشبه بأوردة وشرايين تتداخل في ما بينها، فيما البيوت تتكئ على أكتاف بعضها بعضاً، أو كأنها تحتضن بعضها بعضاً لفرط الأهوال التي عاشتها وخبرتها على مرّ العصور والأزمنة.
هنا المسجد النوري الكبير ومئذنته الحدباء الواهبة اسمها للمدينة كلها، هي الآن على قيد الترميم في مراحله الأخيرة، وهذا مقام النبي برجيس ومسجده الذي أعيد بناؤه بعدما سوّاه "الدواعش" بالأرض، وهناك كنائسها الأربع المعمّرة التي لم تسلم من التدمير والتخريب، لكن ورشة إعادة بنائها وترميمها جارية بروية وتأنٍ كي تظلّ شاهدة على تنوّع المدينة وغناها الروحي والإنساني.
زيارة الموصل بدعوة من "مؤسسة بيتنا الثقافية" التي جعلت بيتاً موصلياً عريقاً مقراً لها ولأنشطتها الأدبيّة والفكرية، آخذةً على عاتقها تسليط الضوء على الوجه الحضاري والثقافي والاجتماعي للمدينة الناهضة من تحت ركام الحروب والمآسي. بيت تدخله كمن يدخل كتاب تاريخ يحمل الكثير من بصمات الذين مرّوا وظلّت أطيافهم حاضرة في المكان والزمان.
في البيت الذي تُضاعِف أنسه وألفته وجوه الحاضرين تقرأ شِعراً أمام نخبة من أدباء المدينة ومثقّفيها، يغمرونك بالمودّة والترحاب، وبشغف القراءة والمعرفة، وحماسة الحديث عن موصلهم وتاريخها وما أنجبته من علماء وشعراء ومفكّرين شكّلوا ركناً أساساً من أركان المشهد الثقافي في العراق، وتوقهم لأن تُسلَّط الأضواء على مدينتهم المقاوِمة في زمن نهوضها كي يعرف العالم كيف تنتصر الحياة على الموت والخراب.
رحابة سهل نينوى لا تحظى بها فقط خارجاً في الهواء الطلق، بل أيضاً في حفاوة الاستقبال داخل جامعة النور الرابضة في قلب السهل محتضنةً أكثر من 12 ألفاً من طلاب منطقة تحاول جاهدة إعادة ترميم تنوّعها الإنسانيّ والاجتماعي المصاب بتشظّيات وتصدّعات بفعل موجات الإرهاب والتكفير والتطرّف والتمذهب التي تتمنّاها ولّت إلى غير رجعة كي يحظى هؤلاء الطلبة من شبان وصبايا بربيعِ حياة يليق بأحلامهم الطريّة النضرة.
تعود من الموصل رفقة رئيس "مؤسسة بيتنا للثقافة والفنون والتراث"، صقر آل زكريا، مشحوناً بطاقة إيجابية وبفرح غامر ويقين راسخ بأنّ عواصمنا ومدننا قادرة على النهوض مجدّداً واستعادة دورها الريادي، وبأنّ الأدب والفكر والفن مداميك أساسية في عملية النهوض وترميم الوجدان العام.
الحكومات والمؤسسات المحلية والدولية تستطيع إعادة بناء الجسور والشوارع والمباني، أما مسؤولية إعادة بناء الإنسان ورفع منسوب الوعي والمعرفة وتنوير الفرد والجماعة فتلك أولاً مهمة المفكّرين والمثقّفين الذين عليهم بذل كلّ مُستطاع مهما كان الدرب طويلاً وشاقاً.
تعود من الموصل وقد صار بينك وبينها صِلة قلب.